-
ع
+

مبدأ البساطة والفهم الديني

يحيى محمد 

للبساطة معنى يقصد به الاقتصاد في التفكير والاستدلال، وهو يعد اهم المبادئ المعتمدة لدى العلم المعاصر، وهو غير معني بالبحث عن الحقائق الواقعية، بل يؤخذ به لاعتبارات وجدانية ونفعية، وهي ان القضية البسيطة مرجحة على نظيرتها المعقدة حينما تتكافأ في النتائج1. ومن ذلك أن العلماء تقبلوا نظرية كوبرنيك ورجحوها على سابقتها (نظرية بطليموس) ليس لكونها اقوى احتمالاً في مطابقتها للواقع الموضوعي، بل لأنها أبسط منها تركيباً.

ويعرف هذا المبدأ ايضاً بنصل أوكام، نسبة الى وليم أوكام (المتوفى عام 1349-1350) الذي له مبدأ يقول فيه: يجب عدم زيادة عدد الكيانات بغير حاجة.. لا ينبغي الاخذ بالعلل المتكثرة بينما علة واحدة تكفي للتفسير.. حاول ان يكون عدد فروضك هو الحد الادنى دائماً.. لا تكثر في المنطق من عدد البديهات واستبعد الزيادات.. لا تتردد في تطبيق المبدأ نفسه على الميتافيزيقا، وحين تشير الى الرب من حيث هو الخالق فلا معنى لان تفترض محمولات اخرى سوى الخلق، لانها حاضرة بالفعل في طبيعة الرب2.

وعليه فكلما كان النسق غير معقد في صياغته، ومقتصداً في طريقته الدلالية، كان مرغوباً به قياساً بالنسق المعقد. فالبساطة او الاقتصاد هي إعطاء نتائج بصياغات تركيبية بسيطة.

لكن يقابل هذا المعنى الاقتصادي للبساطة قاعدة الدينامية والشمول، وهي دالة على البساطة ايضاً. بمعنى انه مثلما ان هناك معنى اقتصادي للبساطة فهناك معنى شمولي لها. وقد يعود المعنى الاخير إلى الإعتبارات الفلسفية، وأخرى إلى الدليل الإستقرائي.

وبحسب قاعدة الشمول أنه كلما كان الجهاز أو النسق أقوى دينامية وشمولية في ضمه وتفسيره باتساق عدداً أكبر للجزئيات والمصاديق، كلما كان أكثر قبولاً وموافقة مما هو أقل قدرة وكفاءة منه. فمثلاً في علم الطبيعة ان النظريات التي تمتاز بقابلية تعميمية او تأييدية أكبر للظواهر الطبيعية هي أكثر ترجيحاً وقبولاً من تلك التي يقل فيها التعميم والتأييد. فعلى ذلك كانت نظرية النسبية لانشتاين مرجحة على نظرية الجاذبية لنيوتن3.

وبعبارة ثانية انه يمكن ردّ الجزئيات المختلفة الى قاعدة تفسيرية واحدة، وهي مرجحة على كثرة القواعد والمقدمات التي يفسر كل منها بعض الجزئيات دون أن يتجاوز غيرها.

مع ذلك فان بين المعنيين السابقين نوعاً من الاشتراك وهو كونهما يحملان معنى البساطة والاقتصاد، فمن حيث التحليل ان احدهما ينطوي على الاقتصاد فحسب، والاخر يتضمن الشمول الناتج عن المؤيدات الاستقرائية، كالذي عالجناه بالتفصيل في (منهج العلم والفهم الديني).

ويتصف المعنى الاول للبساطة بانه لا علاقة له بالدليل الإستقرائي ولا بالمعنى الشمولي، ففيه توصف البساطة بأنها تحمل أقل حد ممكن من المقولات والمقدمات الإستدلالية طبقاً لما سبق عرضه حول حد اوكام. فالنظرية البسيطة هي تلك التي تكون خالية من الحشو الزائد، فهي تمتلك أقل عدد ممكن من المقولات والمقدمات مقارنة بغيرها، لهذا نطلق عليها المعنى الإقتصادي للبساطة.

