يحيى محمد
بحسب المنطق الأرسطي فإن هناك ثلاثة مبادئ قبلية (عقلية) لعلاج مشاكل الإستقراء، أولها مبدأ السببية العامة كمبدأ ضروري، وهو مبدأ عام، حيث مفاده ان اي ظاهرة تحدث تجعلنا نعتقد بوجود سبب ما أدى إلى حدوثها. وثانيها مبدأ (الإتفاق والصدفة لا يتكرران أكثرياً ولا دائمياً)، حيث رأى المنطق الأرسطي أنه مبدأ عقلي يكشف من خلاله السببية الخاصة. فمثلاً لو كانت العلاقة بين الحرارة وتمدد الحديد علاقة صدفوية غير لزومية لما تكرر الإقتران بينهما خلال كل المشاهدات الملحوظة أو اغلبها. فالصدفة إذا حدثت، إنما تحدث بشكل نادر أو قليل. أما المبدأ الثالث فهو التناسب أو الانسجام القائم على السنخية بين العلة والمعلول، وهو ينص على أن الحالات المتشابهة تؤدي إلى نتائج متماثلة. فمثلاً لما كانت قطع الحديد المختبرة تتشابه مع قطع الحديد غير المختبرة، فلا بد ان تتماثل النتائج عندهما، فكما ان الأولى قد تمددت بالحرارة، فإن الأخرى لا بد أن تتمدد بها أيضاً، طالما انها تشابه القطع الأولى المختبرة.
فهذه هي حلول المنطق الأرسطي للمشاكل التي يتضمنها الدليل الإستقرائي، وقد عرضها المفكر الصدر للنقد ضمن نقطتين رئيسيتين كما يلي:
أولاً:
بحسب وجهة نظر المفكر الصدر فإن الدليل الإستقرائي لا يحتاج مطلقاً إلى المصادرات التي افترضها المنطق العقلي ومنه الأرسطي. فهو لا يحتاج إلى إفتراض مسبق لمبدأ السببية العامة، كما لا يحتاج إلى إفتراض مبدأ التناسب المستنتج من المبدأ السابق. وهو أيضاً لا يحتاج إلى إفتراض مبدأ ‹‹عدم تكرر الصدفة باستمرار››. فالإستقراء في غنى عن كل هذه المبادىء. بل أكثر من هذا اعتقد الصدر أنه يمكن الإستدلال على جميع هذه المبادىء بطريقة الدليل الإستقرائي. فعلى الرغم من إيمانه بالطبيعة العقلية لجملة من المبادىء، فقد اعتقد بإمكان الإستدلال عليها إستقرائياً.
وهذه من المفارقات الكبيرة بين المنطقين الأرسطي والصدري. إذ من المعلوم ان المنطق الأول يعتبر عملية الإستدلال على القضايا العقلية بالطريقة التجريبية تنطوي على استحالة ذاتية، بإعتبار أن تلك القضايا تتضمن صورة الضرورة التي لا تخضع لمقاييس التجربة والإستقراء.
وفي المقابل اعتقد المفكر الصدر ان بالإمكان إثبات جميع القضايا العقلية أو القبلية، عدا مبدأ عدم التناقض والمصادرات التي يحتاجها الدليل الإستقرائي. وقد طبق هذه المحاولة على إثبات مبدأ السببية عن طريق حسابات الإحتمال، وخلاصتها هو انه لو قمنا بعدد كبير من التجارب الناجحة التي تكشف لنا عن وجود إقتران مستمر بين ظاهرتين معاً، لكان يمكن لنا أن نجمع قيماً إحتمالية متزايدة لصالح السببية، إذ لو لم تكن إحدى الظاهرتين مرتبطة بسبب، لكان إقترانها مع الظاهرة الأخرى صدفة في كل تجربة نقيمها، ولا شك أن هذه القيمة الإحتمالية تأخذ بالتناقص أكثر فاكثر كلما ازدادت التجارب الناجحة - أي التي يتحقق فيها الإقتران بين الظاهرتين -. واذا استطعنا ان ننمي قيمة إحتمال السببية إلى اقصى حد ممكن، فإن بالإمكان إفتراض حالة اليقين كمصادرة قابلة للتبرير والتفسير. فهذه هي خلاصة إثبات مبدأ السببية بما يتضمن الضرورة العقلية. مع انه من الناحية المنطقية يظل هناك إمكان لوجود بعض الوقائع التي قد لا تتفق مع ذلك المبدأ. وحالة الإمكان تستمر حتى لو استطعنا ان نقيم إستقراء كاملاً وتاماً لجميع الوقائع الموجود في العالم. إذ في هذا الفرض سنحصل على نتيجة تقول ان هناك موافقة بين الواقع وبين المبدأ العقلي. أما الضرورة فلا سبيل لإثباتها، لأن موافقة الواقع شيء، وضرورة الموافقة شيء اخر. فلهذه الأخيرة بعدها العقلي، بينما تتضمن الموافقة بعداً واقعياً فحسب.
