-
ع
+

حوارات فهم الدين مع يحيى محمد (3): الحضارة الاسلامية والتنظيرات الضمنية

 (ضمن سلسلة حوارات الصحفي العراقي يوسف محسن)

الأوربيون منذ عصر النهضة واحياء التراث الادبي والفلسفي اليوناني اجروا عملية نقد للعقل اليوناني قبل بناء الموضوع الخارجي (للحضارة الغربية) نحن ماذا نفعل كمجتمعات اسلامية هل نقوم باحياء التراث الفكري والسياسي والفلسفي للحضارة الاسلامية ونقدة قبل بناء الموضوع الخارجي، ماهي الادوات للبناء ، باي ادوات ننقد العقل الاسلامي؟ يحيى محمد يجيب على تساءلاتنا في حوار طويل ومتشعب: لا بد من النقد ابتداءاً ثم البناء، فسلطة تراثنا الاسلامي مازالت قوية جداً لا تدع مجالاً للترك والاهمال. وبالتالي فالنقد لا بد من ان يكون عبر العقل الاسلامي ذاته، وهو اشمل من العقل التراثي، حتى لا يقال انك تنقد العقل التراثي بعقل مثله، او تنقد التراث بالتراث.. كما لا يقال انك تنقد العقل التراثي بعقل اخر غير اسلامي. فحضور العقل الاسلامي في نقده لذاته ضرورة ملحة واصيلة.

 

نص الحوار

§   شكل غياب الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري الملقب بالمهدي المنتظر) نقطة تحول داخل الحقل الشيعي في مجال التنظير العقلي أي تقنيين العقيدة والفقه والممارسات السياسية والفكرية، هل جاء هذا التحول تحت وطأة غياب الإمام؟ أم نتيجة للحاجات والتطورات الحاصلة في الأنظمة المعرفية الدينية المتنافسة من اجل الاستحواذ على الرأسمال الرمزي الديني؟

من حيث الاساس يستند مبرر التنظير العقلي لدى الشيعة الى التحول الحاصل تحت وطأة غياب الامام. فقبل ذلك كان العلماء يلجأون الى الائمة دون ان يكون لهم رأي خاص في الغالب. لكن مع غيبة الامام اقتضت الضرورة الاعتماد على الرأي ومن ثم التنظير، وبعد ذلك ظهرت الحاجة الى تكريس الاخير وتعميقه بحكم التنافس والاستحواذ على الرصيد الديني، كالذي ابداه الشيخ ابو جعفر الطوسي ونص عليه في بعض كتبه خلال القرن الخامس الهجري.

§  بودي الحصول على الخطوط العريضة للتنظير في الحقل السني (تقنين العقيدة والفقه) والذي كان سابقاً للحقل الشيعي بفترة لا تقل عن قرنيين من الزمن ؟

ان اعتبار العقيدة هو غير اعتبار الفقه، فالعقيدة مرتبطة بالاصول، وهي تشكل موضوع دراسة علم الكلام، في حين ان الفقه يعود للفروع ولا علاقة له بالكلام. وبالتالي فالفقه ينتمي كاملاً الى الدائرة البيانية، خلافاً للكلام الذي ينتمي في غالبه الى الدائرة العقلية. وفي كلاهما ظهرت تطورات من المرحلة التلقائية الى التنظير. فعلى الصعيد المنهجي نعتقد بان الدائرة البيانية كانت متقدمة في تنظيرها وتقنينها للفقه مقارنة بالكلام او العقيدة، فالتقنين الفقهي ظهر خلال القرن الثاني للهجرة، وكان اهم شخصية في هذا المجال هو الشافعي باعتباره المنظر الاول للاجتهاد ومؤسس علم اصول الفقه، وهو العلم المتعلق بالتقنين الفقهي. في حين تأخر التنظير العقائدي لدى هذه الدائرة كما في علم الكلام حتى القرن الخامس للهجرة، وقد تجلى ذلك لدى ابن حزم الظاهري، ثم تطور بعد ذلك لدى ابن تيمية خلال القرن الثامن للهجرة، وهو ما نعده نهاية التنظير البياني للعقيدة لدى حقل الفضاء السني. اما على صعيد الدائرة العقلية فقد كان التنظير في العقيدة متقدماً كثيراً على ما شهدته الدائرة البيانية في هذا المجال، اذ بدأ منذ القرن الثاني ومن ثم اخذ افاقاً من التطور خلال القرون التالية، وكان من ابرز هذه التطورات ظهور الحركة المزدوجة للاشاعرة في الدفاع عن العقيدة البيانية الحنبلية او السلفية، من خلال الجدل العقلي، كالذي باشره ابو الحسن الاشعري مؤسس مذهب الاشاعرة خلال القرن الرابع الهجري، وكان من اهم هذه القضايا التي دافع عنها الاشعري في وجه خصومه المعتزلة قضية الصفات الالهية كما وردت في القرآن والحديث. لكن الامر تطور داخل هذا المذهب الى خلاف ما اراد له مؤسسه، فقد ظهر لدى متأخري الاشاعرة نزعة تخالف العقيدة البيانية السلفية المتمثلة باعتقادات المذهب الحنبلي، اذ نحا الاشاعرة المتأخرون الى تأويل الصفات الالهية وعدم قبول الظاهر البياني للاعتقادات الحنبلية او السلفية، مثلما سبقهم في ذلك المعتزلة وغيرهم.

