-
ع
+

حوارات فهم الدين مع يحيى محمد (5): جدلية الخطاب والواقع

(ضمن سلسلة حوارات الصحفي العراقي يوسف محسن)

نص الحوار

§ انطلقت مع عصر النهضة المعاقة في العالم الإسلامي ثلاثة مشاريع كبرى (الإحياء، التجديد، الاصلاح) أتساءل عن ماهية تلك المشاريع ومن هم روادها وأين موقع يحيى محمد من هذه المشاريع؟

تختلف هذه المشاريع كما نشاهدها اليوم في وظائفها وغاياتها. فمشروع الإحياء يهتم باعادة ابراز مدارس معينة من تراثنا معتبراً اياها النموذج المثالي للإتباع أو الاسقاط على واقعنا المعاصر. وهو مشروع يشهد انتشاراً واسعاً في العالم الإسلامي رغم عجزه عن تقديم الحلول المناسبة لقضايا العصر المتراكمة يوماً بعد آخر باضطراد. ومن أبرز شواهده ما يعرف بالاتجاه السلفي المهتم باحياء تراث مدرسة ابن تيمية وتطبيقها على أرض الواقع، أحياناً بشيء من التخفيف، وأخرى بشيء من المبالغة والتصعيد؛ إلى درجة يكون فيها الأتباع تيميين أكثر من ابن تيمية نفسه. كما من هذه الاتجاهات من يسعى لاحياء الفكر الفلسفي متمثلاً بإبن رشد أو صدر المتألهين الشيرازي، أو الفكر الصوفي متمثلاً بالغزالي أو ابن عربي..

أما التجديد فهو لا يكتفي باحياء نماذج من التراث بل له سعي حثيث في اظهار التوفيق بين طريقة هذه النماذج وقضايا العصر وفقاً لذات الجهاز المعرفي التقليدي. فالجديد الفكري التوفيقي الذي يقدمه محكوم بجهاز المعرفة التراثي. وهذه هي خصوصيته، أي انه يقدم جديداً مناسباً لقضايا العصر في الوقت الذي يتكئ فيه على الجهاز المعرفي التقليدي. لكن أحياناً يستخدم التجديد بمعنى الاحياء، وكثيراً ما يستخدمه السلفيون وحتى القدماء على خلفية الحديث النبوي القائل: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، بل هناك كتب عناوينها تشير إلى التجديد، ويقصد بها الإحياء ذاته. كما قد يستخدم العلمانيون هذا الاصطلاح أيضاً.

ومن وجهة نظري إنه مادام الأمر متعلقاً بالفكر الإسلامي والفهم الديني فان ما يليق بهذا الاصطلاح هو كل فكر جديد يناسب العصر ويعتمد في الوقت ذاته على الأجهزة المعرفية التقليدية. فهو حالة متطورة من التفكير التقليدي. أو هو نوع من الإجتهاد الجديد في الطرح الفكري. وقد يهتم بالشكليات المعرفية، كإن يجدد في الأمور اللغوية وطريقة صياغة المباحث العلمية المتداولة لدى التراث، ويدخل ضمن هذا الاعتبار الكتب التي تتضمن عناوينها عبارة: (في ثوبه الجديد)، ككتاب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للزرقا، والفقه الحنفي في ثوبه الجديد لطهماز، والفقه المالكي في ثوبه الجديد للشقفة، وعلم أصول الفقه في ثوبه الجديد لمغنية. ومن أمثلة التجديد على صعيد المضمون ما قدمه المفكر محمد باقر الصدر في اطروحته حول النظرية الاقتصادية، ومثل ذلك التفسير الموضوعي للقرآن، فهو لا يتجاوز في هذه الطروحات ذات الجهاز المتوارث من التفكير. وأحياناً ان بعض التجديدات الفقهية تحاول ان تظهر بانها لا تختلف عن المتبنيات المذهبية أو بعض نماذجه، ومن ذلك إن الامام الخميني اعتبر طريقته المستجدة لا تختلف عن طريقة (جواهر الكلام) للشيخ محمد حسن النجفي رغم انها تأتي بنتائج مغايرة. فتجديداته مستندة في رأيه وفق ذات الجهاز المعرفي التقليدي كما لدى (الجواهر).

يبقى الاصلاح، ونقصد به اصلاح الجهاز المعرفي التقليدي أو تغييره، باعتبار ان الخطأ مرتكز فيه، ولا بد من التغيير، وهو الذي كثفنا البحث حوله لاهميته. فقد حددنا موضع الخطأ الأساس في هذا الجهاز التراثي ومن ثم حاولنا علاجه، أو تغييره ضمن جهاز معرفي بديل يتلائم مع الواقع والنص معاً. فمن الواضح ان الجهاز المعرفي التقليدي يمارس ظاهرة الاسقاط والعمل وفق المنهج الماهوي، وهو بهذا لا يتلاءم مع الواقع. ومع التدقيق نلاحظ انه لا يتلاءم مع النص أيضاً، وذلك باعتباره لا يأخذ بحيثيات النص ودلالاته السياقية والظرفية عادة.

§ ماهي الطريقة المناسبة التي تتفق مع مقتضيات الخطاب الديني لتحليل الواقع؟

نعتقد ان الطريقة المناسبة التي تتفق مع مقتضيات الخطاب الديني لا بد ان تأخذ بعين الاعتبار جميع سياقات النص الدلالية والواقعية. فالاخذ بالواقع الظرفي الخاص بالتنزيل هو من صلب مقتضيات الخطاب، إذ كان يستجيب لهذا الواقع لا سيما عندما يتعلق الأمر بنسخ الأحكام وتغييرها. وهناك مراتب أخرى للواقع ليس لها علاقة بالسياق المذكور.

§ في متن الكتاب تقول سوف نبرز دور الواقع في فهمنا للقضايا الإسلامية على نحوين مختلفين يتمثل أحدهما بالحقيقة الموضوعية الدالة على ان لتحولات الواقع وتجداداته تأثيراً كبيراً على تغير فهم النص الديني، هل تعني ان حاكمية فهم النص الديني هو الواقع، أما النص الديني فهو متقلب ومرن مع حركة الواقع؟

ليس الحديث هنا عن النص الديني ذاته، بل عن فهمه وعلاقة هذا الفهم بتحولات الواقع. أي علاقة تصورات العلماء الدينية بتجددات الاخير، فهل تتغير هذه التصورات وفق تلك التحولات أم لا؟ هذا هو محور البحث. ونعتقد ان شواهد هذا التغيير كثيرة إلى درجة انه يمكن تقرير سنة عامة تنص على ان تغيرات الواقع تؤثر في الفهم وتعمل على تغييره بشكل أو بآخر، فهي وإن لم تكن حتمية لكنها احصائية. وشاهد قضايا النص المتعلقة بعلوم الطبيعة حاضر للتأكيد على هذا المعنى الوصفي. وينطبق الحال ذاته على الأحكام، إذ لم يعد استصحاب جملة من الأحكام المتوارثة مقبولاً حالياً، كالرق وغنائم الحرب ورباط الخيل والصور المحددة للرهان في السبق، وما إلى ذلك مما له علاقة بتأثير الواقع على تغير الفهم ومن بعده الحكم. وهو ما اعتبرناه في منطق فهم النص (أو علم الطريقة) من السنن الطبيعية للفهم، فبحسب هذه السنة تتقرر العلاقة التالية: «كلما تغير الواقع؛ كلما دعا ذلك إلى تغير الفهم معه باضطراد». وعلى هذه الوتيرة كلما اشتد تغير الأول كلما أفضى ذلك إلى زيادة تغير الثاني بالتبع.

