عادة ما يقصد بالنص اللغوي بأنه كلام مكتوب، أو خطاب مدوّن. ويقصد بالخطاب بأنه قول مشافه، كالذي عليه الألسنيات الحديثة، وكما يقول بول ريكور: إن النص خطاب أثبتته الكتابة، أو أن النص مؤسس بواسطة تثبيت الكتابة[1]. وبحسب هذا المعنى يكون الخطاب سابقاً للنص من الناحية الإنثروبية. واستناداً إلى هذين المعنيين فإن النص هو نوع من الخطاب الموجّه، وأن الخطاب هو نوع من النص الموجّه أيضاً، لكن التوجيه لديهما مختلف في الغالب، فالجهة التي يستهدفها الخطاب جهة اجتماعية حاضرة ومشخصة ولها حدود، مما يجعل العلاقة بين المخاطِب والمخاطَب علاقة تواصلية حيث التفاعل والجدل والتعاطي المتبادل، وبالتالي فإنها تعبّر عن المعنى الإجتماعي بحكم هذا التفاعل المباشر. في حين أن النص يستهدف جهة انسانية لا تتصف بالحضور المباشر والتشخيص ولا بالحدود، وهي بالتالي جهة مجهولة، مما يجعل العلاقة بين الكاتب والقارئ علاقة إنفصالية نيابية غير تواصلية، أي على خلاف الحالة التي يتصف بها الخطاب. فما موجود هو الأثر المكتوب المعبّر عنه بالنص، أما صاحبه فقد غاب وانتهى. فعلاقة القارئ المباشرة إنما هي مع النص دون الكاتب، وهي قائمة على التلقي دون التفاعل والجدل، أي خلاف ما يجري في حالة الخطاب[2].
ومن حيث التكوين النفسي أو الذاتي فإن الخطاب هو أصل للنص وسابق عليه، لأن كل أثر مكتوب لا بد من ان يكون نتاج قول أو كلام، وهو ما نعبّر عنه بلغة الأشاعرة بالكلام النفسي. فمن حيث التكوين الذاتي يكون الفكر سابقاً للكلام، والكلام سابقاً للنص، خلافاً لأدبيات ما بعد الحداثة كما تتمثل في إتجاه جاك دريدا. أو لنقل إن الفكر هو علة الخطاب، والخطاب علة النص أو الأثر المكتوب. ويؤيد هذا المعنى ما يراه عالم النفس التكويني بياجيه من ان البناء المعرفي لدى الطفل سابق على اللغة كما في الحس الحركي، فالتنسيق الذي يعتمده الطفل في مستوى الفعل يشكل قاعدة تتأسس عليها البنيات المنطقية لاحقاً، وبالتالي فان الجذور المنطقية للتفكير تتقدم على اللغة زماناً[3].
ومن هذه الناحية فإن وصف الكتابات والموضوعات العلمية والأدبية والمذهبية بأنها (خطابات) هو وصف لائق ومبرر، كقولنا: الخطاب العلمي والأدبي والفلسفي والديني والإجتماعي والإقتصادي، أو قولنا: الخطاب الأشعري والمعتزلي والإسلامي والسني والشيعي، أو قولنا خطاب الصدر والقرضاوي وعلي شريعتي والجابري وحسن حنفي. وكذا أن وصف هذه الكتابات والموضوعات بأنها (مقالات) هو وصف صحيح إستناداً إلى مصدر (قول)، حيث الخطاب والمقال هما أثر ذاتي مباشر للفكر، فهما يحملان هذا الفكر المنضبط ومن ثم ينقلانه إلى الأثر المكتوب (النص) بهيئة ما نصفه من مذاهب وموضوعات مختلفة.
على ذلك جاز ان نسمي النص الديني بالخطاب لعدد من الإعتبارات، منها ما سبق أن عرفنا بأن الخطاب هو أصل النص وسابق عليه، سواء من الناحية الإنثروبية، أو من حيث التكوين النفسي. يضاف إلى أن النص الديني كوثيقة مدوّنة (المصحف القرآني مثلاً) مسبوق زمنياً بالخطاب الذي يُطلق على الكلام المشافه كما عرفنا. فأصل النص مستمد من الخطاب لا العكس. كما أن من هذه الإعتبارات هو أن الخطاب الديني باعتباره مشافهاً فإنه يشتمل على النص ويتضمن من المعاني الحقيقية ما يفتقر إليها الأثر المدوّن. إذ لا يتجرد الخطاب عن ملابساته الظرفية ومقتضياته الحالية تبعاً لتفاعله مع الواقع الذي تنزّل فيه، مما يجعله أقرب لحمل الحقيقة، خلافاً للأثر المدوّن الذي غاب عنه الواقع أو انتهى، وكل ذلك له انعكاساته السلبية على الفهم.