وبعبارة أخرى، ان الإحتمالات القبلية لعلاقات الظواهر لا تنحصر فقط ضمن التقسيم الثنائي القائل انها إما ان تكون ضرورية السبب، أو هي من غير سبب اطلاقاً، فهناك إحتمال آخر يتعلق بتفسير هذه العلاقات طبقاً لما نطلق عليه الانشداد، فهي لا تخضع لمقولة الضرورات السببية، في الوقت الذي تحافظ فيه على مقولة السببية بالمعنى المجرد عن الضرورة. وعن طريق الإستقراء يمكننا ان نضعف ونخفض قيمة إحتمال كون تلك العلاقات تخلو من مطلق السببية، حتى نصل إلى حالة نفي هذا الإحتمال عن طريق المصادرة القابلة للتبرير والتفسير. في حين أنه بهذه الطريقة ليس باستطاعتنا ان ننمي أو نضعف أي من الإحتمالين الباقيين.. فلا يمكن من خلال التجربة والإستقراء ان نعرف فيما إذا كانت الظاهرتان المقترنتان، ترتبطان بالضرورة، أم انهما قائمتان وفقاً للشد. وهناك بعض النتائج الهامة التى تترتب على الاختلاف الحاصل حول إثبات الضرورة ونفيها في العلاقة السببية، سواء على الصعيد الرياضي أم المنطقي للإستقراء.
ثانياً:
لقد اكد المفكر الصدر على خطأ إعتقاد المنطق الأرسطي بعقلية مبدأ (عدم تكرر الصدفة باستمرار). والطريقة التي اتبعها في هذا النقد، هي تفريقه بين ذلك المبدأ وبين القضايا العقلية التي تتميز بعنصر الضرورة المنطقي. حيث الفارق بينهما هو أن القضية العقلية تتصف بالضرورة، بينما لا يتصف المبدأ الأرسطي بها. فمثلاً ان مبدأ عدم التناقض يعتبر من القضايا العقلية، وذلك لأن العقل يحكم من الناحية المنطقية باستحالة حدوث التناقض ضرورة. ولولا هذه الضرورة لجاز حدوثه من دون مانع ذاتي. في حين أن المبدأ الأرسطي لا تحكمه تلك الضرورة، حيث من الممكن منطقياً ان تتكرر الصدفة باستمرار. ولهذا فهو يختلف قطعاً عن مبدأ عدم التناقض وعن المبادئ الأخرى القبلية، وبالتالي فهو ليس من القضايا العقلية لخلوه من عنصر الضرورة. رغم إعتقادنا بأن للضرورة أشكالاً عديدة متميزة لم يلتفت إليها المفكر الصدر، بل عاملها معاملة واحدة من جنس مبدأ عدم التناقض1.
ووفقاً للنتيجة التي انتهى إليها المفكر الصدر هي انه لا يمكن أن نعتبر مبدأ (عدم تكرر الصدفة باستمرار) صحيحاً ما لم نستند إلى الواقع والتجربة، إذ كيف لنا ان نعرف ان الصدفة لا تتكرر باستمرار رغم أنه لا توجد استحالة منطقية في التكرر؟
اذاً يتبين ان هذا المبدأ مستنتج من الواقع، وبالتالي يصبح من اللازم ان لا يشكل الأساس في بناء الإستقراء، لكونه أحد نتاجات هذا الأخير، وإلا افضت العملية إلى الدور الباطل، وذلك ما لم نقل انه نتاج الإستقراء من حيث البدء والأساس لكنه يصبح أساساً لسائر الإستقراءات الأخرى، كالذي يقوله ستيوارت مل في مبدأ السببية.
هكذا رفض المفكر الصدر النزعة العقلية للمبدأ الأرسطي وردّه إلى الإستقراء تبعاً لمنطق حسابات الإحتمال التي جعلها الركيزة الأساسية للبناء الإستقرائي. لكن قد نتساءل إلى أي مدى يعتقد الصدر بصدق هذا المبدأ على الطبيعة؟ فالمتتبع لرأيه حول ذلك يجد اجابتين قد تختلفان بحسب الظاهر، فهو في مكان ما من كتابه يقول: ‹‹النقطة الجوهرية في خلافنا مع المنطق الأرسطي، انا وإن كنا لا نرفض بشكل كامل الإعتقاد بالمبدأ (الأرسطي).. ولا ننكر صدقه - في حدود ما - على الطبيعة، ولكنا نختلف مع المنطق الأرسطي في تقييم هذا المبدأ››2.
فهذا النص يشير بحسب الظاهر إلى التصديق بالمبدأ الأرسطي في حدود ما من الطبيعة وليس كلها. في حين يأتينا نص آخر صريح بعد ثلاث صفحات من النص الأول، وهو خلاف ما يبدو من المعنى السابق كالتالي: ‹‹وليس كذلك التكرر المستمر في الصدفة النسبية، فإنه رغم عدم وقوعه في عالمنا هذا لا ندرك استحالة مطلقة فيه، وبإمكاننا من الناحية النظرية ان نتصور عالماً تتكرر فيه الصدفة النسبية باستمرار، وتتعايش فيه تلك الصدف المتكررة بسلام››3.
وهذا النص صريح في نفيه لتكرر الصدفة باستمرار في عالم الطبيعة، وهو مرجح على ظاهر النص السابق، ويؤيده ان المفكر الصدر اصاغ المبدأ الأرسطي صياغة منطقية لتبرير صدقه في جميع علاقات الطبيعة4.