§ الدور الآخر يتمثل في توظيف حركة الواقع ومضامينه باتجاه فهم النص، مع الأخذ بنظر الاعتبار العلاقة التي تشدهما ببعض منذ ان التقيا في عصر الرسالة (تنزيل الخطاب الديني) ما معنى تلك العبارة؟

مثلما ان لحركة الواقع تأثيراً على فهم النص كما ابرزناه في الجواب على السؤال السابق، فكذلك انه يمكن توظيف هذه الحقيقة الوصفية بانتزاع بعض القواعد المفيدة للفهم الديني. فنحن نواجه هنا قضية تتعلق بما ينبغي ان يكون، وهي الصيغة المعيارية، وليس مجرد وصف الحال كما في التقرير الأول من علاقة حركة الواقع بالفهم. فالسؤال الحاضر هو كالتالي: كيف نفهم النص انطلاقاً من الحقيقة الوصفية للتقرير الاول؟ أي كيف نستثمر هذه العلاقة لنستنتج منها قاعدة للفهم تقوم على الواقع؟

وبطبيعة الحال لا بد من الأخذ بعين الاعتبار حالة الجدل والتلازم بين الخطاب والواقع خلال عصر التنزيل. فمن كل ذلك نستنتج قاعدة للفهم تنص على ان الخطاب الديني يدعم فكرة ترجيح المصالح العامة للواقع على ما يعارضها من أحكام النص الجزئية. وحقيقة ان الفقهاء قد اضطروا أحياناً إلى مثل هذا الترجيح عملياً، وعلى الأقل إنهم اضطروا إلى ترجيح المصالح العامة على الفتاوى الموروثة التي صُورت بأنها دائمة وأبدية. وحتى ظهر منهم من يقول بصواب تأثير الزمان والمكان في تغير الفتاوى الإجتهادية، وهناك عنوان لابن القيم الجوزية لأحد فصول كتابه (اعلام الموقعين) يفي بهذا الغرض وصيغته كالتالي: (في تغيّر الفتوى وإختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد).

§ ما هي الفواصل الدقيقة بين مشروعكم في (جدلية النص والواقع) والاطروحات العلمانية؟

لعل أهم فاصل بين طرحنا والطرح العلماني هو ان الأخير يلغي الاحتكام إلى مرجعية النص الديني في اصلاح الواقع الاجتماعي بمختلف أبعاده. فهو يحتكم إلى سلطة العقل والواقع من دون وصاية لمرجعية أخرى غيبية أو خارقة للطبيعة أو نصية أو شخص محدد، بل يعول على حكم العقل وجدله مع الواقع فحسب، فهو ملتزم بالعقل الذي وصفه المفكر العروبي قسطنطين زريق بأنه الممتحن المنضبط المولّد في قبال الذاكرة الساردة المرددة المقلدة. في حين إننا نقف موقفاً وسطاً بين هذه الاطروحة والطروحات التراثية التي تلغي الواقع من الاعتبار عادة. إذ نؤمن بأثر الغيب في عالم الشهادة ونعول على مرجعية النص، كما نحتكم إلى سلطة العقل والواقع. ولا يفهم من كلامنا هذا ان تعويلنا على النص يراد منه في الأساس الجانب الفقهي، بل نقصد الموجهات والمقاصد العامة التي بالغ النص في التأكيد على أهميتها لبناء المجتمع الصالح. فبحسب هذه الاطروحة نحن نتبنى المشروع الديني بغية تطبيقه على العلاقات الأنسانية خلافاً للتوجه العلماني الذي ليس له علاقة بهذا المشروع.

§ مشروع التوظيف العلمي للخطاب الديني والذي ظهر منذ منتصف القرن العشرين ومستمر لحد الآن في بعض ثقافات المجتمعات الإسلامية، ألم ينمّ عن تضخم ذاتي وعجز في تلك المجتمعات في الاستجابة لمتغيرات الواقع؟

في الحقيقة ان التوظيف العلمي للخطاب الديني سابق لهذه الفترة، فيكفي ان نلاحظ بان أعظم موسوعة في هذا المجال هي موسوعة (الجواهر في تفسير القرآن الكريم) للشيخ طنطاوي جوهري، وهو قد توفي سنة 1940م. بل بوادر هذا التوظيف حتى قبل القرن العشرين، كما يظهر لدى الشيخ محمد بن أحمد الاسكندراني في كتابه (كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية).

ويبقى ان من الصحيح بالفعل ان هذا التوظيف ينمّ عن تضخم الذات مرده إلى الشعور بالنقص قبال الآخر والعجز عن اللحاق به. لهذا عبّر البعض عن ذلك بمقولة: (هذه بضاعتنا ردّت إلينا).

§ مشروع خير الدين التونسي ومحمد عبده في اقتباس الأفكار والمؤسسات من الحضارة الاوروبية بوصف ذلك غير مخالف للشريعة، ألم يكن هذا المشروع الذي يربط بين النص والواقع المتغير جدير بالدرس لحد الآن؟ ماهي مآخذك على هذا المشروع؟

لقد ظهرت هذه المشاريع وهي تحمل هذا الاحساس من الشعور بالنقص. لذلك كان طرحها ايديولوجياً ولم يكن ابستيمياً. فمشروع محمد عبده الذي هو اكمل من مشروع خير الدين التونسي كان مصاباً بذات الداء المتعلق بالتوظيف العلمي للخطاب، أو بتأويل الخطاب ليطابق مع ما عليه مفرزات العلم الحديث.

§ مشروع محمد اقبال في (الواقع والتخصيص الظرفي)، من وجهة نظري أكثر عقلانية حيث ان نصوص الأحكام جاءت وفقا لما عليه طبيعة الظروف في شبه الجزيرة العربية؟ ما هي مآخذكم بصدد هذا المشروع؟

لا شك ان في مشروع محمد اقبال بعض الجدة، فهو يعترف بوجود مصادر معرفية مهمة غير تلك المتعلقة بالنص، ومن ذلك مصدر التجربة والأنفس والآفاق، رغم انه استدل على مرجعيتها من خلال النص ذاته، فهي بنظره مصادر معرفية بحسب القرآن الكريم. وهو بهذا يعد الواقع مصدراً هاماً من مصادر المعرفة التي دعا إليها الإسلام. لكن هذا المشروع لم يطرح الاشكالية المتعلقة بحالات التعارض بين الواقع ودلالات النص، وكيف يمكن تبريرها ومعالجتها. فهو لم يعالج علاقة الواقع بالنص حسب أبعادها المختلفة، ولم ينشغل باشكالية فهم النص وعلاقته بالواقع.

§ مشروع محمد باقر الصدر في (الواقع وثقافة التسأل) حيث يجعل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي يطرح أسئلة على النص؟ ولكن كيف يجيب النص على أسئلة حديثة وهو انتاج لحظة تاريخية؟ ما هو الحل عندما لا يستطيع النص الإجابة على الأسئلة؟

من وجهة نظر المفكر محمد باقر الصدر ان النص لا يتخصص مفاده بلحظة تاريخية معينة، فهو لا يختلف في تصوره حول هذه النقطة عن التصور التقليدي العام، وهو ان للنص معان ومعارف تغطي جميع الظروف الزمانية والمكانية، لكن الميزة التي امتاز بها هذا المشروع هو انه اعتبر اظهار الاجابات المتضمنة في النص تتوقف في كثير من الحالات على طبيعة الأسئلة المتشربة بثقافة الواقع. فهذا هو ما يتميز به مشروع الصدر عن التصور التقليدي لسائر العلماء والمفسرين.