إذاً الخطاب هو الأصل، سواء من حيث السبق التاريخي، أو من حيث الإعتبارات الإنثروبية والتكوينية، وكذا بإعتبار المعنى الإبستيمي بحمله للحقيقة، أما النص فهو التابع والظل الذي ليس بمقدوره الكشف عن كافة تجليات الحقيقة التي يتمتع بها الأول.
ويمكن ان نستكشف مما سبق قانواناً عاماً للفهم يتلخص بحالة الافتقار التي تخص فهم النص قياساً بالخطاب او الكلام المشافه. اذ لا يمكن للأول أن يرقى الى مستوى الثاني، لمشاركة العديد من الدلالات الاخرى غير اللغوية في إفهام السامع، وهو ما يفتقر اليه النص، وبالتالي كان فهم النص أقل قدراً من فهم الكلام المشافه، وذلك عند تعادل الأحرف والجمل المستخدمة في النص والكلام، وكذا عند تكافؤ العوامل والشروط المختلفة التي قد يكون لها أثرها في الفهم، مثل أن يكون هناك تكافؤ في المستوى الذهني لدى السامع والقارئ، كذلك أن لا تشارك عوامل طارئة يمكنها أن تضفي على النص او الكلام أبعاداً اخرى جديدة قد تغير من طبيعة المقارنة المذكورة، لا سيما عند التعامل مع النص الديني كما سنعرف عما قريب.
وعلى العموم، إن في الكلام المشافه يلعب «الواقع» دوراً مضافاً في تحديد معنى الجملة التي ينطق بها المتكلم. وهو عنصر مفقود في النص المكتوب. ففي الكلام المشافه قد يُفهم المعنى في جملة واحدة وبها يتحدد المراد، وهو ما لا يحصل في النص المكتوب، حيث يساعد الواقع على فهم الجملة في الكلام المشافه، مثلما يساعد سياق الارتباط بين الجمل المكتوبة على فهم كل جملة منها.
فمثلاً اذا ما سأل سائل غريب عن منطقة معينة لإحدى المدن، كإن يسأل عن شارع الرشيد في بغداد، فقال: اين شارع الرشيد؟ ففي هذه الحالة سرعان ما ندرك معنى الجملة لمعرفتنا المجملة بحال المتكلم. فتحديد مراد المتكلم في جملته الشفهية يعتمد سلفاً على معرفتنا بهيئة المتكلم وكيفية نطقه للجملة وما يستخدمه من إيماءات وإيحاءات او إشارات تظهر على وجهه ويديه وغير ذلك من الاحوال التعبيرية والدلالية التي تكتنفه، فيُعرف مثلاً إن كان يمزح في كلامه او انه جاد يريد شيئاً يتسق مع سياق الحال الذي يكتنفه. ولا شك ان خبراتنا السابقة حول استخدام الناس للكلام تساعدنا على فهم الجملة الشفهية التي ينطق بها المتكلم.
لذلك رأى فتجنشتاين لو ان اسداً استطاع التكلم فسوف لا نستطيع فهمه، باعتبارنا لا نعيش ضمن عالمه الخاص.
وقد كان الشاطبي يرى بأن معرفة مقاصد الكلام تعتمد على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المتكلم أو المخاطَب أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وكذا بحسب مخاطبين، كالاستفهام لفظه واحد، لكن له معان متعددة كالتقرير والتوبيخ وغيرهما، ومثل ذلك الأمر، فقد يدل على معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، لذلك ليس بالمستطاع معرفة هذه المعاني إلا من خلال الأمور الخارجية وعمدتها مقتضيات الأحوال. لكن ليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة؛ فات فهم الكلام جملة أو بعضاً منه[4].
