-
ع
+

إحياء.. تجديد.. إصلاح..

يحيى محمد

ثلاثة عناوين كثيراً ما ترفع بين الحين والآخر من قبل العلماء والمثقفين الإسلاميين وهم بصدد البحث حول الفكر الإسلامي. والعناوين تتقاطع في نقاط معينة من مدلولاتها. فالإحياء يبحث عن المساحة المعرفية المغمورة من تراثنا الفكري ليعيد إظهارها من جديد. فهو يبحث عما هو موجود ليستخلصه من وسط الركام، دون أن يضيف إليه شيئاً جديداً معتداً به.

أما التجديد فيبحث عما هو جديد ليلبّس به الفكر الإسلامي دون أن يكتفي بإخراج المغمور من المعرفة المطلوبة وسط الركام كما يفعل الإحياء، وإنما يضيف إلى ذلك محاولات التوفيق ليفسّر بها القضايا المستحدثة دون أن يغير شيئاً من صيغة الجهاز المعرفي المتوارث عن السلف. فهو بالتالي يطمح لإظهار اللياقة الفكرية لتناسب العصر وما يترتب عليها من إبراز الحلل الجديدة. هذا إذا ما استثنينا النزعات التي ترفع شعار التجديد وقصدها العلمنة أو التغريب.

في حين أن الإصلاح أمر مختلف. إذ يفترض وجود خطأ أساس في الفكر الإسلامي (التقليدي) لا بد من تسليط الضوء عليه لكشفه ومعالجته، أو العمل على إصلاحه عبر ذات الأداة الإسلامية، فيفترق بذلك عن الإحياء والتجديد. وبالتالي فهو لا يخرج عن دائرة ما يبحث فيه، رغم كونه بديلاً عن غيره، طالما أن آليات الفكر الإسلامي هي آليات إجتهادية غرضها بالدرجة الرئيسة فهم النص أو الإنشغال بفهمه.

ولا نخفي أننا من الذين يدعون إلى الإصلاح، لا الإحياء والتجديد بالمعنى السالف الذكر. إذ يمكن تلخيص المعادلة التي تدفعنا بإتجاه الأول عبر العملية المنطقية التالية:

إما أن الفكر الإسلامي التقليدي صحيح منهجياً أو لا؟..

لكن إنْ كان صحيحاً فلا أقلّ من أن تكون أجهزته التوليدية وممارساته المعرفية متفقة مع الواقع ومتسقة معه.

وحيث أنها ليست على إتفاق وإتساق مع الواقع، لذا لا بد من أن تشتمل على خطأ جذري يصيب قلب لحمتها المنهجية.

هذه هي المعادلة التي تلمسناها خلال البحوث التي نقدمها بصدد الفكر الإسلامي. وفي (جدلية الخطاب والواقع) كشفنا عن هذه الثغرة من الخطأ المنهجي، دون أن نتعلل بالعلل الوهمية، أو نبقى حالمين بنشوة ما حققه فكرنا من مكاسب معرفية كما أسداها أسلافنا من العلماء الصالحين رحمهم الله تعالى وأرضاهم. إذ لا يجدينا نفعاً أن نظل مرددين لهذه المكاسب أو نتخذها نموذجاً للعصمة والتقديس فيمنعنا ذلك من تجشم عناء البحث فيما تنطوي عليه من أخطاء وثغرات منهجية. فغني عن البيان أنه لا بد من الفصل بين تقديس الشخصية من جهة، وتقديس الفكرة النابعة عنها من جهة ثانية، فلا يلزم أحدهما الآخر. بل كل ما يمكن قوله هو أننا نقدّر الإخلاص الديني والجهود العلمية المضنية التي بذلها أجدادنا من العلماء والفقهاء وما أفادونا به من ثراء معرفي ما كان لنا أن نفعل شيئاً ذا أهمية بدونه. ونستعير هنا ما سبق أن كتبه العالم الفيزيائي الشهير نيوتن الذي قال: ‹‹اذا كنت أنا قد رأيت أكثر مما رأى معظم الرجال، فذلك لأنني وقفت على أكتاف عمالقة››[1]. فنحن نعترف بأننا نقف كالأقزام أمامهم، لكننا مع هذا نمتلك من السلاح المعرفي ما لم يمتلكوه، يكفينا من ذلك ما تحقق لنا من تطور ‹‹الواقع›› وظهور أساليب جديدة للبحث تجعلنا نعيد النظر فيما كان مطروحاً من قبل. مما يجعل خلافنا محدداً بالأساس مع الطريقة المتبعة للتفكير. فنحن وإن لم نرفض كل ما طرحه القدماء، بل لا يسعنا ذلك أبداً، كما أنّا نثمّن الكثير من عطائهم المعرفي واستكشافهم الحقائق التي ما زال أثرها عامراً حتى يومنا هذا، لكنّا مع هذا نعترض على الطريقة التي مارسوها في الفهم والتفكير، وقد تبيّن لنا اليوم أنها ليست مصدراً موثوقاً لبناء المعرفة وكشف الحقيقة، فضلاً عن أن تكون أداة صالحة للإعتماد في علاج الواقع. فهذا هو أساس ما نعترض عليه. وبالتالي ليكن القارئ الكريم على حذر من الخلط؛ حينما اعتمدنا أحياناً على ما أنتجوه من فكر نراه صائباً، وما خالفناهم عليه من طريقة أودت بهم - في المقابل - إلى الكثير من النتاج الخاطئ.