§ مشروع نصر حامد أبو زيد كون الواقع منتج للنص، أي ان النص منتج ثقافي للواقع الاجتماعي لمجتمعات شبة الجزيرة العربية، وهو لا ينكر مصدره الإلهي، فهو يحاول درس الواقع الذي ساهم في تشكيل النص (الابنية الفكرية والاجتماعية والثقافية والتيارات الفكرية والدينية)، ما هي تصوراتكم بصدد هذا المشروع؟

لست اختلف مع المرحوم نصر حامد أبو زيد حول العلاقة المتبادلة في الفهم بين النص وسياق الواقع الذي اقترن به، وان البدء في فهم النص يعتمد على معرفتنا بذلك الواقع وما يتضمنه من بنى تحتية وفوقية. فالنص هو لغة، واللغة تحمل الثقافة، وبالتالي يصبح النص وليد ثقافة المجتمع الذي تأسس فيه. لكن اشكالي هو ان من غير الصحيح التوقف عند حدود هذا التضييق في العلاقة التي تربط النص بالثقافة التي ظهر فيها، وإلا لما كان بالامكان تبرير أي تطور للثقافة والفكر والنصوص. وهنا نحن نتحدث عن أي نص في علاقته بالثقافة. فحتى مع النصوص البشرية هناك تطور في المعاني والثقافة تأتي من خلال النصوص. لذلك فالعنصر الغائب في نظرية حامد أبو زيد هو عنصر (الامكان العقلي المتعالي) على الثقافة السائدة، فمن خلاله فقط يمكن تجاوز هذه الثقافة وطرح البدائل بعد استيعابها أو الاعتماد عليها. وهو ما يفسر لنا حالة التطور الحاصلة في الثقافة والنصوص ومجالات التفكير. بمعنى ان في العقل البشري مساحة للخيارات المتخيلة داخل الوسط الثقافي لينتج منها شيئاً جديداً أو بديلاً، فلا أقلّ من الخيار الرافض للثقافة السائدة واستبدالها باضدادها أو بصور أخرى متخيلة. وهنا تأتي أهمية ما طرحه لالاند في التمييز بين العقل المكوَّن والعقل المكوِّن.

على ذلك لم يكن حامد أبو زيد موفقاً في معالجته لعلاقة الوحي بالكاهن والشاعر، فبحسب وجهة نظره انه لولا الثقافة المبنية على الكهانة والشعر لكان من المستحيل على العربي استيعاب ظاهرة الوحي آنذاك. أو كما صرح بأن وجود الكاهن والشاعر هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها.

في حين نحن نعلم بان اعتراض أهل مكة على الوحي المحمدي جاء عبر رده إلى الكهانة والشعر كما حكى عنهم القرآن الكريم. وبالتالي لم تكن الكهانة والشعر عامل جذب لتقبل الوحي، بل على العكس انهما كانا عامل استبعاد له. ومن ثم فان تقبل ظاهرة الوحي لدى المؤمنين لم يكن بسبب هاتين الثقافتين الانثروبيتين، بل لحاجة إنسانية عامة، وما زالت تظهر هذه الحاجة لدى البشر كلما وجدوا أمامهم إنسداداً كبيراً لمعرفة المجهول الذي يخصهم. فقضية الوحي ليست ثقافية انثروبية بقدر ما هي إنسانية عامة.

§ وفقاً لفرضية ان النص نتاج الواقع، حيث إعادة إحياء النص للشعائر والعادات والتقاليد السابقة للإسلام، وأُضيف إليها صفة الأسلمة.. في هذه الحالية كيف يصبح للنص الاسهام في تغير الواقع؟

ان إعادة إحياء الكثير من التشريعات والعادات القديمة لا يعني ان النص نتاج الواقع، إذ في القبال كانت هناك عادات وتشريعات قديمة منكرة ومرفوضة، وهو ما يدخل ضمن اطار دور الخطاب الديني في تغيير الواقع، مثل تحريمه لظواهر القمار والغرر والخمر والربا واسترقاق المدين وما إلى ذلك. كما له دور آخر في التغيير الأنساني، مثلما ظهر على الصعيد الروحي والنفسي والفكري والاجتماعي للجماعة التي انصاعت له طواعية من الصحابة الكرام. بل ما زال للنص دوره في التغيير ولو من خلال أشكال الفهم المتكأة عليه.

§ ما هو (الواقع) الذي تحاول في هذا المشروع وضعه أمام النص: هل هو الواقع المادي الانتربولوجي أم واقع آخر؟

لقد حللنا الواقع إلى صور عديدة دون ان نتوقف عند حدود الواقع المادي والانثروبي، بل أضفنا إلى ذلك مراتب وصور أخرى لها علاقة بالنص وفهمه. فتارة يتعلق الواقع الانثروبي بمرحلة التنزيل وهو الذي شهد الجدل مع الخطاب، وأخرى يتعلق بما جاء بعد هذه المرحلة، وهو الواقع المعني بالجدل مع الفهم لا النص. فقد انتهت مرحلة الجدل مع الخطاب عند انقطاع الوحي، وما بقي بعد ذلك هو الفهم الجاري إلى يومنا هذا.

كما هناك صور أخرى للواقع مثل الواقع الوصفي المتعلق بالحقائق والسنن والقوانين العامة الطبيعية والاجتماعية. يضاف إلى ذلك الواقع الاعتباري المختص بالقيم كاعتبارات المصالح والمضار. فهذه صور مختلفة للواقع ولها علاقة بفهم النص، سواء على نحو الجدل أو التعارض أو التأييد.. الخ.

§ ما هو موقع (الواقع) في الفكر الإسلامي؟

للأسف لم يكن للواقع شأن في الفكر الإسلامي، فهو مهمش وأشبه بالغائب، وكانت العلاقة السائدة في التراث الإسلامي هي علاقة العقل والنص، بما تتضمن من جدل وفق صور مختلفة: جدل العقل مع العقل، وجدل البيان النصي مع البيان، وجدل العقل مع النص أو البيان. لكن لم يظهر عنوان ملفت حول الواقع واشكاليته مع النص والعقل.

§ لماذا لم يظهر الواقع كمفهوم تحليلي لفهم النص في الفكر الإسلامي الكلاسيكي، فقد ظهر الواقع مع عصر النهضة؟

اعتقد ان ضخامة التحول في الحضارة الحديثة، وصعوبة تكييف النص مع الواقع الجديد وفقاً للأُطر القديمة المألوفة، هي ما دفعت للتركيز على الواقع واعطائه الأهمية دون التوقف عند حدود النص كما هو السائد في الماضي. فقديماً لم تكن حركة الواقع وتحولاته كبيرة بحيث تلفت النظر إلى اهميته كالذي نشهده حالياً.