§   تعد مسألة الامامة أهم مسألة في الحقل الشيعي، كيف ظهرت تلك المسألة في التنظيرات الشيعية بحقلها العقلي والبياني ؟

تعتبر مسألة الامامة محور الاتفاق بين الاتجاهين العقلي والبياني لدى الشيعة ضمن النظام المعياري. فكلا الاتجاهين يعتقد بان الامامة هي امتداد لرسالة نبينا الاكرم. ويركز الاتجاه البياني في اثباتها على النصوص والاخبار الدالة في هذا المقام، فيما يركز الاتجاه العقلي على الابعاد العقلية من حيث ضرورة وجود الامام لصيانة التكليف وانه واجب التعيين على الله تعالى، وان الاستدلال العقلي عليها سابق للاستدلال البياني او النصي، فالاخير يأتي لتأكيد وتفصيل ما لدى الاول. وكثيراً ما تطرح المسألة على النحوين العقلي والنصي لدى الاتجاه العقلي، مثل الاحتجاجات التي كان يطرحها الشيخ المفيد وتلميذه الشريف المرتضى والعلامة الحلي وغيرهم الى يومنا هذا.

§  ما هي العوامل الحافة او الحاجات المعرفية التي أظهرت تلك المسألة الى الوجود في الفكر الشيعي ؟

ترتبط فكرة الامامة لدى الشيعة بتطورات الصراع السياسي مع الامويين، اذ شكلت هذه الفكرة حاجة معرفية للوقوف ضد سلطة هؤلاء. فقد كان لأهل البيت ارث ديني عظيم، وكان من الممكن مناجزة السلطة الحاكمة عبر توظيف هذا الارث، ومن ذلك ظهرت فكرة الامامة لدى الاتباع، لا سيما ان لها مبرراتها التاريخية والنصوصية. وبحسب المعطيات التاريخية ان اول ظهور لهذه الفكرة كان ملتبساً بالثوب المغالي كأثر من اثار الصراع السياسي ذاته. وقد استمر هذا القِران المزدوج بين الامامة والغلو منذ تلك اللحظة وحتى يومنا هذا دون توقف. وهو ما جعل تيارات عديدة تستغل هذا الحال لاغراض ايديولوجية شتى؛ بما في ذلك زرع الفرقة بين المسلمين لاضعاف سلطتهم.

ومن حيث المبررات الموضوعية فهي ان لفكرة الامامة جذوراً تاريخية تمتد الى ما بعد وفاة النبي مباشرة. فبحسب المعطيات التي وصلتنا كان الامام علي معارضاً لحكم الخليفة ابي بكر، وكان يرى نفسه احق بالخلافة من غيره، وهو وان تنازل عن حقه الشخصي لكن الفكرة بقيت لدى الكثير من اتباعه، الى درجة انها جُندت في الصراع السياسي مع بني امية وبني العباس. واول فرقة سياسية ادعت الامامة هي الكيسانية والتي معها بدأ الغلو. هذا اذا ما استبعدنا شخصية عبد الله بن سبأ وما نسب اليه من الغلو والقول بالامامة والوصية معاً.

