يحيى محمد
يبحث كتاب (الأسس المنطقية للإستقراء) - كما هو الظاهر من عنوانه - حول مشكلة الإستقراء المعرفية.
ويقصد بالإستقراء عادة انه عبارة عن إستدلال يعتمد على حالات خاصة لينتهي بالنتيجة إلى حالة عامة. فمثلاً ان القانون الإستقرائي القائل: (الحرارة سبب تمدد الحديد) قد نتج بسبب عدة إختبارات اكدت ظاهرة التمدد للحديد عند وصله بالحرارة. فمن هذه الإختبارات المحدودة لعينة من الحديد استنتجنا ذلك القانون الكلي، وبالتالي فقد قفزنا بالإستدلال من أفراد خاصة معدودة إلى حالة عامة تشمل الأفراد كلها.
وبنظر (الأسس المنطقية للإستقراء) ينطوي الإستدلال الإستقرائي على ثلاث مشاكل لا بد من التغلب عليها للوصول إلى النتيجة النهائية المتمثلة بالتعميم. وهي كالتالي:
أولاً: مشكلة إثبات مبدأ السببية العامة، فمن خلاله يمكن أن نثق بأن تمدد الحديد - مثلاً - كان بسبب ما؛ لا على التعيين. وبدون هذا الشرط فإنه من غير الممكن ان نصل إلى تأسيس الدليل الإستقرائي؛ لأنه قد لا يكون بين الظواهر أي رابط سببي مطلقاً.
ثانياً: مشكلة تعيين السببية الخاصة، فإذا عرفنا أن كل حادثة لا بد أن ترتبط بسبب ما عن طريق تذليل المشكلة الأولى، يبقى ان نتعرف على ماهية السبب المرتبط بالحادثة، فتمدد الحديد - مثلاً - له سبب يرتبط به، والمفروض ان نتعرف على ماهية هذا السبب لنطمئن بالرابطة الحقيقية التي تربطه بالحادثة (تمدد الحديد). لذا فالمشكلة - هنا - هي كيف نتعرف على ماهية السبب، ونثق بأن سبب تمدد الحديد هو الحرارة لا الضغط مثلاً.
ثالثاً: مشكلة التعميم، فإذا تغلبنا على المشكلة الثانية (فضلاً عن الأولى)، وعرفنا أن السبب الذي يرتبط بتمدد الحديد في التجارب التي اقمناها هو الحرارة.. ففي هذه الحالة، ما الذي يجعلنا نثق بأن الحرارة هي دائماً تعمل على تمدد كل حديد؟
هذه هي المشاكل الأساسية التي ارتكز عليها بحث (الأسس المنطقية للإستقراء) في معالجته للإستقراء. ومع ذلك فقد استهدف الكتاب - عبر تلك المعالجة - بناء نظرية شاملة في المعرفة تختلف عن نظريات المعرفة لدى المذاهب الفكرية الأخرى. فهناك محاولة جريئة تتضمن إثبات القضايا العقلية عبر الدليل الإستقرائي، باستثناء مبدأ عدم التناقض والمصادرات التي يحتاجها هذا الدليل.
ومعلوم ان نظرية المعرفة يتجاذبها مذهبان متضادان، هما المذهب العقلي والمذهب التجريبي، والأول يؤمن بقضايا عقلية اولية سابقة في وجودها على التجربة، كما انها تمثل أساس وجود القضايا الأخرى، وهي لهذا لا تخضع لقضايا الإستقراء والتجربة؛ بإعتبار ان هذه الأخيرة تتأسس عليها. أما المذهب التجريبي فيرى ان جميع قضايا المعرفة هي نتاج الإستقراء والتجربة، بما في ذلك نفس المبادئ والقضايا التي يسلم المذهب العقلي بكونها عقلية واولية.
في حين أن مذهب (الأسس المنطقية للإستقراء) يختلف عن كلا المذهبين السابقين. فمثلاً انه لا يوافق المذهب العقلي على قبلية بعض القضايا التي يحسبها الأخير عقلية، كما يرى ان من الممكن إثبات القضايا العقلية بالطريقة الإستقرائية. وهو كذلك يختلف عن المذهب التجريبي، إذ ينكر عليه إمكانية توليد المعرفة، طالما انه ينفي بعض المضامين الخاصة بالقضايا العقلية، وعلى رأسها مفهوم الضرورة في العلاقة السببية.
هكذا كان هدف الكتاب ليس مجرد بناء الإستدلال الإستقرائي منطقياً، بل الأهم من ذلك تشييد مذهب خاص لنظرية المعرفة يتميز بجملة من القضايا التي تختلف مع كل من المذهبين العقلي والتجريبي، وهو ما صكّ له مصطلح ‹‹المذهب الذاتي››.
كما هناك هدف آخر له اهمية خاصة، وهو إثبات المسألة الإلهية - وعدد من القضايا العقائدية - عبر الطريقة الإستقرائية، إذ تثبت المسألة الإلهية بنفس القدر الذي تثبت فيه أي قضية علمية أخرى. وبالتالي يفضي البحث إلى ان يكون الفرد الوضعي أو العلموي بين خيارين لا بد من أحدهما: فإما الإيمان بالعلم والمسألة الإلهية معاً، أو الكفر والجحود بهما سوية، وأي سبيل آخر فهو متناقض، فمن المفارقة التفكيك بين الامرين مادام انهما ينهلان من منبع واحد مشترك وهو الدليل الإستقرائي.
وتعد هذه المقالة صحيحة فيما لو طبقت على الانسان الذي لا يعير اهمية لسائر الأدلة الأخرى كالادلة الفلسفية. فالانسان الوضعي مثلاً هو أبرز من تنطبق عليه تلك المقالة. أما الانسان المقتنع بجدوى الأدلة الفلسفية فأمره مختلف، حيث لا ينطبق عليه ما سبق، إذ ليس من التناقض الايمان بوجود الله مع رفض العلم ورفض الدليل الإستقرائي رغم الاحتفاظ بالادلة الفلسفية التي من شأنها إثبات وجود الله.