§ تقول: كما نخلص إلى ان النص والواقع تؤامان محدثان عن الله أحدهما يكشف عما في الآخر من حقائق. ما معنى تلك العبارة؟

معلوم ان الواقع هو من خلق الله تعالى، وان النص هو من أمر الله، وفي كل منهما حقائق تحتاج إلى الكشف. فالنص يحتاج إلى الواقع للكشف عن كثير من دلالاته، ومن ذلك الواقع الانثروبي المتعلق بمرحلة التنزيل، فهو أصل للكشف عما يريده النص من معنى. كذلك فيما يتعلق بتفصيل الواقع للقضايا التي يثيرها النص بالاجمال، ومثلها القضايا التي تبدو خلاف قوانين الطبيعة وان الله يتعامل مع ظواهر الكون بشكل مباشر كالذي يطرحه الاشاعرة. ففي هذه الحالة لا بد من تفسيرها تبعاً لما تتفق به مع هذه القوانين، كالذي جاء حول عمليات تقليب الليل والنهار وإرسال الرياح وتنزيل الماء وزجي السحاب والتأليف بينه ثم جعله ركاماً... الخ.

كذلك فإن الواقع يحتاج أحياناً إلى النص للكشف عن مضامينه، لا أقلّ من ان في النص صوراً عن وقائع السيرة والأحداث خلال مرحلة التنزيل. ومثل ذلك عندما يخبرنا النص بان الله خلق السماوات والأرض بالحق، نعلم بأن لله حكمة عظيمة ربما يمكن الكشف عنها في الواقع. كما عندما يخبرنا النص بأن الأنسان خليفة الله في أرضه، نعلم ان ذلك تبيان لدور هذا الأنسان من الناحية الواقعية. وانه بحسب النص فإن الأنسان يحمل أمانة كبرى: ((إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيْن أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الأنسان أنه كان ظلوماً جهولاً))، وان من يرث الأرض هم عباد الله الصالحون ((إن الأرض يرثها عبادي الصالحون))، ولم يحدد لنا النص طبيعة هؤلاء ومن أي دين، فالآية مطلقة غير محددة بفئة معينة، بدلالة ان التقوى عامة لا تنحصر في المسلم أو غيره كما نص القرآن على ذلك في قوله: ((يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم إنّ اللّه عليم خبير)). كذلك عندما يخبرنا النص بان كل شيء في السماوات والأرض يسبح بحمد الله؛ فإنما يخبر عما في الواقع؛ سواء أدركنا كيفية ذلك أم لم ندركها.

وبالتالي فالعلاقة بين النص والواقع هي ان أحدهما يمكن ان يكشف عن الآخر بالمعنى المشار إليه سلفاً.

§ لماذا لا نعطي للواقع أولوية مطلقة على النص، حيث ان تلك المشكلة تم حلها وهي التي ساهمت في النهضة الغربية الحديثة؟

للواقع مراتب ودرجات، ولا شك ان إحدى هذه المراتب تتضمن هذه الاولوية المطلقة عندما يعبر الواقع عن كونه حقائق تامة. فلا شيء يقف امام حقيقة الواقع القطعية، ومن ذلك ما يتعلق بمضامين النص، لا سيما وان حجية النص مستمدة من مرجعية الواقع. ومثل ذلك يصدق على حالة الواقع الاعتباري المناط بالمصالح والمضار، فهذه العناوين ينبغي ان تكون حاكمة على أحكام النص عند التعارض. وهو ما دعا إليه نجم الدين الطوفي واعتبره أساساً لحل الخلاف والتنازع بين المذاهب الفقهية. ومما قاله بهذا الصدد: ‹‹إن بعض أهل الذمة ربما أراد الإسلام فيمنعه كثرة الخلاف وتعدد الآراء ظناً منه أنهم يخطئون.. ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفادة من قوله (ص): (لا ضرر ولا ضرار) على ما تقرر؛ لإتحد طريق الحكم وانتهى الخلاف، فلم يكن ذلك شبهة في إمتناع من أراد الإسلام من أهل الذمة وغيرهم››.

§ تستخدم كلمة (الواقع) مجردة من الأبنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية.. أي واقع مجرد يمكن ان يجادل النص؟

في الحقيقة ان للواقع صوراً ومراتب مختلفة، وواحدة من هذه الصور تلك المتعلقة بالجدل مع النص أو الخطاب. فالواقع الذي تفاعل مع الخطاب بالجدل هو ذات الواقع الانثروبي خلال فترة تنزيل الوحي. أما بعد ذلك فان صور الجدل لم تكن مع ذات الخطاب، طالما ان الأخير قد انتهى وتحول إلى نص مدون خاضع للفهم، وبالتالي فالجدل التالي والذي ما زال حاضراً وسيبقى هو الجدل مع فهم النص لا النص ذاته. وسواء في حالة الجدل الأول أو الثاني فان المقصود بالواقع هو أبنيته التحتية والفوقية، كالبنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والنفسية.

§ الآليات المستخدمة في تغير الأحكام (النسخ والنسأ والتدرج) تبين ان الواقع يعد حجر الزاوية في تنزيل النص من السماء إلى الأرض؟ فضلاً عن ذلك منحت التشريعات في النص طابع ديناميكي، هل معنى هذا ان التشريعات والأحكام في النص ذات طابع نسبي؟

بالفعل ان تشريعات النص هي تشريعات ذات طابع نسبي لتوقفها على مقاصد التشريع والواقع. فعندما يتغير الواقع فان الحكم المتعلق به قد يفضي إلى التعارض مع المقاصد مما يقتضي تغييره ليتفق معها. وهذا هو المعنى النسبي للتشريعات والأحكام. وقد تتبين هذه النسبية عبر لحاظ التعارضات في الظواهر النصية، بما فيها تلك المتعلقة بالأحكام المعيارية غير الفقهية، كالتوعد بالنار لبعض الجرائم مثل قتل النفس بغير حق تارة، وبامكانية غفران جميع الذنوب عدا الشرك تارة ثانية. ومثل ذلك نجاة كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من أهل الكتاب تارة، وبالخسران لمن يبتغي غير الإسلام ديناً تارة أخرى.

§ فرضيتكم جميلة بعد الاعتماد على حسابات السيوطي في قضايا النسخ التي تساوي عمر الرسالة، أي نسخ واحد في كل سنة، ولكن الحال بعد مرور 1400 سنة مع حساب اتساع الرقعة المكانية وتغيرات الظروف التاريخية، مَن هو المؤهل لتغيير الأحكام أو نسخها الآن بعد انقطاع الوحي بصدد الآخر المختلف دينياً والكافر والمشرك والمرأة والجزية؟

مبدئياً إذا اعتبرنا لكل حكم واقعه وظرفه الخاص فان تغير هذا الواقع والظرف سوف يؤول إلى تغير الحكم، بمعنى أننا أمام حكم جديد لواقع جديد. وبهذا المعنى لا وجود للنسخ. لكن عندما نقول إن الحكم الأول قد تبدل بحكم آخر جديد مع غض الطرف عن تغير الواقع، ففي هذه الحالة نعتبر الحكم الجديد قد نسخ القديم.

أما التطبيق والتنفيذ فيعتمد على بعض الصلاحيات العملية، كصلاحية الدولة الإسلامية أو المرجعية الدينية المقبولة لدى الناس، سواء كانت فقهية أو ثقافية.