وعلى العموم ان هذه الفترة من الصراع مع بني امية شهدت بداية القِران الحاصل بين فكرة الامامة وظاهرة الغلو تبعاً للعوامل السياسية، اذ كان اهل البيت الضحية الاولى في تلك الظروف الحالكة لما تحملوه من ظلم واجحاف وقتل وسبي وإبعاد، رغم مكانتهم العظيمة على الصعيد الديني والعلمي والنسب.

على ذلك يبدو ان الاحتجاج بالنصوص والاخبار على فكرة الامامة جاء متأخراً عن التصورات المغالية، او ظاهرة القِران بين الامامة والغلو. ونقصد بالنصوص تلك التي تم الاستدلال بها على كون علي (ع) هو الامام بعد النبي (ص)، ومن ثم اولاده من بعده، كحديث الغدير والثقلين والسفينة الناجية وباب العلم وغيرها، وهو التصور المعتدل غير المغالي، والذي شكّل محل اتفاق الشيعة قاطبة، سواء المغالين منهم او المعتدلين.

§   لماذا شكلت تلك الأهمية في الإيديولوجية الشيعية ؟

في البداية كان التوظيف الايديولوجي للامامة لدى الشيعة قائماً على الاسباب السياسية. لكن الحال تطور فيما بعد ليصبح سلاحاً للمنافسة مع الاخر لاثبات الذات، ومازال الامر كذلك. اذ تنبع اهمية الامامة بما لها من قدرة للحفاظ على وحدة الجماعة قبال الاخر بما يشبه حالة التنافس الحاصلة بين القبائل والعشائر.

§   لماذا تم اسطره (الامامة) في الفكر الشيعي وتصعيده من الواقع إلى الميتا - واقع ؟

كان للصراع السياسي الدور الكبير في هذا التصعيد خلال الخلافتين الاموية والعباسية، وفي هذه الفترة كان المغالون يركزون على وجود اشخاص معينيين يضفون عليهم الوصف المغالي، فهناك شريحة كبيرة من الاتباع تعتقد بان الامامة تتضمن ابعاداً مغالية وحاضرة في اشخاص مازالوا احياء، وهم بحاجة الى مثل هذا التصور امام الخصوم. فقد كانت الفكرة المغالية فاعلة ومؤثرة في الذهنية الشيعية، ولها دور في الصراع السياسي. لكن بعد ذهاب الائمة لم يعد للتوظيف السياسي مبرر، لذلك تمثل الدور الباقي من توظيف الامامة في الحفاظ على وحدة الكيان الشيعي من خلال الاكتفاء بالمحاججات الكلامية. ومع انه خلال فترة الائمة كانت هناك بعض المحاججات التي وظفت فيها هذه الفكرة، الا انه بعد غيابهم اصبح التوظيف لها مثالياً لا يستند الى واقع، طالما فقدت رصيدها السياسي بعد هذا الغياب، ولم يعد لها فائدة اكثر من الحفاظ على وحدة المجتمع الشيعي. وحديثاً اخذت هذه الاحتجاجات القائمة على التوظيف المذكور تفقد شيئاً من اعتبارها بعدما راجت فكرة ولاية الفقيه المطلقة. فمع هذه الفكرة الجديدة والتي انزلت الشيعة من البرج السماوي الى الارض، غابت الاسس التي كان يُعتمد عليها في الجدل مع الخصم لدى الكتب الكلامية. بمعنى انه اذا كان لعلم الكلام الشيعي دور التحكم في الفقه، كما يظهر حول القضايا السياسية، فان العكس اصبح السائد فيما بعد. فبفضل ولاية الفقيه المطلقة اصبح الفقه حاكماً على الكلام في هذه الناحية من دون عكس.

وبالتالي هناك مراحل ثلاث لتوظيف فكرة الامامة لدى الشيعة عبر التاريخ كالتالي:

مرحلة التوظيف السياسي، وهي التي سادت خلال فترة حياة الائمة، اذ كان الغرض من فكرة الامامة هو الاستحواذ على السلطة السياسية. وكانت اولى الفرق التي سعت لهذا الدور هي الكيسانية.