وبعبارة ثانية ان الخيارات السابقة تختص بالفرد الوضعي أو العلموي، وهي لا تصدق على ذلك الذي يجد طرقاً أخرى لاثبات المسألة الإلهية، كالطرق الفلسفية الصرفة. فلا توجد مفارقة فيما لو اعتقد الباحث بعدم جدوى الدليل الإستقرائي لاثبات القضايا العلمية والمسألة الإلهية، في الوقت الذي يجعل الأخيرة قابلة للنهوض عبر الأدلة الفلسفية المجردة دون الاعتماد على ذلك الدليل.
لهذا فان المفكر الصدر يضع الدليل الإستقرائي على إثبات وجود الله دليلاً أضاف ياً مع الأدلة الفلسفية كما هو ظاهر متبناه[1]. مما يعني ان موقفه من المقالة السابقة يمكن تحليله إلى موقفين اعتماداً على نوع الانسان المخاطب.
مصادر الكتاب
هناك مجموعة من المصادر التي اعتمد عليها الكتاب في عرضه لآراء المذاهب الفكرية المختلفة. وهي حسب ما ذُكر كالتالي:
منطق أرسطو، التحليلات الأولى، تحقيق عبد الرحمن بدوي، طبعة دار الكتب المصرية، سنة 1948.
البرهان من منطق الشفا لابن سينا، تحقيق عبد الرحمن بدوي.
منطق الاشارات لابن سينا.
معيار العلم للغزالي.
منطق المنظومة للسبزواري.
المنطق الحديث ومناهج البحث للدكتور محمود قاسم.
المنطق الوضعي للدكتور زكي نجيب محمود.
دافيد هيوم للدكتور زكي نجيب محمود.
فلسفة هيوم للدكتور محمد فتحي الشنيطي.
جون ستيورات مل للدكتور توفيق الطويل.
تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم.
الاسفار لصدر الدين الشيرازي.
روش رئاليسم للسيد محمد حسين الطباطبائي.
المعرفة الإنسانية لبرتراند رسل[2] .
منهج الكتاب والموضوع
يمكن تقسيم الجانب المنهجي للبحث إلى قسمين، هما منهج الكتاب ومنهج الموضوع. وسنتحدث عنهما على التوالي كما يلي:
يبلغ عدد صفحات كتاب الأسس المنطقية للإستقراء أكثر من خمس مائة صفحة ذات القطع الوزيري (الكبير)، وهي موزعة إلى تمهيد وأربعة أقسام وخاتمة[3]. وفي التمهيد هناك بحث موجز للتفريق بين الإستقراء والإستنباط (القياس). ويحتوي القسم الأول من الكتاب على استعراض لموقف المذهب العقلي (الأرسطي) من الإستقراء (التام والناقص)، كما يتضمن جملة من الانتقادات والاعتراضات، خاصة فيما يتعلق بالإستقراء الناقص الذي يمثل هدف بحث الكتاب، حيث نجد حول الموقف الآنف الذكر بعض الانتقادات وسبعة اعتراضات تختلف في مدلولاتها ونتائجها. ويحتوي القسم الثاني على استعراض لموقف المذهب التجريبي من الإستقراء (الناقص). وبهذا الصدد استعرض الكتاب ثلاثة اتجاهات تختلف في درجة وثوقها بالدليل الإستقرائي:
أول هذه الإتجاهات هو الإتجاه الذي يؤمن بكون الدليل الإستقرائي يؤدي إلى نتيجة يقينة، وابرز ممثليه الفيلسوف الانجليزي (جون ستيورات مل). وثانيها هو الإتجاه الذي يعتقد بأن الدليل الإستقرائي يفضي إلى نتيجة مرجحة أو إحتمالية، ويتمثل بمذهب الوضعية المنطقية. وثالثها هو الإتجاه الذي يعتبر الدليل الإستقرائي ليس له أي قيمة موضوعية، ويفسره تبعاً للعامل السايكولوجي (النفسي) كما هو الحال عند (ديفيد هيوم)، أو طبقاً للعامل الفسيولوجي (الوظيفي) كما هو الحال عند المدرسة السلوكية. وقد تضمن القسم الثاني انتقادات تتعلق بهذه الإتجاهات الثلاثة.
وفي القسم الثالث شرع الكتاب بتأسيس مذهب جديد يختلف عن المذهبين السابقين (العقلي والتجريبي). وينقسم هذا الباب إلى تمهيد للتعريف بالمذهب الجديد تحت عنوان (التعريف بالمذهب الذاتي)، والى فصلين، يتناول الأول منهما بناء المرحلة الإستنباطية من الدليل الإستقرائي بما يتضمن استعراض وتفسير نظرية الإحتمال، ومن ثم بناء الإستقراء بطريقة الحسابات الإحتمالية. أما الفصل الثاني فقد تناول المرحلة الذاتية من بناء الدليل الإستقرائي.
أما القسم الرابع فهو تطبيقي، حيث فيه تطبيق للمنهج الإستقرائي الجديد على مختلف القضايا المعرفية، أي النظرية والتجريبية والعقلية والميتافيزيقية.
وفي الختام هناك كلمة اخيرة توضح حقيقة ما يفضي إليه الدليل المنطقي الإستقرائي من الارتباط بين الإيمان والعلم، مع الاشارة إلى تأكيدات القرآن الكريم على هذا اللون من الإستدلال الخاص بوجود الله تعالى والإيمان به.
***
أما حول منهج الموضوع، فمن البيّن ان البحث يدور حول بناء الدليل الإستقرائي، والمنهج المتبع في ذلك يقوم على عدم إفتراض أي قضايا قبلية عدا نوعين من المصادرات يخصان المرحلتين الإستنباطية والذاتية من بناء الدليل. وتتمثل المصادرات التي تخص المرحلة الإستنباطية (القياسية) ببديهات نظرية الإحتمال، حيث يقوم عليها الدليل الإستقرائي بتنمية درجة إحتمال صدق القضية الإستقرائية إلى أعظم درجة ممكنة من الترجيح. في حين أن ما يخص المرحلة الذاتية هناك مصادرة واحدة تتضمن إفتراض حالة اليقين للقضية الإستقرائية بعد ان كانت تحظى - في المرحلة الإستنباطية - بأعظم درجة ممكنة من الإحتمال. فالمرحلة الذاتية كفيلة بايصال الدليل الإستقرائي إلى درجة اليقين، حيث ينتقل الذهن ذاتياً من الإحتمال إلى اليقين، ومن الخاص إلى العام، وبذلك يسدد الدليل الإستقرائي الثغرة الموجودة بين هذين الطرفين.