ورغم ما تبين لنا من جواز تكرر الصدف باستمرار في كثير من الحالات المختلفة للطبيعة، إلا ان الصياغة الجديدة للصدر بإمكانها أن تمنع هذا التكرر باطلاق. وليس ذلك من التناقض، إذ نعتقد ان هذه الصياغة لم تبرر صحة المبدأ الأرسطي، بل قامت باصلاحه جذرياً، ففيها شرط أساس لم يخطر على ذهنية المنطق الأرسطي، إذ ما يشير إليه هذا المنطق لا يتعدى حدود كون علل الإتفاق غير منتظمة ولا محدودة5، وهذا لا يكفي في جعل العلاقة تحكمها الضرورة العقلية.
هكذا فتبعاً لهذا الشرط تكون الصياغة الجديدة للمبدأ الأرسطي عقلية وليست إستقرائية. وقبل ان نثبت ذلك علينا ان نعود إلى النص السابق ونتساءل: ما المقصود من القول: ‹‹بإمكاننا من الناحية النظرية ان نتصور عالماً تتكرر فيه الصدفة النسبية باستمرار، وتتعايش فيه تلك الصدف المتكررة بسلام››؟ فهل المقصود منه الاشارة إلى الصياغة الجديدة للمبدأ الأرسطي؟ لكن في هذه الحالة ان الصدفة بحسب هذه الصياغة تعبر عن كل ما هو محتمل إحتمالاً غير مرجح، وبالتالي كيف يجوز من الناحية المنطقية أن يستمر مثل هذا الأمر المحتمل في الحدوث؟
ونشير هنا إلى ان الإحتمال المأخوذ إعتباره في حدوث الصدفة لا ينظر إليه بكونه متأثراً بذاتية الإنسان وجهله بالعوامل التي تؤدي إلى تكرار الصدفة، إنما المنظور إليه هو الجانب الموضوعي. ذلك انه قد يكون الإحتمال كبيراً موضوعياً، لكنه ضئيل ذاتياً. فمثلاً لو قيل لك ان واحداً من بين عشرة أفراد متوقع له ان يموت بقيمة إحتمالية قدرها (9\10)، فإذا كنت تجهل ظروف هؤلاء العشرة كلياً لكنت تحتمل أي واحد منهم بمقدار (1\10) بأنه من تصدق عليه تلك النسبة أو توقع الموت. وهذا يعني ان من بين هؤلاء العشرة فرداً - كزيد مثلاً - هو الذي توقعنا له الموت، مع انك احتملت ان يكون هو المعني بمقدار (1\10)، فإذا ضربته بقيمة إحتمال حالة توقع الموت لكانت النتيجة ضئيلة وتنافي حقيقة إحتمال موته من الناحية الموضوعية، إذ سيصبح إحتمالك الشخصي (الذاتي) لموت زيد يساوي: (1\10 × 9\10 = 9\100). وهذه القيمة ضيئلة جداً مقارنة بالقيمة الحقيقية (الموضوعية) لإحتمال موت زيد.
لهذا فإن المأخوذ بإعتبار الصدفة جانبها الموضوعي المتعلق بمعرفة العوامل المختلفة التي يمكن لها ان تؤثر على الظاهرة المحتملة. وكما اكد المفكر الصدر من أنه كلما كثرت الظروف والملابسات المختلفة الشديدة التغير، كلما تضاءل إحتمال تكرر الظاهرة الشديدة التأثر بتلك الظروف والملابسات6. ولنفترض هنا ان الظاهرة قد تكررت باستمرار على الرغم من وجود مثل تلك الملابسات المتحركة؛ كإن يحدث ان رمينا قطعة النقود مليون مرة، وفي كل مرة يظهر وجه الصورة بشكل مستمر.. ففي مثل هذه الحالة نتوقع ان هناك سبباً مجهولاً يرجع إليه تكرر الحادثة، دون ان نعزوها إلى المصادفة من الناحية المنطقية ذاتها.. وهذا يعني نظرياً انه من غير الممكن تصور وجود عالم تتعايش فيه الصدف باستمرار وسلام، فطبقاً لمبادئ الإحتمال أن إحتمال وقوع مثل هذا التعايش يشبه ان يكون منفياً مادامت قيمته ضئيلة للغاية.
وقد يُحمل القصد من النص السابق - رغم ما فيه من تكلف لا يساعد عليه السياق - ان المراد هو الاخذ بالإمكان المنطقي الذي لا يقبل التحقيق من جهة الواقع. بمعنى أن تكرر الصدفة باستمرار يعتبر ممكناً من الناحية المنطقية، لكنه معدوم ومنفي من جهة الواقع، أي واقع كان، سواء عالمنا الذي نعيش فيه أو أي عالم آخر مفترض. والسبب في ذلك هو ان حسابات الإحتمال تعتبر مبادئ ثابتة وغير مشروطة بهذا العالم الذي نعيش فيه، لذا فما تحسب قيمة إحتمال حدوث الصدفة هنا، لا بد أن تحسب مثلها هناك بلا فرق، وذلك طبقاً لنوعية الظروف وكثرتها وعلاقتها بحدوث الصدفة.