مرحلة الحفاظ على الكيان الشيعي، وهي التي سادت خلال فترة ذهاب الائمة في عصر ما يعرف بالغيبة، ففيها تم توظيف الفكرة السابقة للحفاظ على وحدة الكيان الشيعي فحسب، وكان السبيل لذلك هو المحاججات الكلامية بعد افراغها من التوظيف السياسي.

مرحلة الالتفاف والنزول الى الواقع، وهي مرحلة حديثة استبدلت فيها الامامة السياسية بفكرة ولاية الفقيه عبر الالتفاف على الاولى.

§  مسألة العصمة التي تشكل الحلقة الثانية من حيث الأهمية في الفكر الشيعي، على ضوئها تم تأسيس عصمة الأئمة ، كيف تطور هذا المفهوم في الفكر الشيعي وهل يشكل مصدر خلاف داخل الحقل الشيعي؟

عادة ان من ينسب العصمة للأئمة يتصف بالغلو. وقد كان اصحاب الائمة مختلفين حول هذا النحو من الوصف. فمنهم من يُتهم بالغلو والتفويض، كما منهم من يُتهم بالتقصير. وبالتالي فالنظريتان كانتا حاضريتين جنباً الى جنب. فمثلما كان هناك من يقول بعصمة الائمة وانهم يحملون العلم اللدني ولهم معاجز وكرامات، كان يخالفهم اخرون اذ يقولون بان الأئمة هم علماء ابرار ومن كمّل المؤمنين مع نفي العصمة، مثلما هو حال القميين وغيرهم، وكان من اهم الفرق الداعية لهذا الاتجاه فرقة تسمى (اليعفورية) نسبة إلى عبد الله بن أبي يعفور، وهو كوفي من أصحاب الإمام الصادق والمقرّبين إليه. كما كان ابن الجنيد – وهو استاذ الشيخ المفيد - يرى ان الأئمة يجتهدون ويعملون بالرأي، وذلك عندما وجد الأقوال المنقولة عنهم متضاربة.

لكن مآل الحال هو انتصار نظرية الغلو والتفويض التي لم تنقطع الى يومنا هذا خلافاً لنظرية (العلماء الابرار)، ليس على صعيد الاعتقاد فحسب، بل حتى في الممارسات اليومية من الادعية والزيارات المتضمنة لهذا الغلو.

§   ( الولاية التكوينية ) أتساءل كيف ظهرت في الحقل الشيعي ؟ من هي الفرق او العلماء القائلين بها ؟

تعود فكرة الولاية التكوينية الى العرفاء، وهي متأثرة بالمنحى الفلسفي، اذ اُضفي على هذا المنحى ثوب ديني او مذهبي. فقد نفى الفلاسفة ان يكون تكوين العالم والتأثير فيه يأتي بطريق مباشر، فالتكوين الاساس للعالم مرهون بالعقول الفعالة، كالعقل الفعال الاخير لدى المشائين، والعقول العرضية لدى الاشراقيين، وفي كلا النظريتين هناك نفي لان يكون الله تعالى هو المباشر للتكوين، فلا بد من الوساطة. وهنا استبدل كل من عرفاء السنة والشيعة العقول المشار اليها بالشخصيات المقدسة لديهم، باعتبارها تمثل اعلى درجات الكمال، فاصبحت هذه الشخصيات عقولاً فعالة للانشاء والتكوين. فمثلما ادخل عرفاء السنة الحقيقة المحمدية كأول التعينات او المشيئة الالهية التي منها تكونت سائر الاشياء؛ قام عرفاء الشيعة بجعل اهل البيت ما يمثلون هذه المشيئة المرتبطة بخلق العالم وتكوينه، من امثال حيدر الاملي وصدر المتألهين الشيرازي، وحديثاً الامام الخميني الذي وظف لهذا الغرض رواية منسوبة لاحد الائمة تقول: (لنا مع الله حالات، هو هو ونحن نحن، وهو نحن ونحن هو). وعموم الفكرة تقول بان اهل البيت هم الذين خلقوا العالم والكون، ولهم الولاية التكوينية باطلاق. وقد صور الشيخ احمد الاحسائي بان الائمة يمثلون العلل الاربعة الارسطية المعروفة، فهم علة الخلائق وصورتها ومادتها وغايتها.