هكذا يتضح ان منهج المفكر الصدر في بناء الدليل الإستقرائي يعتمد على مرحلتين: أولى أساسية إستنباطية تقوم على مصادرات الإحتمال، وأخرى ذاتية ترفع الدليل مما هو في درجة الإحتمال إلى درجة اليقين، عبر إفتراضها كمصادرة قابلة للتبرير والتفسير.
ومن حيث الموقف من مشاكل الإستقراء الثلاث التي عرضناها سابقاً؛ حاول المفكر الصدر علاج المشكلتين الأولى والثانية عن طريق إثبات المعنى الموضوعي للسببيتين العامة والخاصة حسب المفهوم العقلي لهما، وذلك عبر حسابات الإحتمال أولاً، ثم تطبيق مصادرة المرحلة الذاتية ثانياً. وبهذا يؤكد بأنه ما لم تثبت السببية (بمفهومها العقلي) فإن الدليل الإستقرائي يعجز عن إثبات أي تعميم، بل حتى يعجز عن ترجيحه بأي درجة من درجات الإحتمال[4]. أما علاجه للمشكلة الثالثة فهو قائم على محاولته لإثبات السببية الخاصة ومن ثم إثبات تماثل أفراد الماهية الواحدة.
الدليل الإستقرائي والبرهنة عليه
عرفنا فيما سبق ان المذهب الذاتي للمفكر الصدر يقسّم بناء الدليل الإستقرائي إلى مرحلتين، إستنباطية وذاتية. والسؤال المطروح هنا: هل انه اجرى البرهنة على بناء هاتين المرحلتين؟
واقع الأمر انه أجرى ذلك على المرحلة الأولى، لكنه اعترف بعدم إمكان البرهنة على الثانية. فما برهن عليه هو رفع درجة إحتمال القضية الإستقرائية إلى أكبر قدر ممكن، وهذا ما حققته المرحلة الإستنباطية. أما المرحلة الذاتية المتعلقة بيقين القضية الإستقرائية - من حيث السببية والتعميم - فإنها لم تثبت بطريقة البرهان والإستنتاج، بل صودرت بمصادرة تولّى المذهب تفسيرها أو تبريرها. وعلى حد قوله: ‹‹ولن نبرهن على هذا اليقين الموضوعي - لسببية القضية الإستقرائية وتعميمها -، وإنما نفترض وجوده كمصادرة، ونتولّى تفسيره››[5] .
ولتوضيح ذلك نعود إلى نفس مثالنا السابق حول تمدد الحديد بالحرارة: ففي المرحلة الإستنباطية يمكن أن نصل عبر عدد من التجارب الناجحة إلى ان قضية تمدد الحديد بالحرارة تحظى بقيمة إحتمالية كبيرة، فيصبح من المتوقع ان يكون تمدد الحديد جاء نتيجة الحرارة لا غيرها. وإذا كانت التجارب المقامة والناجحة كثيرة فيمكن أن نصل إلى قيمة إحتمالية عظمى لصالح هذه السببية. وفي المرحلة الذاتية التالية يمكن أن نفترض اليقين في كون تمدد الحديد الذي اختبرناه كان بسبب الحرارة، وكذلك يمكن إفتراض تعميم هذه القضية، فنصدّق يقيناً بأن كل حديد - المختبر وغير المختبر - يتمدد بالحرارة. وبهذا يمكن إستنتاج القضية الإستقرائية في مرحلتها الإستنباطية التي تعبر عن أكبر درجة ممكنة من الإحتمال، وإن كان الأمر غير ذلك في المرحلة الذاتية التي تعبر عن درجة اليقين، حيث لا تجري فيها عملية الإستنتاج والإستنباط، وإنما تفترض فيها الدرجة كمصادرة قابلة للتفسير والتبرير.
المذهب الذاتي والمصادرات القبلية
على رأي المذهب الذاتي للمفكر الصدر ان الدليل الإستقرائي ليس بحاجة مطلقاً إلى مصادرات قبلية (عقلية). لهذا انتقد المنطق العقلي الذي يؤمن بوجود هذه المصادرات كأساس للدليل. لكن مع هذا يمكن أن يقال بأن المذهب الذاتي قد اعتمد على مصادرات قبلية، حيث استند إلى مبادئ الإحتمال وهي من القضايا العقلية أو المفترضة، ذلك ان التسليم بها يأتي عن طريق إحدى هذه الاطروحات الثلاث:
1 ـ ان هذه المبادئ مستنتجة عبر الدليل الإستقرائي الكاشف.
2 ـ انها قضايا عقلية لا تحتاج إلى دليل وبرهان.
3 ـ انها ليست عقلية ولا إستقرائية، بل مفترضة فحسب، كحاجة اجرائية.
ولا شك انه يمكن رفض الاطروحة الأولى، وذلك لأن الدليل الإستقرائي يقوم على تلك المبادئ، فكيف يكشف عنها أو يبرهن عليها إن لم نقع في الدور والتسلسل!
كما ان الاطروحة الثالثة تحتاج إلى تحليل، فلا يصح إفتراض الحاجة الاجرائية لتلك المبادئ ما لم يخضع إلى شروط معرفية مسبقة، وبالتالي يتعين علينا معرفة هذه الشروط إن كانت عقلية أو إستقرائية، ومن المحال ان تكون إستقرائية، بإعتبارها موضوعة لتبرير الدليل الإستقرائي. لكن يمكن أن تكون عقلية، مثلما يمكن تبرير الدليل الإستقرائي تبعاً للاطروحة الثانية التي تفترض مبادئ الإحتمال عقلية. ففي كلا الحالتين يعتمد الدليل الإستقرائي على قضايا قبلية عقلية أو مفترضة.
وإذا عدنا إلى الموقف الخاص بالمذهب الذاتي فسنرى ان لديه بعض الاشارات التي تؤكد عقلية تلك القضايا. فهو في بعض المناسبات إعتبر التسليم القبلي بمبادئ الإحتمال ينسجم مع المذهب العقلي ولا يتفق مع المذهب التجريبي الذي يعجز عن إثباتها[6]. كما إعتبر في مناسبة أخرى ان بعض المعارف الإحتمالية داخلة ضمن مجال القضايا العقلية الأولية[7].