اما المعنى الشمولي للبساطة فيمكن به تفسير العدد الاكبر من الظواهر الطبيعية المختلفة طبقاً لمحور محدد. فهو بديل عن رد وتفسير كل ظاهرة لسببها الخاص، وبالتالي بديل عن الاسباب المتعددة لتفسير الظواهر المختلفة. فكما يمكن تفسير الظواهر الكونية تبعاً للاسباب المختلفة المتعددة فإنه يمكن أيضاً ارجاعها إلى سبب واحد فحسب، وعندها قد يترجح الأخير على الاسباب المتعددة وفقاً للدليل الإستقرائي.

ويلاحظ ان المعنيين السابقين للبساطة مختلفان، ففي المعنى الاقتصادي تتحدد البساطة وفقاً للاقتصاد في مقولات النظرية ومقدماتها. فالنظريات بهذا المعنى يمكن ان تتكافأ في التفسير، لكن بعضها يحمل مقدمات زائدة عن اللزوم مقارنة بغيرها. وليس الأمر كذلك فيما يخص المعنى الشمولي للبساطة، اذ ما يحدد البساطة فيها هو العلاقة مع الظواهر الخارجية، حيث يتم تفسير اكبر عدد ممكن من هذه الظواهر المختلفة، وبالتالي كان المناط في البساطة يتحدد بالنتائج التي تخضع للتفسير، خلافاً للمعنى الاقتصادي المتعلق بمقدمات النظرية أو مقولاتها. وعلى هذا الأساس فالعلاقة بين المعنيين عكسية.

ففي المعنى الشمولي قد تكون مقولات النظرية متكافئة، لكن النتائج المترتبة عليها مختلفة غير متكافئة، وذلك على الضد مما قد يكون عليه المعنى الإقتصادي. إذ قد تكون النتائج متكافئة لكن مقولات النظريات ومقدماتها متباينة. ففي هذه الحالة ان مقولات المعنى الشمولي هي على الضد من مقولات المعنى الإقتصادي، وكذا النتائج. فإذا كان التكافؤ في إحداهما كان الإختلاف في الأخرى، والعكس بالعكس.

لكن من حيث التحليل يمكن ارجاع المعنى الشمولي للبساطة إلى المعنى الإقتصادي، وعند تعارضهما فالمرجح هو التعويل على المعنى الشمولي لا الاقتصادي لقيام الاول على الدليل الإستقرائي. فمثلاً تعتبر نظرية نيوتن وأينشتاين في الثقالة من النظريات التي تتصف بالوصفين المتعارضين. فنظرية نيوتن تعد إقتصادية مقارنة بنظرية أينشتاين، إذ تحتوي على ثلاث معادلات قبال أربع عشرة معادلة لنظرية أينشتاين، وبالتالي فهي أبسط منها، لكن الأخيرة في القبال تعتبر شمولية مقارنة بالأولى، لكونها تفسر ما لم تفسره النظرية الأولى، ومن ثم فهي أبسط واولى منها بالاخذ والترجيح.

***

يبقى ان نسأل عما إذا كانت هناك نظريات للفهم أبسط من غيرها، سواء بالمعنى الشمولي أو الإقتصادي ، لا سيما الأخير؟ إذ النظريات البسيطة بالمعنى الشمولي كثيرة، لكونها تعتمد على الوفرة الإستقرائية، فمثلما يجري في العلم العمل على توحيد الظواهر المختلفة ضمن تفسير بسيط موحد بالمعنى الشمولي، كتفسير الجاذبية لعدد من الظواهر الكونية، فكذا هو الحال في الفهم الديني، إذ يتقبل توحيد المظاهر اللفظية ضمن تفسير بسيط موحد وفقاً لذات المعنى المشار اليه، مثل انتزاع المقاصد العامة من القرائن المختلفة للنص. أو مثل ما نواجهه في قضية عصمة الانبياء التي وردت حولها نصوص كثيرة في القرآن الكريم، اذ كان هناك أكثر من خمسين آية تبدي ان الانبياء لم يكونوا معصومين في سلوكهم وعلمهم ومواقفهم.

وطبقاً للدليل الإستقرائي ان كثرة الشواهد الدالة على المحور المشترك تزيد من إحتمالات التوافق. فما لم يعوّل على القيم الإحتمالية المتجمعة باتجاه المحور المشترك؛ فستخضع جزئيات النص الى العزل والتفكيك، اذ يتم تفسيرها وفقاً لاسباب كثيرة بعضها منفصل عن البعض الآخر، وهو ما ينافي بساطة التفسير الإستقرائي المشترك وتجاهل للجامع المعرفي المشترك والمستنبط من معاني تلك الجزئيات، وهو ذاته يعبّر عن تجاهل لبساطة هذا التفسير مقارنة بالتفاسير الكثيرة المعقدة والتي تجعل من وجود هذا الجامع الكلي وجوداً صدفوياً رغم كثرة مؤيداته من الشواهد والمصاديق.