§ إذا تمّ اعطاء تلك الصلاحيات للبشر (الفقهاء والمثقفيين الدينيين) في تشريع القوانين وانتاج أحكام جديدة، ألم تصبح المسألة ذاتية وخاضعة للمصالح؟

طالما ان المسألة عملية تقنية فلا بد من مراعاة البحث عن العوامل التي يمكنها تضعيف الشؤون الذاتية والمصالح الشخصية. وهنا ينفع العمل وفق الجماعة والشورى بدل إجتهاد الفرد. وقديماً قال سفيان بن عيينة من علماء القرن الثاني للهجرة: إجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول هو برأيه.

§ تطورات الواقع ترغمنا على اعادة النظر لفهم النص، ألم يكن النص وليد اللحظة التاريخية التي تنزل فيها، كيف نعيد النظر لصياغة فهم النص والواقع وهو وليد تلك اللحظة (القرن السابع الميلادي)؟

إن أي نص، وليس النص الديني فحسب، يخضع إلى قراءات مختلفة، إذ يتأثر بثقافة القارئ وروح عصره. واليوم تجد نظريات القراءة والتلقي تركز على القارئ بعد تغييب المؤلف أو إماتته بحسب تعبير رولان بارت، والقراء غير محدودين، وهم مقيدون بثقافاتهم وعصورهم المختلفة، وبالتالي تتوالد القراءات المتمايزة. وينطبق هذا الحال على النص الديني، إذ يخضع لقراءات متغايرة تتأثر بالثقافات المختلفة. ولا شك ان تطورات الواقع ترغمنا بالفعل على اعادة النظر لفهم النص، إذ نجد الفهم المتوارث أصبح في واد، والواقع في واد آخر، ولا بد من اعادة صياغة العلاقة بين النص والواقع وفقاً لفهم جديد غير معهود، ليُعطى لكل منهما حقه دون افراط ولا تفريط. وبالتالي فان اعتبار النص وليد لحظة زمنية تاريخية لا يلغي اعادة صياغة فهمه بما يناسب مقتضياته ومقتضيات الواقع.

§ هل تتفق معي ان المنظومة التشريعية التي تنزلت في النص تتعلق بمجتمعات شبة الجزيرة العربية؟ وهي غير ملزمة للمجتمعات الأخرى التي امتد داخلها النص؟

إن ما يلزم المجتمعات جميعاً هو المقاصد الدينية والتشريعية. فما يحدد بقاء الأحكام هو هذه المقاصد، بمعنى ان كل حكم يتسق مع المقاصد فهو مطلوب، حتى لو لم نجد له أصلاً في تشريع النص. كذلك العكس صحيح، فكل حكم يتضارب مع المقاصد فهو مرفوض حتى ولو وجدنا له أصلاً في ذلك التشريع. فالقبول والرفض يتحددان بما عليه المقاصد وليس بما عليه الأحكام، ولا ما عليه تطور المجتمعات. صحيح ان تطور الواقع يفضي ولا شك إلى جعل الكثير من أحكام النص الشرعية في مهب الريح، لكن ذلك يتوقف على المقاصد ذاتها لاهميتها الكبرى، فهي غايات والأحكام وسائل، والغايات مقدمة على الوسائل عند التعارض، وبالتالي فهي تتقدم على ما يرد من نص أو اجماع، كالذي ذهب إليه الطوفي الحنبلي من قبل.

§ من وجهة نظري ان الخطاب الديني كان منشغلاً في الواقع الاجتماعي للمجتمعات القبلية في شبة جزيرة العرب في لحظة التنزيل لحل اشكاليات هذا الواقع، أما تعميم الأحكام فقد جاء بعد انقطاع الوحي؟

هناك نصوص في أصل الخطاب الديني تركز على الطبيعة التكليفية للإنسان بما هو إنسان، أو باعتباره خليفة لله على أرضه، فهي علاقة مطلقة من حيث عمومها وإن أمكن ان تتغاير سبل التكليف من مجتمع لآخر. كما هناك موجهات كثيرة للخطاب لا يصح تخصيصها بمجتمع شبه الجزيرة العربية وقت التنزيل. وفي احدى دراساتنا تحدثنا عن عدد منها، وهي: موجهات التفكير ومعرفة الحق، موجهات الإيمان، موجهات العبرة، موجهات الهدي بالمقاصد، موجهات بناء الأمة الصالحة.

§ إن الخطاب الديني كان اذن يطبق منطقاً وقائعيًا في الأحكام، أما في مسألة الكليات (الوعد والوعيد والجنة والنار، الايمان والشرك) فقد قدم تصوراً ماهوياً عنها؟

لقد تعامل الخطاب الديني في مورد الأحكام والقيم تعاملاً قائماً على النهج الوقائعي، رغم انه استخدم صيغاً عامة وكلية أحياناً تبدي وكأنه يتعامل وفق النهج الماهوي الذي يضفي على المشخصات الواقعية أحكاماً وقيماً ثابتة لا تتغير، وهو المسلك الذي تمسك به العلماء والفقهاء إلى يومنا هذا، فاعتبروا ان المصاديق الواقعية تابعة للأحكام الماهوية كما قررها الخطاب الديني من دون التأثر بالصفات الأخرى المتحدة معها. فمثلاً عندما يبدي الخطاب مقته للكفر والشرك، أو الكفار والمشركين بصورة عامة، فانه بحسب النهج الماهوي، ان هذا المقت يلوح كل من تنطبق عليه صفة الكفر والشرك، دون لحاظ ما يمتاز به المشركون والكفار من صفات أخرى، إذ لا يخلو بعضهم من الخير وسائر الصفات الحميدة. فوفقاً لهذا النهج ان الكل متساوون في الحكم رغم اختلاف طبائعهم. أما بحسب النهج الوقائعي فالحال مختلف، فهو يرى ان الخطاب الديني قد راعى حالة التلابس في الصفات والمصاديق لدى المشخصات الواقعية دون التوقف عند المفاهيم الذهنية المنغلق بعضها عن البعض الآخر. فمثلاً نجد الخطاب يؤكد على حب الله لمن آمن به ورسله واليوم الآخر، لكن من حيث المصاديق فليس بامكاننا الزعم ان هذا الحب ينطبق على كل من اتصف بهذه الصفات دون استثناء، فقطعاً انه لا ينطبق على من طغى وتجبر وعثا في الأرض فساداً. وهذا هو فحوى ما نريده من المنهج الوقائعي للخطاب الديني.

§ لماذا لا تستخدم مفرد (واقعي) بديل للمفردة (الوقائعي)، هل هناك اختلاف بين المفردتين في المحتوى الاصطلاحي والمعرفي؟

لقد ميزت بين اللفظين عن قصد، فلفظ واقعي يفيد العموم والشمول لكل ما يندرج تحت مسمى الواقع، أما لفظ وقائعي فانه يوحي بالتخصيص والتضييق، بمعنى ان هناك وقائع محدودة ومخصوصة أو غير عامة هي التي تعامل معها الخطاب الديني، وهي وقائع وأحداث شبه الجزيرة العربية خلال فترة التنزيل حصراً.