وهذا ما جعل بعض الاتجاهات الفقهية ترى في ذلك أحد مبررين للقول بانسداد الطريق للأحكام الشرعية، وهو المبرر القائل بعدم حجية ظواهر النص بالنسبة الى غير المقصودين بالإفهام، مضافاً الى دعوى البناء على عدم حجية الأخبار الدائرة في كتب الحديث[5].
هكذا يتبين دور الواقع في التعويض عن النقص المشهود في النص المكتوب. وبالتالي فان ما يؤكد عليه هذا القانون هو المقارنة بين الخطاب والنص. فالخطاب هو كلام مشافه يوجه الى سامع حاضر ضمن جملة من السياقات الظرفية، والعلاقة التي يتضمنها عبارة عن متكلم وسامع، والرابط الذي يجمعهما هو رابط التبليغ المباشر، حيث يتقصّد المتكلم بكل الوسائل الدلالية (السيميائية) المتاحة، من لغوية وغيرها، إفهام السامع مضمون كلامه. ويتصف هذا الأخير بالحضور إزاء الأول. أما النص فهو مدونة من الكلام غير المشافه، يخلو من السياقات الظرفية الحية التي يقتضيها الخطاب، لذا تتحدد العلاقة فيه بين طرفين مختلفين عما سبق، هما: صاحب النص (المؤلف) والقارئ. اذ تتميز العلاقة بينهما بأنها غير مباشرة، او أنها ليست حية متفاعلة كما هي الحال في العلاقة الاولى للخطاب، فهي تفتقر الى السياق الظرفي الجامع بين الطرفين. والطرف الذي يقصده صاحب النص هو قارئ غير محدد بزمن او مكان، خلافاً للقصد الوارد في الخطاب، باعتبار أن المتكلم يقصد المستمع الحاضر أساساً، ولولاه ما كان للخطاب أن يظهر، ولا كان له جدوى ومعنى، ولتحولت وسيلة التبليغ مما هي خطابية الى نصية باعتبارها تحقق الهدف من ايصال الرسالة المطلوبة الى الطرف الآخر، وهو القارئ، ولو لم يكن معاصراً لصاحب النص.
لا شك أن النص لا يؤدي ذات المعنى الذي يؤديه الخطاب، فمن الناحية السيميائية أن ما يفاد منهما من دلالات ليست متطابقة، حيث يظل النص، بما يعبر عن مدونة، ناقصاً مقارنة بالخطاب، فمما يمتاز به الأخير هو الجمع بين أمرين: كلام مشافه مع واقع حي متفاعل، في حين يتصف النص بالتجريد باعتباره محولاً من المشافهة الى الكتابة، وبالتالي فانه لا يحتفظ بالواقع الحي الذي يقتضيه الخطاب. ومع أن هذا الأخير موجه الى مخاطبين حاضرين او سامعين محددين، وان النص موجه الى قراء غير محددين، لكن بفضل ما يمتاز به الخطاب من التشكيلة المزدوجة للكلام المشافه والواقع فإن ذلك يجعله يحمل دلالات عالية للمعنى الحقيقي، خلافاً لما عليه النص، فحيث انه مجرد عن الواقع الحي فذلك يجعله حاملاً لدلالات ناقصة من المعنى الحقيقي، اي ذلك المعنى المعبر عن حقيقة النص كما هو، او كما يريدها صاحبه او المؤلف. لذلك يأتي التعويض عن هذا النقص الطبيعي بما تقوم به (عين القارئ) الفاحصة او الموضوعية من اصلاح لكل ما يصادفها من اختلال في النسق الدلالي؛ كمحاولة منها للتقرب من المعنى المقصود، وهو المعنى الذي تتلقاه الأُذن مباشرة وبمساعدة العين الرائية لا القارئة. وهنا نفهم لماذا تتعدد القراءات وتتكثر، فلولا وجود ذلك النقص من البعد عن حقيقة المراد لما تكثرت القراءات والتأويلات، وكلما كان النص أكثر غموضاً وعتمة كلما استفاض بالقراءات والتأويلات، أي كلما كانت ذاتية القارئ تلعب فيه دوراً اكبر مقارنة بالنصوص الواضحة. لذلك كان الخطاب المشافه وبفضل ما يحمله من عناصر حية مساعدة للفهم لا يحتاج الى البحث المتزايد من تعدد الفهم والتأويلات مقارنة بما عليه النص المكتوب.