لكنه مع ذلك يشير أحياناً إلى ان طريقته غنية عن الحاجة إلى المصادرات العقلية[8]. ولكي لا يكون هناك تناقض علينا ان نعتبر ان ما قصد إليه في عدم حاجة الدليل الإستقرائي إلى المصادرات العقلية؛ يتحدد فقط بالنتيجة النهائية من الدليل، وهي المتمثلة باليقين والتعميم، حيث لا تحتاج سوى مصادرة مفترضة غير عقلية. أما قبل هذه المرحلة فالدليل الإستقرائي في حاجة إلى تلك القضايا العقلية المتمثلة بمبادئ الإحتمال.
ونعتقد ان ما يميز المذهب الذاتي عن المنطق العقلي هو عدم تعليق النتيجة النهائية على أي مصادرة عقلية، ولولا ذلك لكان يمثل أحد صيغه ومذاهبه الخاصة.
المذهب الذاتي والمنطق العقلي
للمذهب الذاتي بعض المواقف التي يتفق فيها مع المنطق العقلي، واخرى يختلف معه عليها. فمن الأمور الأساسية التي اعتقدها المنطق العقلي واقرها المذهب الذاتي، قضية مصدر المعرفة، حيث آمن العقليون بأن هناك جملة من المعارف مصدرها العقل، تشكل عندهم أساس بقية المعارف البشرية قاطبة. وهذا ما يتفق عليه المذهب الذاتي مع العقليين. كما يتفق معهم على وجود التلازم المنطقي الضروري بين القضايا في الإستدلالات الإستنباطية (القياسية). ففي كل عملية من هذا النوع هناك تلازم منطقي بين المقدمة والنتيجة. ويتفق معهم أيضاً على وجود الضرورة في السببية لعلاقات الطبيعة؛ الخاصة منها والعامة.
أما أهم الأمور التي يختلف فيها معهم، فهي ما يلي:
أولاً: هناك اختلاف في المنهجية، فالمنطق العقلي يؤسس دليله الإستقرائي على مصادراته القبلية لينتهي إلى نتائج تعميمية مثبتة، وهو بهذا يسلك سلوكاً إستنباطياً من العام إلى الخاص، فيبدأ بقضايا عقلية عامة لينتهي إلى نتائج اخص واضيق دائرة منها. في حين أن المذهب الذاتي يبني دليله الإستقرائي من غير أن يأخذ بالمصادرات العقلية، وهو بهذا يسلك سلوكاً ينتقل فيه الدليل من الخاص إلى العام. كما ان النتيجة التي يصل إليها المذهب الذاتي ليست مثبتة بالبرهان والإستنباط، بل مفترضة كمصادرة.
ثانياً: إن المنطق العقلي يرى ان هناك طريقة واحدة للإستدلال، هي الطريقة الإستنباطية التي تنطوي على عنصر اللزوم بين المقدمة والنتيجة المتولدة عنها. وقد طبقها على قضايا القياس والإستقراء معاً. أما المذهب الذاتي فيرى ان هناك طريقة أخرى يتولد عنها الجزء الأكبر من المعرفة البشرية، وهي الطريقة الذاتية التي يكون فيها اللزوم ذاتياً بين المعارف، لا منطقياً كما هو الحال بالنسبة لإسلوب الإستنباط الذي يجري في قضايا القياس. ومثال الطريقة الذاتية ما يحصل في التعميمات الإستقرائية والوصول إلى اليقينات من هذا النوع. فالتحول مما هو محتمل وخاص إلى ما هو يقين وعام، لا يستبطن لزوماً منطقياً، بل يتضمن اللزوم الناتج من نفس المعرفة، أي ان نفس المعرفة الإحتمالية ذات الدرجة الكبيرة هي التي لزمت عنها المعرفة الأخرى ذات اليقين. لذا فاللزوم ذاتي في المعرفة وليس منطقياً كما يحصل في حالات القياس. وعليه يصبح المذهب الذاتي مبتكراً لطريقة جديدة تضاف إلى الطريقة الإستنباطية التي سلّم بها العقليون.
ثالثاً: حاول المنطق العقلي (الأرسطي) ان يذلل المشكلتين الثانية والثالثة من مشاكل الإستقراء الثلاث - التي مرت معنا سابقاً - عن طريق مصادرتين عقليتين مختلفتين، إحداهما وضعت لتذليل المشكلة الثانية والأخرى لتذليل المشكلة الثالثة. أما المذهب الذاتي فقد حاول ان يذلل المشكلتين معاً عن طريق واحد. فالشيء الذي يثبت سببية القضية الإستقرائية، كعلاج للمشكلة الثانية، هو نفسه الذي يثبت تعميم هذه القضية كحل للمشكلة الثالثة.
رابعاً: هناك قضايا إعتبرها المنطق العقلي الأرسطي مبادئ عقلية، بينما إعتبرها المذهب الذاتي نتاج الإستقراء. ومن هذه القضايا المبدأ القائل ان الصدفة لا تتكرر أكثرياً ولا دائمياً، حيث إعتبره المنطق العقلي من القضايا العقلية الموضوعية لحل المشكلة الثانية للإستقراء. في حين إعتبره المذهب الذاتي مستنتجاً من الإستقراء ذاته. وهناك قضايا أخرى أوضح المذهب الذاتي انها ليست بديهية ولا مستنتجة عن الأوليات العقلية كما زعم العقليون، كقضايا المحسوسات والمجربات - الإستقراءات - والحدسيات والمتواترات.
خامساً: اعتقد المنطق العقلي انه لا سبيل لإثبات القضايا القبلية عن طريق الإستقراء. أما المذهب الذاتي فقد رأى جواز ذلك، مستثنياً منها مبدأ عدم التناقض ومصادرات الدليل الإستقرائي.