وعليه فالمطلوب فعله هو إجراء خطوة أخرى تصحح مسار الخطوة التي أقبل عليها سلفنا الصالح من قبل، وذلك بتسليط الضوء على الطابع المنهجي الذي امتازت به طريقتهم وتحديد نقاط الضعف فيها ومن ثم العمل على بناء الطريقة المناسبة التي تتفق مع مقتضيات كل من الخطاب الديني والواقع. فإتفاقها مع مقتضى الخطاب يجعلها تتمسك بطابعها الإسلامي، كما أن إتساقها مع الواقع يجنبها نكران حقائق الخلق والتكوين. والعملية ليست جمعاً بين ما يعرف اليوم بالتراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة. فالخطاب الديني ليس من التراث، بل من أبرز مكوناته. كما أن الواقع لا يمكن حصره وتضييقه بمجرد (الحداثة) والمعاصرة، بل أن هذه المفاهيم لا تخلو من المضامين الآيديولوجية. فالعصرنة والمعاصرة والتحديث والحداثة والأصالة والتراث كلها اصطلاحات تستبطن مفاهيم جديدة ‹‹معصرنة›› ظهرت حديثاً لإرتباطها بعصر ما يسمى بالنهضة الحديثة وما لابسها من احتكاك واصطدام بالواقع الغربي. وهي عادة ما تقف حائلاً دون التقويم العلمي للمعرفة، وهو التقويم الذي يفترض فيه تجنب الإنزلاق والرضوخ سلفاً للمصالح الذاتية والزمنية، كتلك التي تقوم على منطق المنفعة العصرية. فالأمر لا يحسم إلا من خلال النظر إلى الواقع في جميع أبعاده وتشكيلاته، بما في ذلك الواقع الإستشرافي الخاص بما لم يتم تحققه بعد.

من هنا كان عزمنا في مشروع (النظام الواقعي وفهم الإسلام) على التنظير لنظام جديد من التفكير المنهجي في قبال ما تعارف لدينا من نُظم الفكر الإسلامي التي أثبت ‹‹الواقع›› خللها، وهي عبارة عن نظامين معرفيين أساسيين سبق أن أطلقنا عليهما النظام الوجودي (الفلسفة والتصوف) والنظام المعياري (كما في علوم المتشرعة من الفقه والكلام وغيرهما). لذلك أبرز دور الواقع في فهمنا للقضايا الإسلامية على نحوين مختلفين؛ يتمثل أحدهما بالحقيقة الموضوعية الدالة على أن لتحولات الواقع وتجدداته تأثيراً كبيراً على تغيرات فهم النص الديني، وهو أمر لا يستند إلى منهج محدد، بإعتباره يمثل حقيقة خارجة عن الإرادة التصورية لذهن الباحث، وقد اعتبرناه من السنن الموضوعية كما في كتابنا (منطق فهم النص). أما الدور الآخر فيتمثل بتوظيف حركة الواقع ومضامينه بإتجاه فهم النص، ومن ذلك الأخذ بعين الإعتبار العلاقة التي تشدّهما ببعض منذ أن إلتقيا في عصر الرسالة أو تنزيل الخطاب الديني. وعليه فهذا الدور يستند إلى منهج محدد يقوم على الرصد والوعي والمتابعة.