فالفهم القائم على النص هو فهم ضعيف مقارنة بذلك القائم على الخطاب، وإن كان في القبال أن النص يتمتع بالإنفتاح على القرّاء والأجيال بلا حدود، حيث لم يعاصروا تلقياته وتجلياته المباشرة عبر الخطاب، وهو ما يرضي أصحاب النزعات التأويلية والرمزية، كما ويرضي أصحاب النزعات الأدبية وفن القراءة والتلقي والتفكيك. أما الذين يبحثون عن المعنى المطابق والقصد الموضوعي عبر اللغة وسياقاتها وقرائنها الداخلية والخارجية فإنهم يدركون بأن النص في هذه الحالة لا يفي بالمطلوب كما يفيه الخطاب، وبالتالي كان الأخير مفضلاً عندهم قياساً بالنص.
هكذا إن الخطاب هو قول يتصف بسياقين: دلالي وظرفي، وهو من هذه الناحية يختلف عن النص الناجز الذي يختص بسياق واحد فقط هو السياق الدلالي، بإعتباره يتجرد من السياق الظرفي وإن دلّ عليه أحياناً. ومن هذه الناحية يكون الخطاب متضمناً للنص، وأن النص يشكل جزءاً من الخطاب. كما من هذه الناحية جاز للخطاب أن يتحول إلى نص من دون عكس. والخطاب ما أن ينتهي إلا ويفقد سياقه الظرفي، فوجوده ملازم لهذا السياق، وهو ما يهبه حيوية ودلالة أعظم من تلك التي للنص، فهو الأصل الحامل للحقيقة. لكن ما يعوّض النص عن هذا الضعف من الحيوية والدلالة هو إنفتاحه على التأويل أو (الهرمنوطيقا) بما لا يقارن مع الخطاب، وهو ما يفتح عليه باب ما يسمى «فائض المعنى». وبعبارة مجملة، يتميز الخطاب عن النص بشموليته وحمله لدلالة الحقيقة بضبط وإتقان، خلافاً للنص ذي البعد الضيق، لهذا إحتاج إلى دلالة التأويل والهرمنوطيقا.
بهذا الاعتبار فإن نص القرآن لا يعبر تعبيره الكامل عن الخطاب القرآني المنزّل. او أنه طبقاً لقانون الافتقار – المشار اليه - يكون الأخير أكثر غنى من الأول. لكن مع ضرورة أخذ اعتبار ما ذكرناه من شروط التكافؤ، والتي منها ما قد تؤثر به بعض العوامل الطارئة لحرف القانون. فالنص الديني خلافاً للنص البشري قد يتضمن أموراً علمية كانت مجهولة لدى السامعين عند تنزيل القرآن المشافه، في حين اصبحت معلومة لدى قرّاء القرآن المدوّن. وهذا ما يجعل الأخير اغنى من حيث الفهم – ضمن هذه الحدود – مقارنة بالأول. وهو أمر لا يتعارض مع ما ذكرناه من قانون، باعتبار أن هذا الغنى يحصل تبعاً للأمور العارضة التي قد تلوح النص المدوّن كما قد تلوح الكلام المشافه. كما أن الكلام المشافه يستلزم كثرة من الدلالات المختلفة، خلافاً للنص، بمعنى أننا حتى لو أضفنا الدلالة العلمية الى النص، وهي من الأمور العارضة كما قلنا، فإن ذلك لا يضيف الا دلالة واحدة الى الدلالة اللغوية، وهي لا تكافئ تعدد الدلالات في حالة الكلام المشافه. يضاف الى أن نسبة تأثير هذا الواقع – العلمي – على غنى القرآن المدوّن هي قليلة جداً مقارنة بتأثير الواقع الحي على غنى القرآن المشافه. وبالتالي فالإفتقار المتعلق بالنص المدوّن يبقى كما هو، سواء أخذناه بشروطه القانونية الآنفة الذكر، او حتى مع أخذ اعتبار ما لاحه من طارئ علمي.
لكن في جميع الأحوال إن الدلالات الإضافية، سواء في حالة الكلام المشافه أم النص هي دلالات عائدة الى >الواقع<. فهذا الأخير يؤثر في فهم الخطاب المشافه بنحو التلازم الذاتي، كما أنه يؤثر في فهم النص المدوّن – او حتى المشافه - بنحو طارئ.