الضرورة ومبدأ عدم تكرر الصدفة
طبقاً لما سبق يمكن مناقشة حقيقة قاعدة عدم التماثل، أو الصياغة الجديدة لمبدأ عدم تكررالصدفة باستمرار، ذلك ان المفكر الصدر إعتبرها مستنتجة من الإستقراء لا العقل. ومع ان ما كشفه في رد المبدأ الأرسطي إلى الإستقراء هو صحيح لا شك فيه، لكن الأمر مع الصياغة الجديدة شيء مختلف تماماً، لكونها تنطوي على عنصر الضرورة التي هي ميزة المبادئ العقلية. ولكي تتضح الصورة لا بد من التمييز بين حالتين من القضايا العقلية، إحداهما تتصف بمطابقتها للواقع - ضرورة -، والأخرى غير ذلك تماماً.
اختلاف القضايا العقلية
من المعلوم - قبل كل شيء - ان القضية العقلية تعتبر في اصلها كلية وعامة، كما في قولنا (الكل أكبر من الجزء). فهذه القضية عامة وشاملة لكل جزئياتها الفردية، أي انها لا تقتصر على هذا (الكل والجزء) أو ذاك.. الخ. وهذا يعني ان من الممكن إستنتاج القضايا الجزئية من القضية الكلية بطريقة القياس، مما يعني ان القضايا الأولى تكتسب بدورها الطابع العقلي، وذلك إذا ما كانت مقدماتها مضمونة الصدق، كما في المثال التالي:
ان أي (كل) هو أعظم من (الجزء) بالضرورة. وحيث ان هذا الشيء عبارة عن (كل)، وذلك الشيء عبارة عن (جزئه الخاص)، لذا فإن هذا (الكل) أعظم من ذلك (الجزء) بالضرورة.
هكذا في مثل هذه الحالة يحكم العقل ضرورة بأن تكون القضية الجزئية مطابقة للقضية المنطقية الكلية. وان واقع القضية الجزئية أو جانبها الاخباري لا يمكنه ان يتخلف عن هذا الحكم العقلي. فلا يمكن أن تجد ظاهرة ما من ظواهر الطبيعة تتنافى مع مبدأ (الكل أكبر من الجزء)، أو مع مبدأ السببية، أو مع مبدأ عدم التنافض.. الخ.
هذا بالنسبة للقضايا العقلية ذات الطابع غير الإحتمالي. ولكن في القضايا العقلية الإحتمالية فالأمر يختلف، إذ ليس بالضرورة ان يكون هناك تطابق بين القضية العقلية والقضية الواقعية. فمثلاً إن قيمة إحتمال ظهور وجه الصورة لرمية واحدة لنقد متماثل الوجهين تساوي (1\2)، وهذه تمثل قضية ضرورية لا شك فيها. وعليها يمكن إستنتاج قضية أخرى جزئية بطريقة قياسية بالشكل التالي:
ان قيمة إحتمال ظهور وجه الصورة لكل نقد منتظم تساوي (1\2) بالضرورة، وحيث ان هذه قطعة نقد منتظمة، لذا فقيمة إحتمال ظهور الصورة فيها تساوي (1\2) بالضرورة أيضاً، طالما كنا متأكدين من انتظام القطعة. وبالتالي فقد استنتجنا الجانب العقلي للقضية الجزئية. ولكن حين نرمي هذه القطعة النقدية عدداً من المرات، ولنفترض عشر مرات، فسوف نلاحظ ان نتائج ظهور وجه الصورة لا يؤدي بالضرورة إلى القيمة الإحتمالية النصفية، فقد تكون أكثر أو أقل من ذلك، بل الغالب انها لا تكون نصفاً، لاسباب لسنا بصدد ذكرها هنا. ورغم أن هذا هو حال القضية الواقعية في الحسابات الإحتمالية، إلا انه لا يغير شيئاً من ضرورة الحكم العقلي السابق. فالقضية المنطقية في المبادئ الإحتمالية ضرورية، خلافاً للقضية الواقعية المستندة اليها. والسبب في هذا الاختلاف يرجع إلى طبيعة القضايا الإحتمالية ذاتها، حيث تقتضي ان تكون القضايا الواقعية فيها غير محتمة، كما تقتضي ان تكون قضاياها المنطقية ذات صبغة ضرورية.
ولا شك ان هذا الحال ينطبق على قاعدة عدم التماثل أو الصياغة الجديدة لمبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار. إذ يمكن أن نفترض في هذه المسألة قولين كما يلي:
الأول: يستحيل منطقياً ان تتكرر الصدفة باستمرار.
الثاني: من المستبعد جداً ان تتكرر الصدفة باستمرار.
ولا شك انه لو كان القول الأول صحيحاً لكان حكمه من الأحكام العقلية بإعتباره منطوياً على الضرورة.