§  ما هو الاتجاه العقلي في الفكر الشيعي؟ ما هو الاتجاه البياني في الفكر الشيعي؟ هل لهم استمر في الوجود لحد ألان؟

يتمثل الاتجاه العقلي في الفكر الشيعي بعلم الكلام الشيعي في صورته العقلية ضمن النظام المعياري، واهم ممثليه المفيد والمرتضى والطوسي والعلامة الحلي والمقداد السيوري وغيرهم. كما يتمثل بالتيار الفلسفي ضمن النظام الوجودي، مثلما هو الحال مع صدر المتألهين الشيرازي ونصير الدين الطوسي وملا هادي السبزواري والطباطبائي ومطهري والاشتياني وحسن زاده املي وغيرهم.

اما الاتجاه البياني فهناك البيان الصرف ويتمثل بالاتجاه الاخباري، كما لدى المتقدمين ذوي النزعة التلقائية، ولدى المتأخرين اصحاب النزعة التنظيرية من امثال محمد امين الاسترابادي والحر العاملي ويوسف البحراني ونعمة الله الجزائري وحسين النوري وغيرهم.. كما يتمثل الاتجاه البياني بدائرة الفقه، اذ يغلب عليه النص والبيان حتى لدى من يعرفون بالعقليين في علم الكلام.

وجميع هذه الاتجاهات مازالت حاضرة الى يومنا هذا، مع تفاوت نسبة الحضور فيما بينها. فلدى اصول الاعتقادات نجد الغلبة للاتجاه العقلي على البياني. اما لدى الفروع والفقه فالغلبة للبيان، سواء البيان الصرف كما لدى الاخبارية، او البيان النسبي كما لدى الفقهاء المجتهدين والمعبر عنهم بالاصوليين.

§   لماذا شكلت فكرة العصمة عائقاً أمام التنظير الفقهي للحكم السياسي؟

ذلك ان شرط الحكم السياسي لدى الشيعة هو ان يكون الحاكم معصوماً، ولما كان الامام المعصوم غائباً طوال قرون عديدة؛ لذا اصبح الحكم السياسي معطلاً لديهم، وصار البديل عنه الانتظار والعمل بالتقية، حتى ظهرت فكرة ولاية الفقيه المطلقة لانقاذ الموقف.. وهنا اخذ لسان الفقه ينطلق في الحديث بعد صمته الطويل وهو يسمع للكلام بما يملي عليه، فيما صار الكلام ساكتاً لا ينطق بشيء!

§  تتحدث عن ثلاث حضارات هي الحضارة اليونانية او الحضارة الفرعو – اليونانية والحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، ما هي الرؤية (الفلسفية والإشكالية) التي قدمتها تلك الحضارات للعالم؟

اذا ما عرفنا بأن مباحث الفلسفة تنقسم الى ثلاثة، هي المعرفة والوجود والقيم، فان الاشكالية التي استقطبت اهتمام الحضارة الاولى تتعلق بالوجود. وبالتالي هناك رؤية فلسفية واضحة اتجاه هذا المبحث. اذ كان هم هذه الحضارة هو كشف اسرار الوجود بالمعنى الميتافيزيقي، وهو البحث عن الوجود العام لغرض كشف اسراره الميتافيزيقية الخفية. فمن الاشكالية الوجودية تعدى الزحف الى الاشكاليتين الاخريين، اي اشكالية المعرفة والقيم.

في حين ذهبت الحضارة الغربية الحديثة الى الاهتمام بمبحث المعرفة، ومن ذلك نقد المعرفة ذاتها وتقويمها. واول ما ظهر هذا الاهتمام بداية ما يعرف بالنهضة خلال القرن السابع عشر الميلادي. وكان ديكارت وفرانسيس بيكون هما اول من ارسى دعائم هذا التوجه القائم على المبحث المذكور؛ بغية التوصل الى المعارف الدقيقة، وان اختلفا في الاتجاه. وقد امتد هذا الاختلاف لدى التصورات الفلسفية التالية، فبعضها كان يميل الى ما ارساه الفيلسوف الفرنسي ديكارت، فيما مال البعض الاخر الى الفيلسوف الانجليزي بيكون، في حين ظهرت محاولات للتوفيق بين الطرفين كالتي لجأ اليها عمانوئيل كانت في ثورته الفلسفية، وقد تاثر العلم المعاصر بهذه الثورة الحديثة كثيراً. وظلت الاشكالية الغربية مهتمة بمبحث المعرفة ومنها تم الزحف ليشمل الاشكاليتين الاخريين المتمثلين بالوجود والمعرفة، وكان الاهتمام الغالب في الوجود منصباً على جانبه الفيزيقي، وعلى ذلك اخذ العلم يتطور تحت التوجيه الفلسفي منذ القرن الماضي والى يومنا هذا.