على أن هناك أبعاداً اخرى لظاهرة الإفتقار النسبي الخاصة بالنص الديني المدوّن. فحينما تحوّل القرآن المشافه الى كتاب مدوّن أخذ يحمل تسلسلاً آخر لا تبدو الارتباطات فيه واضحة المعنى او الاتساق، سواء من حيث سوره او حتى بعض آياته. وقد اختلف العلماء حول الكيفية التي جرت وأدت الى ترتيبه بالشكل الذي نراه. وقيل إن جمع القرآن (المدوّن) كان على ضربين: أحدهما تأليف السور؛ كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين – أي ما يزيد على المائة آية او يقاربها -، وهو الضرب الذي تولّته الصحابة، وأما الجمع الآخر، وهو جمع الآيات في السور، فهو توقيفي تولّاه النبي (ص) بنفسه[6]. لكن من الناحية الدلالية ولّد هذا الترتيب بعض المشاكل، فلو اقتصرنا على وضع الآيات نجد أن بعضها جاء في أمكنة هي ليست أمكنتها الحقيقية. فقد يكون الأصل لبعض الآيات منتمياً الى وضع محدد من سورة معينة؛ لكننا نجدها في النص المدوّن ضمن سورة اخرى مختلفة، او ضمن وضع آخر مختلف من نفس السورة. او يكون الأصل الخطابي للآية مكياً؛ لكننا نجدها ضمن سورة مدنية، وكذا العكس.
فمثلاً إن آية التبليغ ((يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من النّاس إنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين))[7]؛ جاءت ضمن سورة المائدة من النص المدوّن للقرآن، لكنها بحسب الحقيقة الخطابية تقع في موضع آخر مختلف، كما يدل على ذلك معنى الآية وسياقها الدلالي وما يحيط بها من آيات. لهذا اعتبرت لدى عدد من المفسرين بأنها من الآيات المكية رغم وجودها في سورة مدنية هي من أواخر السور، اذ تبدي الآية بأن النبي كان مأموراً بإبلاغ ما أُنزل اليه للناس، وهو أمر يكون في بداية الرسالة الدينية لا نهايتها، لذلك يتوجب كون الآية مكية لا مدنية. كما اعتبر عدد آخر من العلماء أن الأصل الخطابي للآية جاء قبل آية إكمال الدين مباشرة طبقاً لبعض الروايات، فبحسب هذا التصور أن للآية علاقة بإبلاغ ولاية الأمر من بعد النبي ضمن حادثة ما يُعرف بالغدير. مع أن آية إكمال الدين هي ايضاً واردة ضمن سياق دلالي مختلف كلياً عما يبدو من آية التبليغ، ومن الناحية السيميائية يصعب الجمع بين السياقين، اذ تنص هذه الآية بقوله تعالى: ((حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلا ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطرّ في مخمصة غير متجانف لإثم فإن اللّه غفور رحيم))[8].
وبهذا التمايز بين النص والخطاب أصبح القرآن المدوّن عبارة عن تشكيلة من المعاني هي غير تلك التي كان عليها القرآن الخطابي ضمن تفاعله وجدليته مع الواقع. فمن الناحية الدلالية يقيم القرآن الخطابي هذه العلاقة مع الواقع الحي، الأمر الذي يجعله يرسم صوراً واضحة ومحددة القصد والمعنى؛ طبقاً لهذا الارتباط الذي أقل ما فيه انه يشير الى الواقع مباشرة، لذلك جرى التعبير عن القرآن بأنه بيان للناس ((هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتّقين))[9]، وانه تبيان لكل شيء ((ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء))[10]، فهو بيان وتبيان باعتباره قرآناً مشافهاً، بمعنى ان من السهل على الناس الذين سمعوا القرآن وتفاعلوا معه أن يفهموا مقاصده ومعانيه، لا سيما انه نزل باللغة التي كانوا يتخاطبون بها. في حين ليس للنص او القرآن المدوّن هذه السمة المميزة في الخطاب، فالنص إما انه لا يشير الى الواقع كلياً، او انه يشير اليه “ميتاً”، وهو حتى في هذه الإشارة لا يتضمن تحديد طبيعة ما عليه بالضبط بكل ملابساته الاجتماعية والطبيعية، كما أن معاني اللغة التي كان يستخدمها أخذت تتغير كثيراً عبر القرون والأجيال، وكل ذلك له انعكاساته على فهم النص وتعدد معانيه وحاجته الى القراءات المتعددة.