§ ما هو المنهج الماهوي؟ ومن هم أبرز رواد هذا المنهج في الفكر الإسلامي؟

أقصد بالمنهج الماهوي هو مسلك يرى ان الخطاب الديني يتعامل مع المشخصات الخارجية وفقاً لاعتبارات الماهية أو الطبيعة الكلية الثابتة دون التأثر بالملابسات الواقعية للصفات المختلفة. فمثلاً إن مفاهيم الشرك والكفر والايمان والذكورة والشجاعة والعلم والكرم وما إليها هي مفاهيم ذهنية كلية، ولها مصاديقها الخارجية. ومع ان هذه المفاهيم الذهنية بعضها متميز ومستقل عن البعض الآخر تماماً، لكنها من حيث المصاديق ليس لها استقلالية بالمرة، فهي لا بد من ان تجتمع فيما بينها ضمن اطار شخص جامع. فالكلي معدوم في الواقع الخارجي، إذ ليس في الأخير إلا الجزئي المشخص، وهذا الأخير عندما يعبّر عن صفة فانه لا يمتلك لنفسه الخصوصية والانغلاق، بل لا بد لوجوده من ان يكون مرتبطاً بغيره من المصاديق والجزئيات التابعة بدورها لكليات ذهنية أخرى مستقلة. فمثلاً إن مفهوم الايمان هو غير مفهوم الذكورة، وهما غير مفهوم الشيخوخة، وغير مفهوم الجهل والكرم والضعف أو مضاداتها. لكن هذه المفاهيم المختلفة يمكنها ان تجتمع في شخص واحد جامع لها، فيكون الشخص ذكراً وشيخاً ومؤمناً وجاهلاً وكريماً وضعيفاً. وليس بين هذه الصفات شيء من التلازم، فقد يجتمع بعضها مع أضداد البعض الآخر في الشخص الواحد. ووفقاً للمنهج الماهوي ان تعامل الخطاب مع المصاديق يتبع ما عليه موقفه من المفاهيم الكلية والعمومات والاطلاقات وما يخصصها بحسب النص من دون زيادة ولا نقصان، فاذا ما اتخذ موقفاً محدداً ازاء مفهوم معين مثلاً فان الشخص الذي يحمل صفة هذا المفهوم سيخضع إلى ذات الموقف، فالكلي لا يوجد الا بمصاديقه، وهذه المصاديق تتحد مع غيرها من الصفات العائدة إلى مفاهيم أخرى، وبحسب النهج الماهوي فان هذا الارتباط والاتحاد بين الصفات المختلفة للشخص لا يؤثر في نتيجة الحكم على واحدة منها هي تلك التي نطق بها الخطاب الديني. فالحكم الماهوي ثابت بالنسبة إلى الصفة المنصوص فيها من دون علاقة بسائر الصفات الأخرى غير المقررة.

أما العلماء الذين تعاملوا بهذا المنهج فهم ذات الفقهاء من المذاهب الإسلامية قاطبة من دون خلاف.

§ ما هو المنهج الوقائعي؟ ومن هم أبرز رواد هذا المنهج في الفكر الإسلامي؟

 نقصد بالمنهج الوقائعي هو ذلك المسلك الذي يعتبر الخطاب الديني يتعامل مع المشخصات الخارجية بشيء من المرونة باعتبارها تحمل صفات مختلفة ومتضادة أحياناً. فعلى الرغم من ان الخطاب يبدي الصرامة ازاء المفاهيم الكلية والعمومات والاطلاقات، لكن حيث ان هذه المفاهيم لا يمكنها ان توجد باستقلال وانفصال على أرض الواقع، إذ مصاديقها الواقعية متحدة بغيرها من الصفات، وهي تعود إلى مفاهيم أخرى مغايرة، فكل ذلك يمنع من ان يتم التعامل مع أي منها وفق المنهج الماهوي، بل لا بد من أخذ اعتبار هذا الاختلاط في الصفات المتغايرة ومن ثم التعامل معها وفق النهج الوقائعي.

ونحن نعتقد بان هذا المنهج الذي أسسناه هو الصائب في كشفه عن تعامل الخطاب الديني مع قضايا الواقع خلال فترة التنزيل.

§ يعد التشريع أحد أهم المرتكزات في العلاقة بين الواقع والنص، هل تمتلك تلك النصوص التشريعية صفة الشمولية والحاكمية لحد الآن؟

لقد ذكرنا بأن الأمر يتوقف على المقاصد. فالاحكام والتشريعات تظل نسبية دون ان تتخذ صفة الشمول والثبات ما لم تتسق مع المقاصد وتتفق معها بإحكام. فللمقاصد الشمول والاطلاق، وللأحكام التضييق والنسبية. فعادة ما تميل الأحكام ذات الطابع الاخلاقي إلى الثبات، كحرمة السرقة والغش والاحتيال والقتل والخيانة والكذب والغيبة وما إليها. في حين إن غيرها من الأحكام تميل إلى التغير ما لم تكن من التعبديات التي لا يدرك مقصدها.

§ لماذا النص عاجز لحد الآن في انتاج آلاف القوانين الحديثة؟ خذ قوانين البحار، الفضاء، الطيران، الانترنت، السيارات، الشركات العالمية، الأمم المتحدة، السياسة، العلاقات الخارجية، العلاقات الداخلية، قوانين الرياضة، البرلمان، الحكومة، الدولة، تقسيم السلطات، الاعلام، الجريمة.. لماذا نبخس العقل البشري في حل مشكلة السرقة أو رجم الزانية؟

اذا اعتبرنا الأحكام نسبية، وانها جاءت في النص تلبية لحاجات المجتمع خلال القرن السابع الميلادي فذلك يرفع عن النص شبهة النقص والعجز. فليست هذه الأحكام معنية بالقوانين الحديثة، انما المعني فيها ذات المقاصد أو مراعاة المصالح العامة.

§ ألم ترَ معي ان تغير الأحكام في النص بعد تناقضها مع الواقع في العصر الحديث يؤدي إلى الاخلال بالنص وقداسته ومطلقيته؟

ان قداسة النص ومصداقيته ليست رهينة الأحكام، فتغير الأحكام لم يتوقف على لحظة ظهور العصر الحديث، فهو صفة ملازمة للنص ذاته، بمعنى ان الخطاب قد مارس تغيير الأحكام طيلة فترة تنزيله. لذا فالمسألة لا تتوقف على ظهور المجتمعات الجديدة والحديثة، إذ كان الخطاب يمارس تغيير الأحكام بطلاقة عند اقتضاء الواقع، وهو ما عبرنا عنه بظاهرة الجدل بين الخطاب والواقع، فأحدهما متأثر بالآخر، ومحور تأثير الواقع على النص قد ظهر بأشكال مختلفة كان أهمها تغيير الأحكام أو ما يعبر عنه بالنسخ. وهو ظاهرة ثرية، فمثلما تصدق هذه الظاهرة على علاقة الخطاب بالواقع فانها تصدق أيضاً على جميع المبادرات الإجتهادية عبر التاريخ؛ بانفتاح لا يقبل السد والانغلاق؛ طالما ان الواقع متجدد على الدوام دون توقف.

§ هل معنى ذلك ان تلك الأحكام كانت مبنية على النسبي وهي منزلة؟ أم كانت أحكاماً قطعية سرمدية؟

لا شك ان النسبي لا يتعارض بالضرورة مع القطعي. فقد يكون الحكم قطعياً ونسبياً معاً، فهو قطعي لاعتقادنا بثبوته دون أدنى شك، لكنه نسبي عندما نعتبر المجال الذي يتحرك فيه مضيقاً ومحدوداً، كأن يتعلق بالسياق الظرفي أو التاريخي. لذا فمن حيث المبدأ تتصف الأحكام الدينية الاصلية بهاتين الصفتين. وهي قضية تصدق على الأحكام التي ينسخ بعضها البعض الآخر، إذ الحكم المنسوخ هو حكم قطعي لكنه نسبي في ذات الوقت.