تبقى الحضارة الاسلامية، ويلاحظ ان ما هيمن عليها ليس مبحث الوجود كما في الحضارة الاولى، ولا مبحث المعرفة وما ارتبط بها من مبحث الوجود الفيزيقي كما في الحضارة الغربية، بل ما هيمن عليها هو مبحث القيم كما يتجلى في نظرية التكليف، فالفلسفة التي تستند اليها الحضارة الاسلامية هي فلسفة قيمية باعتبارها تستند الى المبادئ الدينية، واغلب ما يرد في هذه المبادئ هو ما يتعلق بالقيم او التكليف، ومنها تمّ التعدي الى الاشكاليتين الاخريين، اي المعرفة والوجود.

وبالتالي فالفلسفة التي سادت لدى الحضارات الثلاث ليست متعارضة، بل يمكن ان يكون بعضها مكملاً للبعض الاخر على مستوى الاشكالية، لكن طبيعة ما انتجته كل واحدة منها على الصعيد الفلسفي قد تتعارض مع ما لدى غيرها.

§  هل تشكل كل حضارة من تلك الحضارات وحدة متكاملة، متماسكة، أم هناك انساق حضارية متباينة ومتناقضة داخل البنية الحضارية لتلك الحضارات الثلاثة؟

بلا شك ليس هناك تكامل، بل هناك غلبة لبعض الانساق على البعض الاخر، وهو ما يضفي على كل حضارة اتجاهها وروحها وتوجهها. والا فكل حضارة قد تحمل في احشائها ما لدى الاخرى. فمثلاً احتضنت الحضارة الاسلامية الكثير مما لدى الحضارة اليونانية وغيرها من الحضارات القديمة، لكن كل ذلك لم يتغلب على جوهر ما كانت تفكر فيه هذه الحضارة. كذلك الحال فيما يتعلق بالحضارة الغربية الحديثة، فهي ليست مقطوعة الصلة عما قبلها، كما انها ليست ذات نسق واحد متسق، بل فيها التناقضات كما في غيرها، لكن ذلك لا يمنع من وجود الانساق الغالبة التي تضفي عليها لوناً من الروح العامة التي يمكن من خلالها ابراز الوصف المتعلق بها نسبياً.

§  في الحضارة الإسلامية (الله) حاضرا في الفكر والسياسية والاجتماع، مع الحضارة الغربية تم طرد (الإله) من التاريخ الواقعي، هل تشكل تلك الثيمة نقطة انطلاق الحضارة الغربية؟

لقد تم إبعاد الاله في الحضارة الغربية تدريجياً وليس دفعة واحدة. فحتى في العلم كان التدرج واضحاً، فعندما ظهرت نظرية كوبرنيك كان تفسيرها في بداية الامر بانها فرض لا يخالف المعتقد الكنسي وفلسفة ارسطو في ثبات الارض، فكل ما فعله هذا الفلكي هو انه افترض حركة الارض لتسهيل الحسابات الفلكية.. وحتى عندما اعترض غاليلو على هذا التفسير فانه مع ذلك احتفظ ببعض ما لدى الدين والاله من سلطة خارج نطاق العلم. فكان يستشهد بما قاله الكاردينال المؤرخ بارونيوس: غاية الروح القدس أن يعلّمنا كيف نذهب إلى السماء لا كيف تسير السماوات.

بل اكثر من ذلك ان نيوتن رغم انه كان يوجب ان يقوم التفسير العلمي على الواقع الفيزيقي دون تجاوزه الا انه  لجأ احياناً الى اقحام التفسير الميتافيزيقي وفقاً للاله وحكمته عندما كان يعجز عن التفسير العلمي.. لكن المآل ادى فيما بعد الى إبعاد الاله عن مختلف شؤون الحياة العامة رسمياً وان بقي يؤثر في الحياة بشكل غير رسمي.