ونكرر هنا ما قاله المفكر الصدر بأننا لن نفهم النص الديني «الا كما نعيشه الان، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، وإستبطان بيئته التي كان من الممكن ان تلقي عليه ضوءاً».
وطبقاً لما سبق أن نسبة ما يمكن ان يؤديه النص من دلالات كشفية معبرة عن المعنى الحقيقي المقصود هي نصف ما يقدمه الخطاب او أقل من ذلك. فاذا كان الخطاب يمنحنا نسبة دلالية معبرة عن هذا المعنى بما يقارب ثمانين بالمائة مثلاً؛ فإن ما يقدمه النص من هذه الدلالة هي أربعين بالمائة أو أقل. وهذه النسبة العددية هي للايضاح، وإلا فأي نسبة تطرح بهذا الصدد هي نسبة خاطئة. اذ لا يمكن وضع مقارنة رياضية بين ما يؤديه الطرفان من كشف دلالي، طالما أن الخطاب يتضمن امرين غير متماثلين، هما الكلام المشافه والواقع، خلافاً للنص الذي يعبّر عن الكلام المجرد او المدوّن.
وبعبارة ثانية ان النص هو مجرد كلام يخلو من الواقع، في حين يقتضي الخطاب التفاعل مع الواقع المباشر، فهو بالتالي يزيد على النص بهذا الواقع، وحيث أن هذا الأخير هو من عالم آخر غير الكلام المجرد او النص؛ لذا لا يمكن المقارنة بينهما من حيث التأثير على الكشف الدلالي رياضياً.
لكن مع هذا يمكن ان نصيغ الفارق بين النص والخطاب رياضياً كالتالي:
السياق اللفظي ← النص
السياق اللفظي + سياق الواقع الظرفي ← الخطاب
ومن حيث التعويض ستكون النتيجة كما يلي:
النص + السياق الواقعي ← الخطاب
وبحسب التعبير الرمزي فان:
ن + ع ← خ
حيث الرمز (خ) هو الخطاب، والرمز (ن) هو النص، والرمز (ع) هو السياق الواقعي.
وبتعبير رمزي آخر تتخذ العلاقة بين الخطاب الديني والنص شكلاً مناطاً بالقرآنين المشافه والمدون كالتالي:
القرآن المشافه = القرآن المدون + السياق الواقعي
يضاف الى ما سبق هو أن التسلسل الوارد في النص (القرآني) لم يكن ذاته التسلسل الطبيعي الذي ورد في الخطاب، فالنص بهذا لا يعكس حقيقة ما عليه الخطاب، ومن ثم فإن ذلك يضعّف من الكشف الدلالي الخاص بالأول مقارنة بالآخر. وبالتالي لا يصح تقدير الكشف الدلالي للمعنى، ولا يمكن أن يصح، الا طبقاً للاعتبارات الكيفية والنسبية.