المذهب الذاتي والمنطق التجريبي
عرض المذهب الذاتي ثلاثة اتجاهات للمنطق التجريبي، أحدها يعود إلى جون ستيوارت مل، والثاني إلى الوضعية المنطقية، والثالث إلى دافيد هيوم. وكان الإتجاه الأول يعتقد ان الدليل الإستقرائي بحاجة إلى قضايا السببية كمصادرات يبنى عليها التعميم، رغم أنها مستنتجة لديه من إستقراءات سابقة أوسع وأشمل في عالم الطبيعة. في حين رأى المذهب الذاتي ان الدليل الإستقرائي ليس بحاجة إلى تلك القضايا كمصادرات قبلية، طالما ان بإمكان هذا الدليل إثباتها وفقاً لمفهومها العقلي الذي يعبّر عن علاقة الايجاب والضرورة بين ظاهرتين متعاصرتين زماناً ومختلفتين رتبة ووجوداً، إحداهما تمثل العلّة والأخرى تمثل المعلول. أما المفهوم التجريبي لها، والذي يعبّر عن نوع معين من التتابع الزمني المطرد بين ظاهرتين ليس بينهما علاقة ضرورة وايجاب، فقد إعتبره المذهب الذاتي عاجزاً عن إثبات قضايا السببية وحتى ترجيحها، وقد انعكس هذا الأمر على موقفه من الدليل الإستقرائي، إذ الشرط الأساس لبناء التعميم هو ان يكون الدليل قادراً على إثبات السببية بمفهومها العقلي لا التجريبي. وهو يريد بهذا نقد المذهب التجريبي حول فهمه للسببية، وإن كنا نلاحظ - كما سنرى - ان الإتجاه الأول لجون ستيوارت مل شيّد طريقته وفقاً للسببية التي تتضمن الضرورة، وان الإتجاه الثاني للوضعية المنطقية لا يعلق الدليل الإستقرائي على قضايا السببية، أما الإتجاه الثالث لديفيد هيوم فهو ينفي أي إمكانية منطقية لقيام الدليل الإستقرائي أساساً.
وكما ان المذهب الذاتي يوافق الإتجاه الأول في بعض النقاط، كقدرة الدليل الإستقرائي على إثبات قضايا السببية وبلوغ اليقين، فإنه - كذلك - يوافق الإتجاه الثاني في نقاط أخرى، من قبيل عدم حاجة الدليل إلى المصادرات القبلية، وكذلك استخدام نظرية الإحتمال في ترجيح القضايا الإستقرائية، لكنهما اختلفا في أمور عدة اهمها كالتالي:
1 ـ اختلافهما حول إمكانية بلوغ اليقين في القضايا الإستقرائية، إذ ان الإتجاه الوضعي يحيل ذلك بخلاف المذهب الذاتي.
2 ـ اختلافهما حول قيمة ومصدر مبادئ الإحتمال. فهي لدى المذهب الذاتي ذات قيمة ضرورية بإعتبارها من القضايا العقلية الأولية. أما الإتجاه الوضعي فيراها فروضاً مؤقتة بإعتبارها مستنتجة عبر الإستقراءات الماضية، وهي لهذا ليست يقينة ولا ضرورية، بل ولا تشكل أساس الإستقراء من الناحية التحليلية.
يبقى موقف المذهب الذاتي من الإتجاه الثالث، فهو انه يتفق معه حول حاجة الدليل الإستقرائي والتعميم إلى إثبات الضرورة في علاقة السببية، لكنه يختلف معه حول إمكانية هذا الامر. فديفيد هيوم يحيل إثبات الضرورة السببية، ومن ثم يحيل إمكانية قيام الدليل الإستقرائي برمته، بخلاف الحال مع المذهب الذاتي كما هو واضح.
أهم نتائج المذهب الذاتي وتأثراته
يمكن تلخيص أهم النتائج التي حاول المذهب الذاتي إثباتها كما يلي:
1 ـ اكتشاف طريقة جديدة للمعرفة تختلف عن طريقة المذهب العقلي المتمثلة بالإستنباط، وتدعى بطريقة التلازم الذاتي للمعرفة؛ تمييزاً لها عن طريقة التلازم الموضوعي أو المنطقي، وهي بمثابة بناء نظرية جديدة حول أساليب الإستدلال والتوالد المعرفي.
2 ـ محاولة بناء الإستقراء من دون إفتراض مصادرات قبلية، سوى تلك التي تتعلق بمبادئ الإحتمال.
3 ـ محاولة تفسير الإحتمال بطريقة تختلف عما هو السائد لدى المدارس الغربية.
4 ـ محاولة إثبات القضايا العقلية بالطريقة الإستقرائية.
5 ـ ايجاد طريقة فريدة لتبرير اليقين في القضايا الإستقرائية.
6- وضع الأساس العام لإثبات مختلف قضايا المعرفة البشرية بطريقة الإستقراء، كإثبات العلوم الطبيعية وبعض العقائد والقضايا الفلسفية.. الخ.
7ـ الوصول إلى صيغة منطقية تقر بأن هناك ارتباطاً منطقياً مشتركاً بين الإعتقاد بالعلوم الطبيعية وبين الإيمان بالله تعالى؛ بحيث لا يصح الفصل بينهما على صعيد الاستدلال.
***
أما من حيث تأثر المذهب الذاتي بالاتجاهات الفكرية، فلعل أبرزها هو المنطق الأرسطي. فقد وافقه على وجود القضايا العقلية كأساس للمعرفة البشرية، كما اقام فهمه لعلاقة السببية - الخاصة والعامة - وفقاً لما شيّده هذا الاتجاه. وعلى ما يبدو انه تأثر أيضاً بالوضعية المنطقية، من حيث عدم اضطرارها في بناء الدليل الإستقرائي للمصادرات القبلية، واستخدامها لنظرية الإحتمال في ترجيح القضايا الإستقرائية. ولعل أكثر ما استفاده منها هو كتاب (المنطق الوضعي) للدكتور زكي نجيب محمود. وجاء في بعض الرسائل التي كتبها المفكر الصدر بهذا الصدد ما نصّه: ‹‹أنا اعتز بما جاء فيه - كتاب المنطق الوضعي - عن الإحتمال، ولا أزال أرجع إليه واستفيد منه››.
كذلك فإن لعلم اصول الفقه فضلاً لا ينكر على المذهب الذاتي. فنظرية الإحتمال تقوم عنده على العلم الإجمالي الشائع بحثه هناك. وقد ضمنها عدداً من المصادرات، منها مصادرة (الحكومة)، وهي مفهوم يقترب بعض الشيء إجمالاً من المعنى المتداول لدى اصول الفقه[9].
من فلسفتنا إلى الأسس المنطقية..