وبعبارة ثانية إن النظرية التي يمكنها أن تفسر أكبر عدد ممكن من جزئيات الخطاب طبقاً للمقاصد باتساق؛ تترجح على تلك التي لا تصل الى مثل هذا الحد من التفسير. فمثلاً ان نظرية الطوفي في المصلحة هي اكثر سعة من غيرها في تفسير جزئيات النص باتساق، وهي بالتالي تكون مرجحة على غيرها من هذه الناحية وبغض النظر عن النواحي الخاصة بسائر المعايير. ومثلها النظرية التي يمكنها تفسير واستيعاب أكبر عدد ممكن من الوقائع المستجدة التي لا تقع تحت حوزة النص الديني مباشرة، مما هي داخلة ضمن قضايا الانتاج المعرفي، اذ هي ايضاً تكون مرجحة على غيرها. ومن ذلك أن الجهاز الذي يمكنه تفسير المستجدات العصرية على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وغيرها، ضمن نسق متسق يتلاءم مع طبيعته الذاتية، يرجح على غيره من الأجهزة.

أما بساطة نظريات الفهم بالمعنى الإقتصادي فرغم انه لحد الان لم يرد لها ذكر أو إشارة بأي شكل من الأشكال، الا انه يمكن التمثيل عليها بنظرية الحكمة في التشريع، فقد اعتاد الفقهاء رد الكثير من الأحكام الشرعية إلى هذه النظرية، كإن يقال بأن الحكمة في وضع الجزية تكمن في أن الذل الذي يلحق أهل الكتاب ‹‹يحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام››4. ففي هذه النظرية يتم الاعتراف بمقصد الحكم وإن لم يُكتفى به، بل يضاف إليه التعبد. فالحكمة بنظر أغلب الفقهاء غير كافية للتعليل، لكونها ليست منضبطة الوصف، ومن ثم لا يعتمد عليها في تحديد الحكم الشرعي، خلافاً لعلة الحكم التي تتميز بأنها منضبطة الوصف مثلما ترد في النص الديني، وبالتالي يعتمد عليها في التعليل وتحديد الحكم. وهو ما يعني ان الفقهاء وان اعترفوا بوجود الحكمة الا انهم يضيفون إليها عنصراً آخر هو التعبد بالنص كوصف منضبط أو علة ظاهرة للحكم. وبذلك يمتلك الحكم الشرعي لديهم عنصرين؛ احدهما متقدم ومؤثر وهو علة الحكم المتمثل بالتعبد بالوصف المنضبط للنص، والاخر متأخر ولا تأثير له وهو الحكمة والقصد من الحكم. لكن في قبال هذه النظرية هناك من اكتفى بالعنصر الأخير دون اضافة الأول اليه، اي اعتمد على الحكمة أو المقصد كمنشأ للتعليل وترتيب الحكم، وهي النظرية الثانية التي ذهب إليها القليل من الفقهاء كفخر الدين الرازي في كتابه (المحصول في علم الأصول)5، والتي يمكن ان نطلق عليها نظرية الفهم القصدي في قبال نظرية الفهم التعبدي المشار إليها سلفاً.

فمثلاً يمكن رد الخلاف الفقهي الدائر حول حكم التصاوير والتماثيل إلى هاتين النظريتين، ومثل ذلك سائر القضايا التي تبدو فيها مقاصد الأحكام واضحة، رغم ان الفقهاء لا يولون لهذه المقاصد أثراً ويعتبرونها أوصافاً غير منضبطة، وبالتالي تبقى الأحكام لديهم ثابتة وفق التعليل بالتعبد باوصاف النص المنضبطة فحسب.

والخلاصة، ان النظرية التي ترى منشأ الأحكام قائماً على الحِكم والمقاصد فحسب هي أبسط من تلك التي تضيف إلى ما سبق عنصر التعبد. فالبساطة هنا هي بساطة إقتصادية.