أما القول الثاني فإنه على الرغم من كون مفاده الواقعي لا ينطوي على الضرورة، إذ لا استحالة في تكرر الصدف.. لكن مع هذا نجد في حكمه المنطقي عنصراً عقلياً (ضرورياً)، وهو العنصر المنطقي القائل ان من المستبعد ان تتكرر الصدفة باستمرار، إذ الصدفة هنا منطوية على وجود قيمة إحتمالية ضئيلة، لذا يكون الحكم الضروري الذي يستبعد تكرر الصدفة مشابهاً للحكم الضروري القائل بأن ظهور الصورة في قطعة النقد له قيمة إحتمالية بقدر النصف. ففي الحكم الأخير نلاحظ انه على الرغم من عدم حتمية ظهور وجه الصورة - في الواقع - بما يطابق الإحتمال المنطقي (1\2)، إلا ان من المحتم أن يظل الحكم المنطقي - كما هو - ثابتاً بالضرورة. وكذا هو الحال في حالة إستنتاج القضية الجزئية من الحكم الضروري للمبدأ السالف الذكر، كما هو واضح من القياس التالي:
من المستبعد جداً أن تتكرر الصدفة باستمرار، ولما كانت هذه الظاهرة التي امامنا تتوفر فيها شروط الصدفة، لذا فمن المستبعد على هذه الظاهرة ان تتكرر باستمرار.
وواضح ان الحكم الأخير يظل حكماً عقلياً مادام انه مستنتج - مباشرة - عن المبدأ العقلي العام، حتى لو صادف واقعاً ان تكررت تلك الظاهرة باستمرار. فهذا التكرر في الظاهرة أو الصدفة لا يخدش في الحكم المنطقي المستنتج عقلياً، ذلك انه على شاكلة مثال رمية قطعة النقد، حيث عرفنا أن الجانب المنطقي من هذا المثال يحظى بقيمة ضرورية، حتى لو لم يطابق ما يحدث في الواقع.
هكذا لا بد من التفريق في القضايا العقلية بين الأحكام التي لها صفة الثبات الدائم مع الواقع، وبين الأحكام التي ليست كذلك. فالمبادئ الإحتمالية وحساباتها تحمل طبيعة خاصة، وهي انها لا تنطوي على ضرورة المطابقة مع الواقع، ورغم ذلك فإن أحكامها تعتبر من الأحكام العقلية. وكذلك الحال مع الصياغة الجديدة لمبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار، حيث انها تتضمن حسابات إحتمالية منطقية ثابتة، ولهذا فحكمها كحكم أي مبدأ آخر من مبادئ الإحتمال وقضاياها المنطقية. وعلى العكس من ذلك الأحكام العقلية غير الإحتمالية، حيث تتصف بأنها ذات طبيعة حتمية في مطابقتها للواقع، كما رأينا..
ومن المفيد ان نقسّم القضايا العقلية إلى أقسام عديدة كالتالي:
1ـ المعرفة الذهنية البحتة، مثل قضية مبدأ عدم التناقض والواحد المضاف إلى مثله يساوي إثنين.
2ـ المعرفة الإخبارية الضرورية، مثل مبدأ السببية العامة، كما فصلنا الحديث عنها في محل اخر.
3ـ المعرفة الحضورية الوجودية، وتتمثل بمعرفتنا بانفسنا مباشرة دون حاجة للدليل، وبالتالي فهي لا تتقبل كوجيتو الاستدلال الديكارتي القائلة: (انا افكر فإذا انا موجود).
4ـ المعرفة الإخبارية الوجدانية، مثل الإعتقاد بالواقع الإجمالي للعالم. فهذه المعرفة ليست ضرورية، كما لا يمكن الإستدلال عليها، وبالتالي فهي من المعارف الوجدانية الصرفة.
5ـ المعرفة الإحتمالية، وتتصف بأن إخبارها عن الواقع الموضوعي لا يطابق غالباً ما عليه الواقع، خلافاً للمعرفة الإخبارية الضرورية التي تشترط مطابقة الواقع حتماً.
6ـ المعرفة القيمية، وهي معرفة وجدانية عقلية كالحسن والقبح العقليين، رغم أنها ليست بصدد الإخبار عن أشياء الواقع الموضوعي أو التطابق معها، وليس لها علاقة بالقضايا المنطقية المجردة، بل لها ما يجعلها حالة أخرى تختلف عن جميع الحالات التي مرت معنا، حيث تتضمن الكيفية القيمية كما بحثناها في دراسة مستقلة7.
والضرورات العقلية أربعة من مجموع القضايا العقلية الآنفة الذكر، فتارة تكون الضرورة منطقية كما في عدم التناقض، وثانية تحدّية كما في السببية العامة، وثالثة إحتمالية كما في الإحتمالات العقلية، ورابعة قيمية كما في القيم.. فهذه الضرورات بعضها يختلف عن البعض الآخر، والصفة المشتركة فيما بينها هي عدم إمكان تغييرها وإبدالها، لِما لها من طبيعة شمولية وكلية مطلقة، بما فيها النوع الأخير من الضرورات الخاص بالعقل العملي تمييزاً له عن سائر الأنواع التي يتضمنها العقل النظري. والإختلاف بين هذه الضرورات هو أن الأولى (المنطقية) لها علاقة بالقضايا النظرية التجريدية، وأن الثانية (التحدّية) لها علاقة بالواقع الموضوعي مباشرة، بإعتبارها إخبارية وكاشفة عن الواقع بالقيد الذي ذكرناه، أما الثالثة (الإحتمالية) فهي وإن تحدثت عن الواقع إلا أنها تتميز بعدم مطابقتها للواقع بالضرورة، بل وإختلافها عنه في أغلب الأحيان. تبقى الضرورة القيمية، فهي أنها لا تتحدث عن أشياء الواقع الوجودي والتكويني، وبالتالي لا يمكن محاكمتها كما يحاول البعض محاكمة الضرورة التحدّية، إنما المهم مشاهدتها بالرؤية المباشرة تبعاً لما يفضي إليه الوجدان العقلي المدرك لشموليتها وكليتها المطلقة ضمن قيودها الخاصة، كغيرها من ضرورات العقل النظري.
