يحيى محمد
يعد صدر المتألهين (المتوفى سنة 1050هـ) خاتماً للفلاسفة والعرفاء، فهو قد قام بجمع وتنظيم كل ما قدّمه الوجوديون قبله من أفكار، سواء في الحضارة الاسلامية أم اليونانية، فلم يزد عليه من جاء بعده بشيء يستحق الذكر، لذا كان خاتم الفلاسفة وأرقاهم جميعاً. اذ جمع كل ما لقّنه الوجوديون قبله من أمثال السهروردي ومحي الدين بن عربي وابن سينا والغزالي وابن رشد، ومن قبلهم افلوطين وأرسطو ومن على شاكلتهم.
وبحسب فلسفته أنه تناول علاقات الشبه والسنخية لمختلف عوالم الوجود، بما في ذلك مبدأ الوجود الأول، كما واستخدمها لحل بعض المعضلات الفلسفية، وحاول من خلالها الجمع بين نظريتي الفلاسفة والصوفية، حتى وقع أخيراً في صورة من صور التردد بين الوحدة النوعية للوجود كما لدى ابن رشد الفيلسوف، وبين وحدة الوجود الشخصية كما لدى الشيخ الأعرابي على ما فصلنا الحديث عنه في دراسة مستقلة.
ان الوجود عند صدر المتألهين وغيره من الفلاسفة عبارة عن ادراك وعقل. فهو يبدأ بالعقل وينتهي به عند الصور الطبيعية المُعدّة عقلاً مغشى بالمادة، إذ لولاها لكانت تلك الصور تعقل ذاتها وتحشر في زمرة العقول كسائر الإدراكات الأخرى. فللوجود مراتب متفاوتة الكمال من الادراك. فهناك الادراك الالهي وبعده الادراك العقلي ثم الادراك الخيالي فالحسي؛ وهو الذي عدت قوته اقل كمالاً وشرفاً من قوة الخيال؛ باعتبار هذه الاخيرة من عالم الغيب والاخرة، وتلك من عالم الدنيا والشهادة، رغم انه يعترف بأن مرتبة التمثل الخيالي ضعيفة الحضور بالقياس مع التمثل الحسي الاقوى منه، وهو ما يحتاج الى تبرير. وأخيراً فهناك الادراك الخاص بالوجود الجسمي باعتباره يحمل الصور الادراكية المغشّاة بالمادة.
لكن مع اقرار صدر المتألهين لهذه الطبيعة من الوحدة العقلية للوجود، فانه لا يرى ضيراً في عدّ نفس هذه الطبيعة عبارة عن وحدة وجود جسمية يدخل ضمنها مبدأ الوجود الأول؛ طبقاً لقانون الشبه والسنخية. وبذلك ينفرد دون سواه من الفلاسفة المسلمين في اضفاء الطابع الجسمي ـ صراحة ـ على الوجود كله بما فيه المبدأ الأول.
ويُذكر أن هناك مصدراً عُدّ سبباً في تطور فكرة الجسمية الى وحدة الوجود. ويعود هذا المصدر الى فكرة الجسم الرواقي. فقد اعتبر الرواقيون أن العالم هو جسم واحد، وحدّوا الجوهر الإلهي بأنه روح عقلي ناري ليس له صورة ثابتة، حيث يمكنه التشكل بأي شكل يريد ويتشبه بالكل.
وحقيقة الأمر هو أن قانون الشبه والسنخية يتضمن في حد ذاته الاقرار بوحدة الوجود الجسمية دون حاجة للاستناد الى أي مصدر خاص من مصادر تاريخ الفكر الفلسفي. فهذا القانون يستبطن هذا المعنى ويفضي اليه، فتكون الوجودات عبارة عن مراتب من الاجسام تختلف في ما بينها بحسب الشدة والضعف والكمال والنقص، فما دام هناك جسم في العالم السفلي نشاهده، فلا بد أن يكون على غراره وسنخه ما هو أرفع وأكمل منه في سائر المراتب العليا؛ بما فيها مرتبة الذات الإلهية. وبالتالي فما من جسم نتخيّله ونتحسس به في هذه الدنيا إلا وله نصيب أعظم وأجل في المراتب العليا من الوجود.