هناك فارق جوهري بين كتاب (فلسفتنا) وكتاب (الأسس المنطقية للإستقراء)[10]. فقد انحاز المفكر الصدر في الكتاب الأول إلى المذهب العقلي، في حين تمكّن في كتابه الثاني من أن يؤسس لنفسه مذهباً آخر يختلف كثيراً عن ذلك الاتجاه. لهذا جرت جملة من التغيرات والإنتقالات الفكرية من الكتاب الأول إلى الثاني، يمكن تلخيصها كما يلي:
1 ـ في (فلسفتنا) رأى المفكر الصدر ان الإستقراء ينطوي على جانب قياسي، والذهن فيه يسير من العام إلى الخاص. وكما يقول: ‹‹إن السير الفكري في رأي العقليين يتدرج من القضايا العامة إلى قضايا اخص منها، من الكليات إلى الجزئيات، وحتى في المجال التجريبي الذي يبدو لأول وهلة ان الذهن ينتقل فيه من موضوعات تجريبية جزئية إلى قواعد وقوانين عامة، يكون الإنتقال والسير فيه من العام إلى الخاص››[11]. بينما في (الأسس المنطقية للإستقراء) أكّد على أن الإستقراء يختلف عن القياس، والذهن فيه يسير من الخاص إلى العام. وعلى حد قوله: ‹‹يعتبر السير الفكري في الدليل الإستقرائي معاكساً للسير في الدليل الإستنباطي الذي يصطنع الطريقة القياسية، فبينما يسير الدليل الإستنباطي وفق الطريقة القياسية من العام إلى الخاص عادة، يسير الدليل الإستقرائي خلافاً لذلك من الخاص إلى العام››[12].
2 ـ في الكتاب الأول اعتقد انه من غير الممكن إثبات المبادئ العقلية الضرورية عن طريق التجربة أو الحس. فمثلاً انه يقول بصدد إثبات مبدأ العلية: ‹‹ان مبدأ العلية لا يمكن إثباته والتدليل عليه بالحس، لأن الحس لا يكتسب صفة موضوعية إلا على ضوء هذا المبدأ. فنحن نثبت الواقع الموضوعي لأحاسيسنا استناداً إلى مبدأ العلية، فليس من المعقول ان يكون هذا المبدأ مديناً للحس في ثبوته ومرتكزاً عليه، بل هو مبدأ عقلي يصدق به الإنسان بصورة مسستغنية عن الحس الخارجي››[13]. بينما في الكتاب الثاني اعتقد إمكان إثبات تلك المبادئ عن طريق الإستقراء والتجربة طبقاً لمصادرات الإحتمال. لكنه مع هذا استثنى أمرين من عملية إمكان إثبات القضايا القبلية، وهما كالتالي: ‹‹الأول: استثناء مبدأ عدم التناقض، أي القضية القائلة باستحالة اجتماع النقيضين، فإن هذه القضية لا يمكن أن نفترض إثباتها بالدليل الإستقرائي، بل يجب ان تفترض ثابتة ثبوتاً اولياً قبلياً.. الثاني: استثناء كل المصادرات التي يحتاجها الدليل الإستقرائي في سيره الإستدلالي، بما فيها بديهيات نظرية الإحتمال››[14].
3 ـ في الكتاب الأول اعتقد ان العلوم الطبيعية تثبت على أساس قضايا السببية العقلية، وكما يقول: ‹‹فمبدأ العلية هو الأساس الأول لجميع العلوم والنظريات التجريبية››[15]. أما في الكتاب الثاني فقد إعتبر هذه العلوم لا تثبت إلا بالإستقراء، إذ يقول: ‹‹ان هذه الدراسة الشاملة التي قمنا بها كشفت عن الأسس المنطقية للإستدلال الإستقرائي، الذي يضم كل الوان الإستدلال العلمي على أساس الملاحظة والتجربة››[16].
4 ـ في الكتاب الأول إعتبر الإستقراء قائماً على أساس القضايا القبلية للسببية: ‹‹ان النظريات التجريبية، لا تكتسب صفة علمية، ما لم تعمم لمجالات أوسع من حدود التجربة الخاصة، وتقوم كحقيقة عامة. ولا يمكن تقديمها كذلك إلا على ضوء مبدأ العلية وقوانينها، فلا بد للعلوم عامة ان تعتبر مبدأ العلية وما إليها من قانوني الحتمية والتناسب، مسلمات أساسية، وتسلم بها بصورة سابقة، على جميع نظرياتها وقوانينها التجريبية››[17]. لكنه في الكتاب الثاني اقتنع بأن الإستقراء لا يحتاج إلى تلك المصادرات القبلية مطلقاً، وكما قال: ‹‹في رأيي ان المنطق الأرسطي لم يخطئ فقط في الإعتقاد بطابع عقلي قبلي لقضية ليست من القضايا العقلية، بل اخطأ أيضاً في الإعتقاد بحاجة الدليل الإستقرائي إلى مصادارت قبلية أيضاً››[18].
5 ـ من الناحية المبدئية هناك إتفاق بين الكتابين حول الإعتقاد بوجود أساس مشترك لإثبات كل من العلوم الطبيعية والقضايا الميتافيزيقية. فقد جاء في كتاب (فلسفتنا) ما نصّه: ‹‹ان الإسلوب الذي تتخذه المدرسة الإلهية للإستدلال على مفهومها الإلهي هو نفس الإسلوب الذي نثبت به علمياً جميع الحقائق والقوانين العلمية››[19]. وشبيه له ما جاء على غلاف (الأسس المنطقية للإستقراء) كتعريف للكتاب، كما يلي: ‹‹دراسة جديدة للإستقراء تستهدف اكتشاف الأساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعية وللإيمان بالله››. وهو المعنى الذي توضح في الختام آخر الكتاب. ورغم هذا الإتفاق في الكتابين نلاحظ انهما اختلفا حول طبيعة ذلك الأساس الذي يشترك لإثبات الجوانب العلمية (والحسية) وبعض القضايا الميتافيزيقية. ففي (فلسفتنا) إعتبر الأساس المشترك متمثلاً بمبدأ السببية وقوانينها، بينما جاء في (الأسس المنطقية للإستقراء) انه يتمثل بالإستقراء وحده.