هذه هي خارطة القضايا العقلية غير المعهودة لدى الفلاسفة، فالقدماء منهم عندما يتناولون القضايا العقلية فإنهم لا يميزون فيما بينها، فكلها تتصف بالضرورة واليقين المطلق بلا استثناء، دون ان يكون لديهم انطباع حول اختلافها واختلاف نوع الضرورة فيما بينها. ويحاكيهم في هذا التصور الفلاسفة المحدثون، وغالباً ما يحصرون الضرورات العقلية في القضايا المنطقية البحتة دون غيرها.
هل القضايا الإستقرائية عقلية؟
لما كانت القضايا الإستقرائية تعتمد على حسابات الإحتمال، فهل يعني هذا انها من القضايا الضرورية (العقلية)؟ هذا ما سنكشف عنه من خلال التحليل الاتي:
قد نستنتج - مثلاً - عن طريق حسابات الإحتمال قضية من القضايا الموضوعية كتمدد الحديد بالحرارة، وذلك بأن نحصل على درجة إحتمالية كبيرة جداً لصالح سببية الحرارة. ففي هذا المثال لدينا فرضان لا بد من التمييز بينهما كالتالي:
في الفرض الأول ان تجميع قيم الإحتمالات، التي حصلنا عليها عن طريق التجارب الخاصة بتمدد الحديد في الواقع، يستند إلى ملاحظاتنا الذاتية.
أما الفرض الثاني فهو يتعلق بجمع وحساب القيم الإحتمالية التي حصلنا عليها من خلال ملاحظاتنا الذاتية، طبقاً للفرض الأول.
وتبعاً لهذا التمييز تكون النتيجة التي نحصل عليها من الفرض الثاني ضرورية، بإعتبارها تتعلق بالحساب المنطقي للقيم الإحتمالية، خلافاً للنتيجة التي نحصل عليها من الفرض الأول، أي انها غير ضرورية، حيث ليس من الضروري ان نحصل على هذا العدد من القيم الإحتمالية، بإعتبار ان هذا الأمر رهين ما تكشفه لنا التجارب في الواقع، وبالتالي فهو محكوم بملاحظاتنا الذاتية تجاه الكشوف الواقعية. ولتوضيح المسألة أكثر، عليك بالمثال التالي:
لنفترض انه اعدت لك قائمة باسماء طلاب إحدى المدارس. ففي هذه الحالة يمكنك ان تجمع عددهم بصورة دقيقة، وتكون نتيجة الحساب التي تحصل عليها ضرورية، ان كان الجمع صحيحاً، لأنها مرتبطة مباشرة باحاد العدد المحسوب. لكن لو اتفق ان عدد الطلاب في الواقع كان أكثر مما استنتجته، فهذه النتيجة لا تغير من الحكم الضروري الذي حصلت عليه بالحساب والجمع الصحيح. فالحكم الضروري الثابت يقر بأن نتيجة هذا الحساب أو الجمع هو هكذا، سواء كانت مفردات الجمع لها نفس المصاديق في الواقع أم لا. أما معرفتنا بالمصاديق الواقعية وما يترتب عليها من تجميع لاحادها فهي ليست من القضايا والأحكام الضرورية، لأنها ليست حتمية الثبوت، بل يمكن أن تتغير وتكون غير صحيحة.
هكذا كلما كانت النتيجة مستنتجة مباشرة من الأحكام العقلية، فلا بد ان تكتسب صفة الضرورة من تلك الأحكام. ولما كانت مبادئ الإحتمال بحسب بعض الشروط هي من القضايا العقلية، لذا فاي حساب يستند إليها يعتبر بالنظر إلى ذاته من الأحكام الضرورية. ففي مثالنا السابق افترضنا ان سببية الحرارة لتمدد الحديد تحظى بقيمة إحتمالية عالية، لذا فإنه يمكن تحليل هذه المسألة إلى ثلاث قضايا كما يلي:
الاولى هي اننا حصلنا على عدد من القيم الإحتمالية بواسطة التجارب الخاصة بتمدد الحديد. والثانية اننا جمعنا حساب هذا العدد فتكونت لنا نتيجة معينة ثابتة ومرتبطة بما توفر لدينا من مفردات ذلك العدد. والثالثة هو اننا بالاعتماد على القضيتين الأُوليين يمكن أن نرتب المصادرة القائلة: ان سببية الحرارة لتمدد الحديد تحظى بنفس الدرجة التي حصلنا عليها في القضية الثانية. لذا فإن هذه القضية ستحدد لنا قيمة إحتمالية معينة لصالح سببية الحرارة.