***
هكذا يتبينبأن للقرآن معنى عاماً يشمل النص المدوّن والخطاب المشافه، او قل بأن هناك قرآناً مدوناً وقرآناً مشافهاً. فقد كانت آيات القرآن تنزل مشافهة ثم تدوّن، والأصل هو القرآن المشافه، وقد قال الله تعالى: ((لا تحرّك به لسانك لتعجل به، إنّ علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه، ثمّ إنّ علينا بيانه))[11]. وكان القرآن المشافه ينزل بشكل متفرق بالتدريج، ولم ينزل دفعة واحدة، وكما ورد في الذكر قوله تعالى: ((وقرآناً فرقناه لتقرأه على النّاس على مكث ونزّلناه تنزيلاً))[12]، وقوله: ((وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاً))[13]. وكثيراً ما يعبّر (القرآن الكريم) عن القرآن بالكتاب، حتى وهو في حالة التنزيل، كما في قوله تعالى: ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً))[14]، وقوله: ((وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون))[15]، وقوله: ((أولم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمةً وذكرى لقوم يؤمنون))[16]... الخ. وقد يتبادر للذهن بأن القرآن مكتمل ومخطوط، مع أن اللفظ ورد في العديد من السور المختلفة، بما فيها السور المكية، أي قبل إتمام نزول الآيات وتدوينها كلياً، وبالتالي فليست هناك ممانعة من التعبير عن القرآن بالكتاب رغم أنه لم يكتمل بعد. فحتى لو افترضنا أنه قد أُنزل على صدر النبي دفعة واحدة، فإنه لم يخرج للناس الا متفرقاً بالتدريج طوال السنين الثلاث والعشرين سنة من البعثة النبوية. كما لا توجد ممانعة من التعبير عنه بالكتاب رغم انه كان وحياً مشافهاً لم يكتمل ولم يتحول بعد الى صحف متفرقة، فلا يوجد أدنى دليل يشير الى كتاب مخطوط منزل بالمعنى الذي نفهمه. ويبدو أن التعبير بالكتاب على الوحي المشافه المنزل وارد استعماله حتى من جهة ما يدل عليه القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ((وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ يستمعون القرآن فلمّا حضروه قالوا أنصتوا فلمّا قضي ولّوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم))[17]. فقد يقصد بالكتاب هنا بمعنى الشيء المنظوم، ولو لم يدوّن، وكما قال الراغب الأصفهاني في (مفردات ألفاظ القرآن) بأن الأصل في الكتابة: النظم بالخط لكن يستعار كل واحد للآخر، ولهذا سمي كلام الله - وإن لم يكتب - كتاباً كقوله تعالى: ((آلم، ذلك الكتاب))[18]، وقوله: ((قال إني عبد الله آتاني الكتاب))[19]. والكتاب في الأصل مصدر، ثم سمي المكتوب فيه كتاباً، والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه، وفي قوله: ((يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء))[20]؛ فإنه يعني صحيفة فيها كتابة، ولهذا قال تعالى: ((ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس...)[21].
هكذا يتبين بأن القرآن المشافه هو الأصل، وهو ما يمثل الوحي بكل ما يتضمن من تنزيل أصيل لا اجتهاد فيه. أما القرآن المدوّن فهو مستنسخ عن الأول مع فقده للكثير من الدلالات والإيحاءات، ومع ما تضمنه من اجتهاد جعله لا يحتفظ بالوحي المتأصل في الأول، فعلى الأقل إن ترتيب السور في القرآن المدوّن قد جرى بفعل اجتهادي، وهو لا يطابق ما كان عليه التنزيل في القرآن المشافه. لهذا كان للواقع دور عظيم في تيسير فهم القرآن عندما كان مشافهاً. ولذلك دلالة أخرى، وهي أن وحي القرآن قد استهدف – أساساً - المجتمع الحي الذي تنزّل فيه؛ بكل ما يحمله من خصوصيات وسياقات تاريخية، مما جعل العلاقة بينه وبين الواقع علاقة تأثير مباشر، أما بعد غياب هذا الواقع فلم يعد للوحي تلك العلاقة من التأثير المباشر. بل يمكن القول إن التحول والتغيير قد أصاب الطرفين، فلم يعد الوحي كما كان من قبل بعد أن تحول الى قرآن مدوّن، كما لم يعد الواقع هو ذاته الذي قصده الوحي بالتنزيل والتأثير. لذلك كان لا بد من العمل بالفهم المجمل والمقاصد التشريعية في الأحكام استناداً الى مبدأ (النمذجة)، وهو اعتبار الأحكام الشرعية نموذجية لا مركزية، كما فصلنا الحديث عن ذلك في كتابنا (فهم الدين والواقع)[22].