§ مشروعكم جدلية الواقع والنص ألم يمثل محاولة لامتصاص الصدامات المعرفية والضغوطات التاريخية، وقد أسهمت عوامل بنيوية معقّدة داخل المجتمعات الإسلامية في هذا؟

اعتبر مشروعي في جدلية الخطاب والواقع وليد حقيقتين واضحتين للعيان: الأولى مبعثها ان النص الديني ذاته كشف عن تضمنه للجدل مع الواقع عبر ظاهرة النسخ وما إليها. لكن هذا الحال لم يلفت نظرنا إلا بعد الوعي بالحقيقة الثانية، وهي لحاظ التباعد المضطرد بين واقعنا الحديث والاحكام الموروثة، سواء الفقهية الإجتهادية أو الدينية الأصلية، إلى درجة انه لا يمكن التوفيق بينهما ما لم يتم تغيير منهج الفهم وطريقة التفكير، وهو ما يبعث على اعادة النظر في النص الديني وعلاقته بالواقع، ومنه الواقع الذي نزل فيه الخطاب بجميع ملابساته الظرفية والتاريخية والحضارية وما تضمنته من بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية ونفسية. وبالتالي فان الحقيقة الثانية وليس الأولى هي التي حفزتنا على اعادة النظر في تغيير الموقف المترسم للفهم الديني، بل ومن خلالها انتبهنا إلى أهمية الحقيقة الأولى في حل التعارض الحاصل بين واقعنا المتغير من جهة، والنص الذي تم تحنيطه من دون تحريك من جهة ثانية.

§ هل ان التشريعات المنزلة ناقصة وتحتاج إلى البشر بعد انقطاع الوحي من أجل اكمالها؟

إذا قلنا بأن لكل واقع تشريعاته التي تخصه، بحيث من غير المعقول اسقاط نفس التشريع على كافة المجتمعات دون تغاير، ففي هذه الحالة تصبح التشريعات المنزلة لا تتصف بالنقص، وهي في مرونتها واستنادها إلى المقاصد تؤكد كمالها. لذلك لو كانت الأحكام ثابتة لتبين جمودها وعدم مواكبتها لتطورات الواقع ومن ثم قصورها ونقصها. ومعلوم ان تشريع الخطاب كان يتصف بالمرونة التامة، وقد اعتمد الخلفاء الراشدون على هذه المرونة ليؤكدوا حالات التغاير في تعاملهم مع الوقائع المستحدثة والظروف الجديدة.. وكان العمل ينطوي على النظر إلى المقاصد دون الأحكام ذاتها.

§ تشكل ظاهرتا الحلال والحرام إحدى المرتكزات في النص، هل ان هاتين الثيمتين خاضعة للتعديل وفقاً للأزمنة وتغير أحوال الناس؟

هناك آيتان كريمتان وردتا حول الحلال والحرام، وهما تشيران إلى ان تشريعهما لا يصح إلا من قبل الله تعالى. فإحداهما تنص: ((قل أرأيتُم ما أنزلَ اللهُ لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل أاللهُ أذنَ لكم أم على الله تفترون)). وتنص الثانية: ((ولا تقولوا لما تَصفُ ألسِنتُكم الكذِبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذبَ..)).

ويتبين من خلال هاتين الآيتين، وحتى بدونهما، انه لا يصح نسبة الحلال والحرام إلى الله تعالى ما لم تكن لدينا بينة واضحة أو قطعية، وإلا فهو كذب وافتراء بحسب تعبير الآيتين. لكن في أغلب الاحوال لسنا مضطرين للتعامل مع القضايا الفقهية بمنطق الحلال والحرام ونسبتهما إلى الله، خصوصاً مع القضايا المستحدثة. فيمكن ان يكون التعامل إجتهادياً وابداء الرأي واتخاذ الموقف دون ادخال اسم الجلالة في الموضوع. وقد وردت بعض الأحاديث والأخبار التي ترجح مثل هذا الفعل للقضايا غير المعلومة قطعاً. كما وردت مثل هذه الإشارة  عن بعض السلف، مثلما قال مالك بن أنس: ‹‹لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركتُ أحداً أقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام››.

§ ماذا تعني بالجدل بين النص والواقع، هل المسألة اعادة انتاج فهم النص أم المسألة اعادة التأويل والاستبعاد، أي استبعاد النصوص غير المتطابقة مع الواقع وحركته؟

الجدل بين النص والواقع هو وصف وتقرير لحقيقة لا شك فيها، فقد حصل نوع من الجدل في تأثير كل منهما على الآخر، وليس كما صوّره التراثيون من ان النص فارض نفسه على الواقع كلياً، وانه ليس للواقع من دور سوى الانصياع وقبول ما يتنزل عليه من خطاب..

لكن التقرير الوصفي يدفع إلى الفعل المعياري، وهو انه إذا كان حال النص مع الواقع بهذا الشكل من الاستجابة للواقع والانصياع إليه أحياناً، فلماذا لا يكون لنا حق تفعيل مثل هذا الفعل والجدل وفق المقاصد الشرعية؟!

اطرف ما في الأمر ان هذا الحال كان يمارسه الصحابة أحياناً بحسب ما يروى عنهم، فمن المسلم به لدى المذاهب الفقهية ان عمر بن الخطاب منع صرف سهم المؤلفة قلوبهم المصرح به في القرآن الكريم استناداً إلى أحد المقاصد الخاصة، ومع ذلك لم تردنا إشارة  تدل على اعتراض الصحابة أو بعضهم لما فعله الخليفة العادل. مع ان مثل هذا التصرف يعد من الناحية المبدئية لدى جميع المذاهب الفقهية ضرباً للقرآن الكريم وإجتهاداً في قبال النص، بما في ذلك ما يقره فقهاء أهل السنة، فرغم انهم يعتقدون بممارسة عمر لهذا الدور دون اعتراض لكنهم من الناحية النظرية لم يسمحوا لأنفسهم القيام بمثله.. فالمقاصد الواردة لديهم موضوعة للتبرير لا للتأسيس.

§ نزول الخطاب من السماء إلى الأرض يجعل الخطاب ممارسة اجتماعية، الفرضية أقرب إلى فرضيات حامد أبو زيد، هل ان الشروط الاجتماعية – السياسية هي التي تحدد خصائص النص؟

بلا شك ان الخطاب الديني عندما تنزل إلى الواقع الاجتماعي قد اتخذ ذات الوسائل المعتمدة والمألوفة لايصال الرسالة التي حملها، وهي الاعتماد اللغوي والثقافي، وهو ما يجعله يمارس دوراً اجتماعياً على الصعيد الانثروبي. أي انه يخضع من هذه الناحية إلى الشروط الانثروبية والثقافية التي تحدد شيئاً من خصائصه، وهو ما ركز عليه المرحوم حامد أبو زيد. لكن للخطاب خاصية ثانية تتعالى على هذا الواقع الثقافي، وهي ما تحفظ له استقلاله النسبي في التأثير والاطلاق والشمول وفقاً لوجود عوامل أخرى ليست مستنسخة عن الواقع المشار إليه.