وليس في هذه القضايا أي حكم ضروري سوى القضية الثانية. فالقضية الأولى ليست ضرورية بإعتبار ان من الممكن الحصول على عدد من القيم الإحتمالية أكثر من أي عدد نحصل عليه واقعاً، فكلما إزدادت التجارب كلما ازداد العدد في القيم الإحتمالية. وعليه ليس هناك عدد ثابت مخصوص يمكننا ان نرتكز عليه. والنتيجة النهائية في القضية الثالثة لما كانت تعتمد في وجودها على القضية الأولى - فضلاً عن الثانية - لذا فإنها قابلة للتغير بالتبع. فكلما تغيرت الأولى فإن النتيجة في القضية الثالثة تتغير تبعاً لها. ولهذا فهي ليست من القضايا الضرورية، وإلا لما كان بوسعها التغير. في حين أن القضية الثانية لما كان جوهرها عبارة عن علاقة منطقية للحساب، لذا فهي ضرورية، لأن النتيجة لا يمكن أن تتخلف عن مقدماتها المفترضة. وعليه فإن الحكم في هذه القضية هو من الأحكام العقلية. بينما الحكم الذي يقول ان سببية الحرارة تحظى بقيمة إحتمالية عالية جداً؛ لا يمكن إعتباره من الأحكام العقلية، رغم أن هذه القيمة مساوية للقيمة التي حصلنا عليها في القضية الثانية. والسبب في ذلك - كما قلنا - هو ان الحكم المتعلق بسببية الحرارة متأثر بالقضية الأولى التي تقبل التغيير، بينما الحكم في القضية الثانية ليس متاثراً بها، إذ يعتمد مباشرة على مبادئ الإحتمال المنطقية، دون ان يكون له علاقة بالواقع. لهذا نقول إن قضية تمدد الحديد بالحرارة هي ليست من القضايا العقلية، سواء صدقت في الواقع أم لم تصدق. إلا ان الحكم الإحتمالي المستند مباشرة إلى مبادئ الإحتمال؛ هو من الأحكام العقلية الثابتة.
الفرق بين المبدأ الأرسطي والصياغة الجديدة
سبق ان أوضحنا بأن هناك فرقاً كبيراً بين القضايا العقلية الإحتمالية وبين القضايا العقلية غير الإحتمالية. فالاولى تحمل طبيعة خاصة تجعلها لا تنطوي على ضرورة المطابقة مع الواقع، ورغم هذا فإن أحكامها ثابتة وضرورية. أما الثانية فهي تنطوي على ضرورة المطابقة مع الواقع، بخلاف الأولى. وحين نريد أن نحلل قاعدة عدم التماثل أو الصياغة الجديدة لمبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار، سنجد انها مستنتجة إستنتاجاً مباشراً من حسابات الإحتمال ذاتها، لذا فإن حكمها لا يختلف عن حكم أي قضية أخرى تعتمد على مبادئ الإحتمال وقضاياها المنطقية. في حين أن مبدأ أرسطو القديم عبارة عن قضية من قضايا الإستقراء، أي انه ليس من المبادئ الضرورية (العقلية).
وهذا يعني أن هناك فرقاً جوهرياً بين المبدأ الأرسطي، وبين الصياغة الجديدة له. فالمبدأ الأرسطي يتحدث عن الصدفة بما تعبر عن علاقة إقتران غير لزومية بين ظاهرتين معاً، في حين أن الصياغة الجديدة تتحدث عن الصدفة بكونها عبارة عن وقوع حادثة أو مجموعة حوادث ضعيفة الإحتمال. مما يعني ان هناك فرقاً كبيراً بين المفهومين، كالذي يوضحه التحليل التالي:
لنبدأ اولاً بمعرفة المبدأ الأرسطي ونتساءل: كيف إعتبرناه مستنتجاً من الإستقراء والواقع؟
وللجواب نلاحظ ان علاقات الواقع لا تخرج عن إحدى ثلاث اطروحات ممكنة كما يلي:
1ـ إفتراض كون علاقات الواقع لزومية كلها. بمعنى أن أي ظاهرة حين تقترن باخرى فلا بد ان ترتبط معها بعلاقة السببية. وعلى هذا الفرض ان هذه العلاقات إما ان تكون عبارة عن سلسلة لزومية واحدة ممتدة من الطرف الأول إلى آخره، أو هي عبارة عن مجموعة من السلاسل التي تتشابك فيما بينها بالعلاقات اللزومية المتبادلة.
2ـ إفتراض كون جميع العلاقات صدفوية أو غير لزومية. بمعنى ان السبب الاعلى - واجب الوجود - لم يجعل العلاقات بين الأشياء قائمة على السببية، بل اجرى الحوادث بشكل مباشر من غير أن يكون بينها علاقات. مما يعني ان جميع الإقترانات بين ظواهر الواقع صدفوية.
3ـ إفتراض كون بعض العلاقات لزومية، والبعض الآخر صدفوية غير لزومية. مما يعني انه قد تقترن العلاقات الصدفوية بشكل مستمر، وقد لا تقترن إلا قليلاً.
هذه ثلاث اطروحات ممكنة، وليس للعقل ان يحدد أي منها يصدق في الواقع، ما لم يتم ذلك عن طريق الكشف الإستقرائي، وبه تتعين الاطروحة الثالثة بأنها الصحيحة، حيث يشهد الواقع بوجود علاقات لزومية واخرى صدفوية.