وقد يتصور البعض ان مبدأ النمذجة فكرة غربية كتلك التي طرحها فيلسوف العلم توماس كون والمعبر عنها عربياً بالنموذج الارشادي او البرادايم، مع ان بين الفكرتين اختلافاً كبيراً، ففكرة البرادايم موضوعة ضمن تنافس لعدد من النظريات، حيث تكون بعضها في وقت ما نموذجاً ارشادياً يؤثر في الاتجاه العلمي والنظري، وهي تستمر حتى يأتي اليوم الذي تأتي غيرها لتحل محلها وهكذا.. اما مبدأ النمذجة فهو لا يتعلق بنظريات الفهم ضمن الاطار المتعارف عليه، وليست هناك نظرية تتصف بالنمذجة بهذا المعنى، بل هو وصف للدين التشريعي ذاته، لذلك تكون الصفة فيه لازمة بحسب هذا المنظار غير قابلة للزوال او التحول الى اخر كما يحصل في حالة البرادايم الغربي. فمفهوم الارشاد في النمذجة قريب الصلة بما طرحه الفقهاء احياناً من كون بعض الاحكام ارشادية وليست الزامية. مع ذلك فان في الفهم الديني ما يقابل المعنى المتعلق بالنظريات العلمية مثل فكرة ولاية الفقيه المطلقة التي تتأثر بها الكثير من الافكار والنظريات الفقهية ضمن الدائرة الشيعية كالتي تحدثنا عنها في دراسة مستقلة.
[1] [1] بول ريكور: من النص الى الفعل، ترجمة محمد برادة - حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، الطبعة الاولى، 2001م، ص106 و105.
[2] يلاحظ أن المعنى اللغوي للخطاب هو أقرب إلى معناه الإصطلاحي ودلالته المعنوية، خلافاً للمعنى اللغوي للنص؛ فهو بعيد عن معناه الإصطلاحي ودلالته المعنوية. فكما ذكر إبن منظور في (لسان العرب) أن معنى النص لغوياً هو رفع الشيء، فنص الحديث ينصّه نصاً هو بمعنى رفعه. كما ذكر بأن أصل النص هو بمعنى أَقصى الشيء وغايتُه، ثم سمي به ضربٌ من السير سريع. قال الأَزهري: النص أَصلُه منتهى الأَشياء ومَبْلغُ أَقْصاها، ومنه قيل: نصَصْتُ الرجلَ إِذا استقصيت مسأَلته عن الشيء حتى تستخرج كل ما عنده. وقال إبن الأعرابي بأن النص هو الإِسناد إِلى الرئيس الأَكبر، والنص هو التوقيف، كما أنه التعيين على شيء ما، ونص الأمر شدته. أما المعنى اللغوي للخطاب فهو مراجعة الكلام، وخاطبه بالكَلام مخاطبة وخِطاباً، وهما يتخاطبان. قال الليث: الخطبة مصدر الخطيب، وخَطَب الخاطِبُ على المنبر، واخْتَطَب يخْطُب خَطابةً، واسمُ الكلام: الخُطْبة (إبن منظور: لسان العرب، انظر مادة: نصص، ومادة: خطب، موقع الباحث العربي الإلكتروني http://www.baheth.info). وهذا هو المعنى الذي شهدت عليه آيات قرآنية عديدة، مثلما جاء في سورة (ص)، فكما قال الله تعالى: ((وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)) سورة ص \20، وقال: ((إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)) سورة ص \23.
[3] الابستمولوجيا التكوينية، ص38 و40.
[4] الموافقات، ج3، ص347.
[5] ابو القاسم الخوئي: التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الاجتهاد والتقليد، تحرير الميرزا علي الغروي التبريزي، مقدمة عبد الرزاق الموسوي المقرم، مطبعة الآداب، النجف، ص96.
[6] الزركشي: البرهان في علوم القرآن، خرج حديثه وقدم له وعلق عليه مصطفى عبد القادر عطا، دار الفكر، الطبعة الاولى، 1408هـ ـ 1988م، ج1، ص299. وجلال الدين السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص216.
[7] المائدة/67.
[8] المائدة/3.
[9] آل عمران/138.
[10] النحل/89.
[11] القيامة/16ـ19.
[12] الإسراء/106.
[13] الفرقان/32.
[14] الكهف/1.
[15] النحل/64.
[16] العنكبوت/51.
[17] الأحقاف/29ـ30.
[18] البقرة/1ـ2.
[19] مريم/30.
[20] النساء/153.
[21] الأنعام/7. انظر: الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، دار القلم، دمشق، عن شبكة المشكاة الاسلامية الالكترونية www.almeshkat.net (لم تذكر أرقام صفحاته)، ج2، مادة (كتب).
[22] انظر الفصل الأخير من كتاب فهم الدين والواقع.