يبقى ان اول مؤسسة اجري فيها إبعاد الاله هي المؤسسة العلمية، ومن ثم انتقل هذا الإبعاد الى سائر المؤسسات السياسية والاجتماعية تأثراً بفلسفة الانوار خلال القرن الثامن عشر.

§   ما هو موقع العقل في تلك الحضارات الثلاث؟

ان طبيعة العقل مناطة بالاشكالية المهيمنة لدى كل حضارة من هذه الحضارات الثلاث. لهذا نعتبر بان لكل حضارة عقلها المميز مقارنة بما لدى غيرها. فالعقل اليوناني هو عقل وجودي ميتافيزيقي، والعقل الاسلامي هو عقل معياري ديني، اما العقل الغربي فهو عقل معرفي فيزيقي. مع اخذ اعتبار عدم وجود حواجز صلبة تمنع من تداخل هذه العقول الثلاثة، كما لا يعنى ذلك نفي العقلين الاخرين لكل حضارة، بل ما يعنينا هو الغلبة في الدور والتأثير.

§  تقول إن نمط الإشكالية بين الحضارات الثلاث يعكس اختلاف الطموح، طموح الحضارة الغربية الهيمنة والحضارة اليونانية الكمال المعرفي والحضارة الإسلامية بالانقياد تحت طاعة حق الله ، إنا أرى إن جميع الحضارات الكبرى في التاريخ بما فيها الحضارة الإسلامية كان طموحها الهيمنة والتبشير بحق الله بالقوة؟

لم تكن الحضارة الغربية الحديثة تعمل على التبشير الديني او الدعوة الى حق الله، بل انها اخذت تتنصل من هذا الحق لتقيم عوضاً عنه حقاً اخر يتعلق بمصلحة الانسان، بالمعنى الضيق القومي والوطني، وهو ما جعلها تطمح للهيمنة. ووفقاً لمنظور الاشكالية لدى الحضارات الثلاث فان الطموح فيها سيكون مختلفاً، حتى وان جرى ذلك تحت راية القوة والتبشير. فالحضارة الاسلامية قد مارست مثل غيرها هذا الدور، لكنها لم تتخل عن دعوتها الى ضرورة الانقياد تحت طاعة حق الله.

§  نصل ومن خلال التنظيرات داخل النص (مدخل الى فهم الإسلام) ان النظام المعياري في الفكر الإسلامي حقق انتصاراً على النظام الوجودي ، ما هي الأسباب الكامنة خلف هذا الانتصار؟ أم إن تنظيرات النظام الوجودي (الفلسفة والعرفان والتصوف والعلوم الطبيعية) كانت إنتاج نسخ مقلدة وغير أصيلة في الحضارة الإسلامية؟ 

يعود السبب الاساس هو ان النظام المعياري اكثر ارتباطاً بالدين من النظام الوجودي في حضارة تعنى بالواجب الديني.. كما ان للفقهاء سلطة روحية وعملية جعلت الشد اليهم ظاهرة تفوق غيرهم، وهم يقفون على الضد عادة من النظام الوجودي، والكثير منهم يكفر اصحاب ذلك النظام ويحرّم علومه.. فعلى الاقل كان من الصعب التوفيق بين ما ينحو اليه النظام الوجودي من حتمية صارمة، وبين نظرية التكليف التي يبشر بها الدين في علاقة العبد بربه، وهو ما جعل الانتصار حليف النظام المعياري دون الوجودي.