6 ـ في الكتاب الأول استدل على الوقائع الموضوعية الجزئية عن طريق مبدأ العلية، كما اعتقد ان معرفة وجود الواقع الموضوعي على سبيل الإجمال تمثل معرفة اولية نابعة عن العقل. وجاء في النص: ‹‹ان العلم بوجود واقع للعالم، على سبيل الإجمال، حكم ضروري اولي، لا يحتاج إلى دليل، أي إلى علم سابق.. ان العلم بوجود واقع موضوعي، لهذا الحس أو ذاك، إنما يكتسب على ضوء مبدأ العلية››[20]. بينما في الكتاب الثاني استدل على الواقع الموضوعي المجمل ووقائعه الجزئية المفصلة عن طريق الدليل الإستقرائي، كما نص عليه كالتالي: ‹‹إن التصديق بالواقع الموضوعي للعالم معرفة إستقرائية. وهذه المعرفة تجميع لقيم التصديقات المتعددة بالواقع الموضوعي للقضايا المحسوسة، إذ يكفي في وجود الواقع الموضوعي للعالم ان تكون بعض القضايا المحسوسة على الاقل ذات واقع موضوعي››[21].
7 ـ في الكتاب الأول ابدى عدم القناعة في تأثير العامل الفسيولوجي (الوظيفي) على تحديد طبيعة الصور الحسية لدى الاشخاص العاديين، بدلالة رفضه التام لنزعة النسبية الذاتية التي تبنّت ذلك الدور[22]. أما في الكتاب الآخر فقد اكد على دور العوامل الذاتية والفسيولوجية وغيرها في تحديد الصور الحسية، وكما قال: ‹‹ولا شك في أن الإنسان الاعتيادي يذهب إلى الإعتقاد بدرجة كبيرة من التطابق والتشابه بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي، بينما تتناقص هذه الدرجة كلما أُخذ بعين الإعتبار ما يكشفه العلم من الجوانب الذاتية لعملية الإدراك الحسي››[23]. وقال أيضاً: ‹‹إن تحديد الصورة المحسوسة وتعيين معالمها نتيجة عاملين: أحدهما الواقع الموضوعي، والآخر الشروط الداخلية الفيزيائية والفسيولوجية والسيكولوجية للإدراك الحسي››[24].
من الأسس المنطقية.. إلى بحث حول المهدي
هكذا نعرف ان هناك جملة لا يستهان بها من التغيرات والإنتقالات الفكرية من (فلسفتنا) إلى (الأسس المنطقية للإستقراء). لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد ظهرت تغيرات أخرى أهم من الأولى لها علاقة ببناء الدليل الإستقرائي وتقويمه، إذ لم يثبت المفكر الصدر على الآراء التي طرحها في كتابه القيّم (الأسس المنطقية للإستقراء)، وإنما جاوزها في دراسة لاحقة. وقد لا يصدق ان هذا التجاوز جاء في دراسة عقائدية قصيرة لا تحتل قيمة علمية مقارنة بكتابه السابق الذي بذل فيه عصارة فكره واقصى جهده العقلي، حتى صنع لنفسه مذهباً خاصاً في بناء المعرفة البشرية والإستقراء.
لقد ظهر هذا التغيير الفكري بعد خمس سنوات على أقل تقدير في كتيّبه اللاحق (بحث حول المهدي)[25]. وبالتالي لا يمكن إعتبار المحاولة المشيدة في (الأسس المنطقية للإستقراء) هي الوجه الوحيد الذي قدمه السيد الصدر. فهناك الوجه الآخر لفكره والذي يمكن إعتباره بمثابة ‹‹الأنا›› في قبال ‹‹الآخر››. فهناك تغاير في التأسيس بين الكتابين والذي يمكن أن نردّه إلى فكرتين جوهريتين لهما علاقة وثيقة بعملية الترجيح والبناء المعرفي الإستقرائي، وقد حضرتا في كرّاس (بحث حول المهدي) ضمن سياق معرفي واحد[26].
فحول الفكرة الأولى جاء في (الأسس المنطقية للإستقراء) ان علاقة الضرورة العقلية في السببية، سواء العامة أو الخاصة، تقبل الخضوع إلى منطق الدليل والإثبات بطريقة الإستقرا'ء، بل وكذا الحال في جميع قضايا الضرورة واللزوم العقلية الأخرى، باستثناء مبدأ عدم التناقض ومصادرات الإحتمال. وكما يقول المفكر الصدر: ‹‹وبهذا يمكننا ان نتوصل إلى إثبات علاقة اللزوم والضرورة بالدليل الإستقرائي، وفقاً لطريقته العامة التي شرحناها فيما سبق، في أي قضية من القضايا التي يعتبرها المنطق الأرسطي من الأوليات والفطريات››[27]. بينما يختلف الحال في (بحث حول المهدي)، إذ جاء فيه ان الضرورة سواء في السببية أو غيرها لا يمكن إثباتها بطريقة الإستقراء، ففيما يخص الضرورة في السببية الخاصة ذكر يقول: ‹‹وأما على ضوء الأسس المنطقية للإستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة - أي وجهة نظر المنطق التجريبي - في أن الإستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولكنا نرى انه يدل على وجود تفسير مشترك لاطراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أسس إفتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس إفتراض حكمة دعت منظم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار››[28]. ولا يقتصر هذا الانكار في البرهنة الإستقرائية على الضرورة في السببية الخاصة، بل سنرى انه يشمل مطلق الضرورة.
أما فيما يخص الفكرة الثانية، فقد جاء في (الأسس المنطقية للإستقراء) ان القوانين الإستقرائية لا يمكن أن تقوم لها قائمة ما لم تثبت السببية بحسب مفهومها العقلي المتضمن لمبدأ ‹‹الضرورة››. لذلك لا يمكن إثبات هذه القوانين والتعميمات طبقاً للسببية بحسب مفهومها التجريبي، فلما كان هذا المفهوم مجرداً عن مبدأ ‹‹الضرورة›› لذا فمن المستحيل إثباته عن طريق الدليل الإستقرائي، وبالتالي يستحيل إثبات تلك القوانين والتعميمات، بل ويستحيل حتى ترجيحها. وبهذا الصدد يقول الصدر: ‹‹إنا إذ نؤمن بأن الدليل الإستقرائي كفيل بإثبات السببية بدون حاجة إلى مصادرات قبلية، نريد بذلك السببية بالمفهوم العقلي الذي يعبّر عن علاقة ضرورة بين السبب والمسبب. وأما إذا استبعدنا السببية بالمفهوم العقلي، وافترضنا انه لا طريق إلى إثباتها لا قبل الإستقراء ولا بالإستقراء نفسه، فليس بالإمكان ان نثبت بالدليل الإستقرائي السببية بالمفهوم التجريبي، ولا أي تعميم من التعميمات التي يثبتها الإستقراء عادة. فالشرط الأساسي لإنتاج الدليل الإستقرائي في رأينا، ان يكون قادراً على إثبات السببية بالمفهوم العقلي، وما لم نثبت السببية العقلية، يعجز الدليل الإستقرائي عن إثبات أي تعميم، بل وحتى عن ترجيحه بأي درجة من درجات الترجيح››[29].