كما ان بالإستقراء يمكن أن نعرف فيما إذا كانت العلاقات الصدفوية تقترن باستمرار أم لا.. كما ونعرف أيضاً ان العلاقات اللزومية الذاتية متى ما توفرت شروطها فإنها تقترن مع بعض بشكل دائم أو أكثري، حسب وجود الموانع العارضة التي قد تمنعها أحياناً، الأمر الذي ينطبق عليها مبدأ عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً.
لكن هذا الحال الذي حدد لنا طبيعة مبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار، يختلف عن تحديد حقيقة الصياغة الجديدة بصورة جذرية. إذ ان هذه الصياغة ليست مستندة في حقيقتها إلى الواقع، بل هي مبنية على اصل منطقي ذي صبغة عقلية، باعتبارها تحدد جوهر الصدفة بالحادثة أو الحوادث الضئيلة الإحتمال. وعليه يصبح من المنطقي ان نستبعد - بالإستنتاج - تكرر هذه الحادثة باستمرار، لتناقص القيمة الإحتمالية إلى ادنى حد ممكن.
فهناك قاعدة منطقية اعتمدت عليها هذه الصياغة، وهي كما علمنا تتضمن المعنى التالي: كلما كان دور العوامل الداعية لايجاد الظاهرة أكبر، كان توقعنا لتكررها أقوى. في حين إذا كان دور العوامل التي من شأنها حرف الظاهرة أكبر، فإن توقعنا لعدم تكررها يزداد. ولا شك ان حقيقة هذه القاعدة هي منطقية ضرورية وليست مستمدة من الواقع والإستقراء. فهي تتضمن حكم الضرورة وتعتبر أنه إذا وجدت عوامل متغيرة كثيرة ومؤثرة على ايجاد الظاهرة، بحيث تلعب دوراً كبيراً في القدرة على حرفها، فلا بد عندئذ أن نتوقع عدم تكررها. وعلى العكس من ذلك فيما لو وجدت عوامل ثابتة كثيرة لصالح ايجاد الظاهرة.
فالحكم هنا لا يقبل الشك والخطأ منطقياً، بإعتباره قائماً مباشرة على حسابات الإحتمال العقلية، والمفكر الصدر يؤكد بكون القاعدة مستمدة من هذه الحسابات8. صحيح ان جميع القضايا الإستقرائية مستندة بدورها إلى هذه الحسابات رغم أنها غير عقلية، مثل علمنا بتمدد الحديد بالحرارة، لكن الفرق بين تلك القاعدة وبين القضايا الإستقرائية، هو ان هذه القضايا مستندة مباشرة إلى الواقع، وليس لها أي بعد من ابعاد الضرورة المنطقية، إذ ليس بمقدورالعقل القبلي ان يحكم أو يتوقع سببية الحرارة لتمدد الحديد، بل لا بد من تحكيم التجربة في مثل هذه القضية. في حين تفترض تلك القاعدة اعتمادها المباشر على حسابات الإحتمال. مما يعني انه يمكن للعقل ان يحكم بضرورتها قبلاً ودون الاستناد إلى الواقع، إذ يكفيه تصور أطراف القاعدة ذاتها.
فلو جاءك شخص وقال لك ان هناك ظروفاً عشوائية تتشابك وتتفاعل بحرية تامة دون ان يكون بينها لزوم، فهل تتوقع ان مثل هذه الظروف سوف تنتج لك ظاهرة معينة باستمرار؟
لا شك انك لا تتوقع ذلك، حتى لو لم تجرب ولم تستند إلى الواقع، بل يكفيك مفاد تلك القضية لترتب عليها النتيجة المنطقية التي لا ينحصر مفعولها في عالمنا هذا، بل وفي كل عالم ممكن!
وعلى خلاف ذلك لو تصورت كلاً من الحرارة والحديد واقترابهما معاً، فهل تتمكن بمحض عقلك من غير الاستناد إلى التجربة أو الإستقراء ان تستنتج أو تتوقع ان الأولى تمدد الأخير؟
الجواب هو النفي بالتأكيد!
هكذا نخلص إلى ان الفرق بين المبدأ الأرسطي وصياغته الجديدة، يتحدد بكون الأول مستنتجاً من الواقع بالإستقراء وليس من المبادئ العقلية. بينما تعتبر الصياغة الجديدة عقلية، لأنها مستمدة من المنطق الإحتمالي مباشرة، دون ان يكون لها علاقة بالواقع الخارجي.
***
يمكن تلخيص نتائج النقدين السابقين للمفكر الصدر كالآتي:
أولاً: إن الدليل الإستقرائي لا يحتاج إلى مصادرات عقلية كتلك التي سلم بها المنطق الأرسطي. بل على العكس ان باستطاعة هذا الدليل ان يثبت تلك المصادرات التي اعتمدها ذلك المنطق. وقد عرفنا أن من المحال إثبات المصادرات العقلية بطريقة الإستقراء.
ثانياً: إن مبدأ (عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً) صحيح، لكنه ليس من القضايا العقلية، بل مستنتج من الإستقراء ذاته، وبالتالي فإنه لا يصلح أساساً لبناء الإستقراء كما ظن المنطق الأرسطي.
وبالفعل عرفنا أن المبدأ الأرسطي مستنتج إستقرائياً وإن لم يصح في جميع الأحوال، لكن الصياغة الجديدة له هي صياغة ذات صبغة عقلية وليست مستنتجة بالإستقراء.