وعلى العموم نجد هناك أنساقاً صورية تختلف من حيث بساطتها وتعقيدها في تعبيرها عن الخطاب الديني، الأمر الذي يجعلنا نرجح الأنساق البسيطة على المعقدة للوصول الى النتائج نفسها، وذلك بغض النظر عن المعايير الأخرى المتبعة. فكلما كانت المقدمات بسيطة او قليلة كلما كانت أكثر قبولاً مقارنة بالمقدمات المعقدة او الكثيرة.

ومن أمثلة ذلك أيضاً نلاحظ بأن الوجدان العقلي يستبعد فكرة تسلسل العلل الذاتية في قبال فكرة الأصل الواحد للخلق والحوادث. بل وان هذا الوجدان يتقبل فكرة تسلسل العلل العرضية، في حين ليس الامر كذلك مع العلل الذاتية رغم عدم وجود البرهان القاطع ضدها. فالوجدان يميل الى فكرة الأصل الاول بغض النظر عن التسلسل اللانهائي الذي يصدر عنه عرضياً، طالما ان الوجود محكوم بالازلية حتماً. فلدينا - هنا - ثلاثة تصورات متنازعة: احدها يقول بفكرة الأصل الاول مع بداية للحوادث، والثاني يقول بنفس هذه الفكرة لكن مع نفي البداية للحوادث. أما الثالث فلا يعترف بوجود الأصل وينظر الى جميع الحوادث والعلل بأنها متسلسلة دون ان تنتهي الى اصل محدد. ويلاحظ ان التصورين الاولين يقبلهما الوجدان لانهما ينطويان على نفس المآل من وجود اصل اول لا سابق له بخلاف التصور الاخير. لذا تجد أن الناس يتفقون على الأصل الاول سواء كان طبيعة او الهاً، في حين يصعب العثور على من يقول بوجود سلسلة لا تنتهي من العلل الذاتية. بل حتى من الناحية العلمية ان العلماء يتوقفون عند حد لبداية الحوادث الكونية، ويستهجنون البحث في توالي الحوادث الى ما لا بداية له.

وفي المحصلة انك إما ان تجد من يقول بوجود اصل مع ما يتبعه من علل عرضية متسلسلة لا نهائية كما يقول فلاسفتنا القدماء، او من يقول بوجود اصل ينتج عنه حوادث لها بداية كما هو قول الكلاميين من اهل الاديان السماوية، او من يقول بوجود حوادث تنتهي عند حد معين كما هو رأي الماديين، لكن ربما لا تجد من يقول بان علل الحوادث ليس لها اصل ولا بداية. وكأن الوجدان البشري – بهذا - لا يستوعب مثل هذا الفرض الاخير، رغم عدم وجود ما يبرهن على نفيه. أما تفسير ذلك فيعود الى ان الانسان يميل الى الفرض الذي يتصف بالبساطة ويفضله على الفرض الاكثر تعقيداً طالما تساوى الغرض بين الفرضين. اذ لا فرق بين الأصل الاول والتسلسل غير المتناهي من حيث ان كلاً منهما يشغل الوجود الازلي، لكن التعويل على فكرة الأصل الاول يعني ان في هذا الأصل من آنات الزمان الوجودي ما يمكن اعتبارها بمثابة العلل غير المتناهية. وحيث ان الفرضين يحققان نفس النتيجة بلا اختلاف؛ لذا لا حاجة من افتراض التسلسل طالما تضمنته فكرة الزمان الوجودي للأصل الاول، لاعتبارات البساطة في هذه الاخيرة قياساً بنظيرتها السابقة.

 

 

1 فيليب فرانك: فلسفة العلم، ترجمة علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1983م.

2 فلسفة الكوانتم.

3انظر: 1 Imre Lakatos, ‘Falsification and the Methodology of Scientific Research programmes’, 1969, in: The Methodology of Scientific Research Programmes. Philosophical Papers, volume 1. edited by Worrall and Currie, Cambridge University Press, reprinted 1984, p.13-14.

4 محمد بن عبد الرحمن الحطاب: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1398هـ ـ 1987م، ج3، ص380. والشوكاني: نيل الأوطار، دار الجيل، بيروت، 1937م، ج8، ص215.

5 فخر الدين الرازي: المحصول في علم الأصول، تحقيق طه جابر فياض العلواني، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية، الرياض، 1400هـ، ج5، ص389، عن مكتبة المشكاة الاسلامية الالكترونية.

comments powered by Disqus