في حين جاء في (بحث حول المهدي) وهو بصدد البحث عن تفسير المعجزة ما يلي: ‹‹نواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: كيف يمكن أن يتعطل القانون، وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدد هذه العلاقة الضرورية على أسس تجريبية وإستقرائية؟ والجواب: ان العلم نفسه قد اجاب على هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي، وتوضيح ذلك: ان القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة. فحين يطرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يستدل بهذا الاطراد على قانون طبيعي، وهو انه كلما وجدت الظاهرة الأولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أن العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلك وذاتها، لأن الضرورة حالة غيبية، لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الإستقرائي والعلمي إثباتها، ولهذا فإن منطق العلم الحديث يؤكد ان القانون الطبيعي، كما يعرفه العلم، لا يتحدث عن علاقة ضرورية بل عن إقتران مستمر بين ظاهرتين - وهذا هو المفهوم التجريبي لعلاقة السببية -، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الأخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين. والحقيقة ان المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظل وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية، فقد كانت وجهة النظر القديمة - الراجعة إلى المنطق العقلي الأرسطي -، تفترض أن كل ظاهرتين اطرد إقتران إحداهما بالأخرى، فالعلاقة بينهما علاقة ضرورية، والضرورة تعني ان من المستحيل ان تنفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الإقتران أو التتابع المطرد بين الظاهرتين دون إفتراض تلك الضرورة الغيبية››[30].
***
ونشير أخيراً إلى اننا قد عالجنا في بعض دراساتنا مشكلة البناء الإحتمالي للدليل الإستقرائي في مرحلته الإستنباطية طبقاً للمقارنة بين العلاقتين المتغايرتين للسببية، أي علاقة الضرورة وعدمها..
[1] لاحظ: الأسس المنطقية للإستقراء، دار التعارف، بيروت، طبعة رابعة، ص507.
[2] لم تُذكر ترجمة هذا الكتاب، وربما لم يكن مترجماً اصلاً. لكن نقل البعض نصاً مشافهاً عن المفكر الصدر تعرض فيه إلى ذكر ذلك الكتاب واهميته، حيث قال: ‹‹عندما انتهيت من هذه المحاولة ـ الخاصة بالأسس المنطقية للإستقراء ـ احتملت ان الفلسفة الغربية والمنطق الغربي وصل إلى النتائج التي قد وصلت إليها نفسها، فطلبت من بعض الاخوة ان يذكروا لي افضل كتاب يتعرض لكل مباني نظرية المعرفة المعاصرة في الفلسفة الغربية، فقالوا لي: كتاب (المعرفة الإنسانية لبرتراند رسل). سألت عن الكتاب فقالوا الكتاب غير مترجم، فطلبت من بعض اصدقائنا في بغداد المتخصصين ان يترجموا الكتاب حتى يمكن الوقوف على آخر النظريات الغربية في نظرية المعرفة››. وأضاف قائلاً: ‹‹وعندما راجعت الكتاب والنظريات الغربية لم اجد أي اشارة للنتائج التي انتهيت اليها›› (عن: كمال الحيدري: تأملات في كتاب الأسس المنطقية للإستقراء، مجلة الموسم، عدد 26ـ27، 1416هـ ـ 1996م، ص435)..
[3] أول طباعة للكتاب كانت (سنة 1972) لدى دار التعارف ببيروت، ثم تجددت طباعته مرات عديدة.. وقيل ان أول طباعة للكتاب كانت في النجف (سنة 1969)، وسبق ان اخبرني بذلك السيد محمد بحر العلوم.
[4] لاحظ الأسس المنطقية للإستقراء، ص79ـ80.
[5] لاحظ، ص92 .
[6] لاحظ، ص482
[7] لاحظ، ص504.
[8] لاحظ مثلاً ص70.
[9] انظر حول مفهوم الحكومة كتابنا: فهم الدين والواقع، دار افريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الثانية، 2011م، ص78.
[10] سبق ان نشرنا هذه المقارنة ضمن دراسة (نظرات فلسفية في فكر الامام الصدر).
[11] فلسفتنا، ص73.
[12] الأسس المنطقية للإستقراء، ص6 .
[13] فلسفتنا، ص309.
[14] المصدر السابق، ص473ـ474
[15] فلسفتنا، ص208.
[16] الأسس المنطقية للإستقراء، ص507.
[17] فلسفتنا، ص208.
[18] الأسس المنطقية للإستقراء، ص70.
[19] فلسفتنا، ص207.
[20] فلسفتنا، ص304ـ305.
[21] الأسس المنطقية للإستقراء، ص463.
[22] فلسفتنا، ص140ـ141 و153.
[23] الأسس المنطقية للإستقراء، ص465.
[24] المصدر السابق، ص469.
[25] خُطّ هذا الكتيّب عام 1397هـ ـ 1977م، كما هو مذكور في الصفحة الأخيرة منه. بينما كانت الطبعة الأولى لكتاب (الأسس المنطقية للإستقراء) بحسب دار التعارف عام 1972م.
[26] سبق ان نشرنا هذا التغيير الجوهري في كتاب (لأسس المنطقية للإستقراء، بحث وتعليق) عام 1985، وكنّا على وعي به منذ تلمذتنا على (الأسس المنطقية للإستقراء) عام 1980.
[27] انظر الفصل المعنون بـ (إمكان الإستدلال إستقرائياً على القضية الأولية والنظرية) من كتاب الأسس المنطقية للإستقراء، ص471ـ473.
[28] بحث حول المهدي، ص45ـ46، ضمن موضوع (المعجزة والعمر الطويل).
[29] الأسس المنطقية للإستقراء، ص79ـ80 و293ـ295.
[30] بحث حول المهدي، ص43ـ45.