§ اللغة جزء من المجتمع، فضلاً عن ذلك ان اللغة سيرورة مشروطة اجتماعياً، أي ان الظواهر اللغوية هي ظواهر اجتماعية والظواهر الاجتماعية هي جزئياً ظواهر لغوية، اذن تحليل الخطاب يشتمل على السيرورة التأويلية وانتاج النص؟ وعندما نزل النص إلى الأرض نزل بلغة العرب وأدواتهم المادية؟ فهو خاضع للتغير كما تخضع اللغة للتغير؟

لا يبدو ان مقصودك بخضوع النص للتغير هو تغير ذات النص، وانما تقصد أحكامه وتقديراته ومعارفه. لأنه حتى النصوص البشرية تتقبل البقاء دون تغير، والذي يتغير فيها المفاهيم والمعارف واعتبارها نسبية ومتأثرة بشروطها الاجتماعية والثقافية. لكن مع ذلك فالنص الديني وحتى النصوص البشرية لا تستنسخ الواقع الثقافي الذي تظهر فيه بالضرورة، ولو كان الأمر كذلك لما حصل أي تطور ممكن. لذلك ان النصوص القوية تتمكن من خلق فضاءات خلاقة وأطر معرفية جديدة دون امكانية ردها بسهولة إلى الواقع الثقافي الذي ظهرت فيه. وكثيراً ما يدعو ذلك إلى ان تكون محلاً للقراءات المفتوحة، كالذي تؤكد عليه نظريات التلقي وقراءات ما بعد الحداثة. ولا شك ان الخطاب الديني يمتلك مثل هذه الفضاءات في الموارد غير المتعلقة بالأحكام والفقه عادة. وهي التي يعود إليها الدور في التأثير الحيوي في النفس البشرية إلى يومنا هذا بلا مضاهي.

§ من خلال ظاهرة الناسخ والمنسوخ والتي يختلف عدد آياتها بين علماء الدين والمؤرخين نكتشف ان المسألة لا تنبع من جدل الواقع مع النص، وانما من فهم الواقعة الأنسانية من قبل العلماء، وباختلاف هذا الفهم تختلف الآيات المنسوخة؟

رغم اختلاف العلماء حول عدد الآيات المنسوخة لكن من المؤكد وبدلالة عدد من الآيات الكريمة الواضحة ان هناك ما خضع للنسخ أو تغيير الحكم، وليس له من تفسير غير تأثر النص بالواقع، فأحدهما قد أثّر على الآخر أو استجاب له بشكل أو بآخر، وهو ما نقصده من حالة الجدل بينهما.

§ ظاهرة الناسخ والمنسوخ تعد إحدى الثيمات الأساسية في جدل النص والواقع وكان من الممكن ان تشكل إحدى الركائز الصلبة؛ وذلك انها تعبر عن جانبين: الجانب الأول فكرة البناء الهرمي للنص، والجانب الثاني استبعاد النصوص وأحكامها التي فقدت شرعيتها الواقعية، الم يكن بالامكان اقامة منظومة للناسخ والمنسوخ يجري من خلالها استبعاد النصوص التي لا تطابق الواقع في القرن الحادي والعشرين؟

لا شك ان من الصعب على الفقهاء ان يقوموا بمثل هذا الدور، فهم متعبدون بآخر ما ثبت من التشريعات الدينية، سواء الناسخة منها أو التي لم تتأثر بالحركة النسخية. ففي اعتقادهم ان هذه التشريعات التي بقيت محفوظة إلى وفاة النبي (ص) هي التي تمثل صلب الدين والأحكام الإلهية المطلقة والتي لا يمكن تأثرها بالوقائع المستجدة أو الظروف المستحدثة عبر التاريخ، فهي من وجهة نظرهم صالحة للتطبيق على كل زمان ومكان، وفي كل عصر وحضارة. طبعاً هذا من الناحية النظرية، أما من حيث الواقع فنلاحظ ان الكثير من الأحكام والتشريعات يصعب إحياؤها من جديد بسبب ضغط الواقع، فهي بالنتيجة بمنزلة الأحكام المنسوخة أو المهملة. كذلك فان ما يستفاد من النسخ ليس الالغاء الكلي، فالحكم الذي يصادم المقاصد الدينية اليوم قد يكون متسقاً معها غداً، وبالتالي فان الأحكام ينبغي ان تتحرك وفق تحرك الواقع. فحركة الاخير ليست خطية دائماً، فقد تكون دائرية، وإذا أردنا للأحكام ان تكون على اتساق مع المقاصد دون انحراف فلا بد من جعلها تجري بما يتناسب مع جريان الواقع خطاً ودوراناً.

§ الدين هو المعاملات، حيث نرى ان كل جماعة دينية أو طائفة لها قراءتها الخاصة للنص الديني والتشريعي، وهذه القراءة ايديولوجية رسمية للجماعة الدينية، في حالة وصولها إلى سلطة الدولة سوف تقيم تظاماً شمولياً يتطابق مع قراءتها للنص التشريعي، هل هناك آليات تفرض على الجماعات الدينية حتى يتطابق النص مع الواقع الأنساني؟ أم ان المسألة فهم وأدوات سلطة؟

 حقيقة الأمر ان كلا الحالين يجري، فمن الممكن ايجاد آليات لقراءة النص محكومة بالضبط الابستيمي، بحيث يتضمن توافق النص أو فهمه مع الواقع الأنساني دون معارضة طبقاً للمقاصد الدينية. كذلك فان تأثير العنصر الايديولوجي في الفهم هو حقيقة نلمسها في قراءات المذاهب الدينية وذوي المصالح السياسية وما إليها.

§ من خلال قراءتي للنص استطعت ان اكتشف جهودكم الأنسانية، كيف يمكن ومن خلال شروط معرفية الانتقال من فقه النص إلى فقه الواقع؟

يتأسس فقه الواقع على قاعدة المصالح والمضار والتي تتحكم بها المقاصد العامة. ففي كل قضية واقعية يمكن دراستها من مختلف الجوانب وفقاً لميزان المصالح والمضار، فكل مصلحة عامة مطلوبة، وعلى خلافها المضرة. وقد تتزاحم المصالح مع بعضها، أو المضار مع بعضها، ففي هذه الحالة يؤخذ بما هو أقوى مصلحة وأقل ضرراً. وحتى حينما يتعارض فقه النص مع فقه الواقع فانه ينبغي العمل وفق فقه الواقع وترجيحه على فقه النص لاعتبارات المقاصد العامة، كالتي بشر بها نجم الدين الطوفي الحنبلي وان كان ذلك لم يرضِ الفقهاء سنة وشيعة.

§ هل يتحدد النص هنا في جدلية مع الواقع المادي بكل أشكاله أم مع واقع آخر؟ 

إذا كان القصد من السؤال هو موقفنا من حالة جدل النص الديني مع الواقع، فما نعتقده هو ان الواقع لا ينحصر في جدله مع النص بالعنصر المادي، فبالإضافة إليه هناك العنصر المعنوي أيضاً.

§ هذه التفاصيل وسردياتها بصدد التغيرات الحاصلة في معاني الآيات القرانية، ألم تكن مرتبطة بصراع الايديولوجيات والسلطة المعرفية للعلماء وصراع الطوائف؟

لا يمكن ارجاع كافة المعارف والتفاسير المتعلقة بمعان الآيات القرآنية إلى الصراعات الآيديولوجية بأشكالها المختلفة، رغم ان لها حيزاً كبيراً في بناء الفهم الديني. لكن يضاف إلى ذلك هناك الفهم الذي لا يجد مكانه في هذه الصراعات، وهو الفهم الذي يمكن اخذه بعين الاعتبار وفق الطرح الابستمولوجي.

comments powered by Disqus