ومع ان الفلاسفة قد كتموا التصريح بوحدة الوجود الجسمية، لكن تحليل مقالاتهم يستبطن بالضرورة هذا الاعتقاد طبقاً لقانون الشبه والسنخية، الأمر الذي كشف عنه صدر المتألهين، وهو بصدد تعرضه لحديث عن الامام الصادق ينكر فيه أن يكون الله تعالى جسماً، كردّ على ما نقل من ان هشام بن الحكم كان يقول بأن الله جسم صمدي نوري. فقد استدرك صدر المتألهين حقيقة ما يريده هشام من معنى، فاعتبره قاصداً الى القول بأن الله جسم لا كالأجسام، باعتباره صورة مجردة الى أقصى حدود التجريد. وقد اقتضاه الأمر الى أن يفصّل كيفية هذا الجسم وعلاقته بسائر أنواع الأجسام الأخرى، نازعاً بذلك نزعة افلوطينية واضحة.
فباعتقاده انه لما كانت ماهية الجسم هي الجوهر القابل للأبعاد، لذا فلهذه الماهية أنحاء من الوجود بعضها أخسّ وأدنى، وبعضها الآخر أشرف وأعلى. فمن الجسم ما هو أرض فقط، أو هواء أو نار، ومنه ما فيه هذه العناصر الأربعة موجودة بوجود واحد جمعي؛ لكنه جماد فقط من غير نمو ولا حس ولا حياة ولا نطق، كما أن منه ما هو جماد بعينه؛ لكنه متغذ ونام ومولّد، فجسميته أكمل من جسمية الجمادات والمعادن، ومنه ما يزيد على ذلك بالحس والحياة الحسية، ومنه ما هو أكثر من ذلك بأنه ناطق ومدرك للمعقولات، وفيه ماهيات الأجسام الآنفة الذكر، حيث تكون موجودة بوجود واحد جمعي لا تضاد بينها؛ باعتبارها موجودة على وجه ألطف وأشرف، وهو وجود الانسان. ثم أن الانسان له عوالم متعددة كما جاء في (أثولوجيا)، أخسّه الانسان الطبيعي ثم الانسان النفساني ثم العقلي. وهذا الأخير هو مثال الحق، لأنه أرفع أنواع الانسان بعد الحق. وبالتالي يكون التطابق والتسانخ بين مراتب الجسم متحققاً من أدناها الى أعلاها رتبة، كما في مرتبة الانسان الإلهي أو مبدأ الوجود الأول. فالذات الإلهية هي الكل في أرقى الصور وأتمها، فهي في حد ذاتها عبارة عن علم وصورة للكل، لإتحاد العالم بالمعلوم، وهذه الصورة تتطابق مشاكلة مع العالم الجسمي. وبالتالي تصدق عليها المقولات العشر من الجوهر والعرض. فهي من حيث الجوهر والجسمية تكون ذات الحق، ومن حيث الكم المتصل القار تكون شدّة وجوده، ومن حيث الكم المتصل غير القار (الزمان) تكون سرمديته، ومن حيث الكم العددي فهي عدد أسمائه، ومن حيث الكيف كونه سميعاً بصيراً، ومن حيث الأين كونه مستوياً على العرش، ومن حيث المتى كان الله في الأزل، ومن حيث الوضع وضعه للشرايع وأنه باسط اليدين بالرحمة، ومن حيث الاضافة أنه الخلق، ومن حيث الجدة أنه مالك الملك، ومن حيث أن يفعل فانه ((كل يوم هو في شأن.. سنفرغ لكم أيها الثقلان))، ومن حيث أنه ينفعل فهو الذي يقبل التوبة من عباده ويأخذ الصدقات ويسمع الدعاء. وبذلك يكون الحق عند صدر المتألهين عبارة عن صورة العالم على وجه أعلى وأشرف مما هو في كون أو وهم أو حسّ أو عقل. فالعالم بجسميته يكون مظهر الحق، فما أظهر الحق إلا نفسه، وليس بالامكان أبدع من هذا العالم الجسمي لكونه مظهراً للحق وانعكاساً لصورة ذاته. وهذا ما قد سمح لصدر الحكماء أن يصرح بصحة كون الحق جسماً لا كالأجسام، وهو مستوحى من قانون الوحدة والشبه والسنخية. بالرغم من أنه في كتاب (مفاتيح الغيب) نفى أن تكون الحقائق العلوية جسمانية، الأمر الذي يجعله واقعاً في التردد إن لم نقل انه كان يعني بهذا النفي هو نفي الجسمية بمعناها الطبيعي والنفسي.