والغرض من هذا البحث هو إعادة ترتيب العلاقة بين النص والواقع وسوقها في الطريق السليم، وذلك بقلب التصور التقليدي الذي يجعل من ‹‹النص›› أصلاً يُلجأ إليه لمعرفة الواقع وحل معضلاته، إلى تصور آخر مضاد يكون فيه الواقع مرجعاً يُحتكم إليه في فهم النص وحل إشكالياته. ولعل هذين التصورين المتغايرين يعبّر كل منهما بطريقته الخاصة عن شكل الأزمة وطريقة علاجها. إذ تتمثل الأزمة بحسب التصور الأول بالواقع دون أن يكون للنص فيها دور أو دخالة، على عكس التصور الآخر الذي يذهب إلى أنها محددة - من حيث الأساس - بفهم النص ومن ثم أفضت إلى أزمة واقعية.

من جانب آخر علينا أن نعترف بأن مشروعنا يواجه مشكلة تتعلق بفهم القارئ وما يتأثر به من الثقافة السائدة. فنحن نشهد هذه الأيام إطروحات تركز على الواقع في قبال النص، فأصبح الصراع صراعاً دينياً علمانياً، فمن يدافع عن النص ينتمي إلى الفصيل الديني، ومن يدافع عن الواقع ينتمي إلى الطرف المضاد، سيما وأن بعض المعالجات العلمانية لها بعض التمرس في تفكيك النص ونزع القداسة عنه برده إلى إطاره البشري والإجتماعي. فأصبح البحث الجاد والمؤسس على الواقع من منطق ديني يصعب فهمه وتخليصه من عقدة العلمنة، مثلما كان من الصعب على أصحاب النقل فهم ما يريده أصحاب الرأي، فكان يُنظر إلى كل ما يطرحه الأخيرون من ‹‹رأي›› بأنه من الأهواء والبدع. وقد حدث مثل هذا الأمر مع أصحاب النهضة الغربية الحديثة، كالذي تشير إليه الرسالة التي وجّهها الفيلسوف الفرنسي ديكارت إلى مرسين (عام 1629م) والتي اشتكى فيها من صعوبة طرح أي فلسفة جديدة دون أن تُفسّر بأنها معارضة للدين؛ بسبب الخلط بين الأخير والفلسفة التقليدية، فقال بصدد ذلك: ‹‹لقد أُخضع اللاهوت لفلسفة أرسطو إخضاعاً يكاد يتعذّر معه شرح أي فلسفة أخرى دون أن تبدو أول الأمر مخالفة للدين››[2].

ولا شك أن طرحنا يختلف جذراً عن الطرح العلماني الساعي إلى نزع القداسة عن النص وأصول الفكر الديني ولو عبر بعض التمويهات. لذلك نأمل من القارئ أن لا يقع في هذا الخطأ من الخلط، فالجذور التي تربطنا بالحقيقة الدينية هي جذور صميمة، لكن فهمنا لجزئيات هذه الحقيقة مختلف، طالما نراها لا تلغي الواقع من الإعتبار، بل توليه غالب الحق حين التعارض من غير مجاوزة أو تعال، كما سيتبين لنا خلال البحث. وبالتالي لا بد من التفريق بين المنهجين، إذ يتصف الطرح العلماني بأنه يلغي الشريعة كلياً عن التأثير والتعويل، وليس هو الحال مع المنهج الواقعي بكافة مدارسه، حتى تلك التي تغلو به إلى المدى الذي تحرّف فيه كلمات الشريعة لتنزلها منزلة الواقع. مثلما كان القدماء على العكس يحرّفون الواقع ليطابقوا عليه الشريعة. وكلاهما خطأ!

(عن مقدمة: جدلية الخطاب والواقع)


[1]جون ب . ديكنسون: العلم والمشتغلون بالبحث العلمي في المجتمع الحديث، ترجمة شعبة الترجمة باليونسكو، سلسلة عالم المعرفة (112)، 1407هـ ـ 1987م، ص70.
[2] انظر: روبرت م. أغروس وجورج ن. ستانسيو: العلم في منظوره الجديد، ترجمة كمال خلايلي، سلسلة عالم المعرفة، عدد 134، 1989م، ص131.
comments powered by Disqus