§  هناك مشاريع كثيرة في اسلمة المعرفة حيث يتم استرجاع بعض النظريات العلمية الى نص الخطاب أثبتت تلك العملية عقمها ، ما هي الاسباب الكامنة وراء هذه المشاريع ؟ هل هي عطالة العقل الاسلامي ؟ام تعود الى اسباب جوهرانية تتعلق بصراع بالهويات ؟

لقد ظهرت اسلمة المعرفة في عصرنا الحديث نتيجة الاحساس بالنقص امام غلبة الاخر وتفوقه في مختلف المجالات. وكان ابطال هذا التوجه يحملون الراية القائلة: (هذه بضاعتنا ردت الينا). اذ لم يكن بالامكان انكار ما لدى الاخر من نتاج عظيم، ولا كان بالوسع منافسته في هذا الاطار، وبالتالي لم يبق الا الزعم بان ما لدى الاخر يمكن الكشف عنه بما لدينا من كتاب سماوي. وقد ساعد على ذلك مرونة النص الديني كما في القرآن الكريم. ولذلك ازداد الاهتمام بما يعبر عنه بالاعجاز العلمي في القرآن، واحياناً في الحديث النبوي ايضاً.

ونشير الى انه ظهرت قديماً مثل هذه النزعة على نطاق ضيق، كالتي حملها العرفاء، الا ان اسبابها مختلفة، اذ يعتقد العرفاء ان لكل حرف من اللغة العربية معناه الوجودي؛ فكيف لا يكون القرآن حاملاً لجميع العلوم، وهو كلام الله؟!. وبالتالي فهم يبحثون عن التطابق بين كتاب الله التدويني وكتابه التكويني او الوجودي، ومن ذلك ما يذكره العارف الخميني من التناظر الحاصل بين الوجود والقرآن، اذ يمثل القرآن صفحة الوجود بأكمله.

§  ان الأوربيين منذ عصر النهضة واحياء التراث الادبي والفلسفي اليوناني اجروا عملية نقد للعقل اليوناني قبل بناء الموضوع الخارجي (للحضارة الغربية) نحن ماذا نفعل كمجتمعات اسلامية هل نقوم باحياء التراث الفكري والسياسي والفلسفي للحضارة الاسلامية ونقدة قبل بناء الموضوع الخارجي؟ ماهي الادوات للبناء ؟ باي ادوات ننقد العقل الاسلامي؟

لا بد من النقد ابتداءاً ثم البناء، فسلطة تراثنا الاسلامي مازالت قوية جداً لا تدع مجالاً للترك والاهمال. وبالتالي فالنقد لا بد من ان يكون عبر العقل الاسلامي ذاته، وهو اشمل من العقل التراثي، حتى لا يقال انك تنقد العقل التراثي بعقل مثله، او تنقد التراث بالتراث.. كما لا يقال انك تنقد العقل التراثي بعقل اخر غير اسلامي. فحضور العقل الاسلامي في نقده لذاته ضرورة ملحة واصيلة.

§  المشاريع التي انطلقت منذ عصر النهضة العربية ولحد الان لم تحقق أي شئ انه قرن من الهباء ؟ اين يكمن الخطاء؟

ربما يعود الى ان هذه المشاريع كانت مهمومة بالهم الايديولوجي ومتسرعة بالحلول العاجلة دون التدقيق في البحث الابستيمي، فهي متأثرة بالفكر الغربي، وهو ما جعلها تقدم حلولاً جاهزة دون ممارسة النقد وفق الاطر الابستيمية. وقد ساعد على فشل هذه المشاريع المعوقات المتعلقة بسلطة التراث المهيمنة على ذهنية المسلم، مع رسوخ وشيوع ظاهرة تقليد وإتباع الفقهاء ومن على شاكلتهم، لامتلاكهم رصيد الرمز الديني.. اضافة الى التأثير السياسي بفعل الحكومات المستبدة والتي لا تدع فرصة لحرية التفكير والنقد والابداع..

§  الحضارة الغربية الحديثة ( رغم تحفظي على هذا المصطلح ) تتمحور حول السيادة المطلقة ، هذه الاستمرارية من عصر النهضة الاوربية ولحد الان قائمة على حجب اللغة الدينية من الظهور في الحقول اللغوية والسياسية والاقتصادية ، اولا حققت انفصال تام عن الحضارة اليونانية والحضارة الاسلامية ،حيث ظهر القانون الدستوري وحقوق الانسان البشري والدولة ، وانتقال (التكيف) من الانساق اللاهوتية الى الانساق البشرية هل تتفق مع تلك الاطروحة؟

تظل الحقوق البشرية مطلوبة على الدوام، وهي تحتاج الى نسق التفكير العلمي والعقلي بما يلبي حاجات البشر وتطوراتها، لكن ذلك لا ينافي بالضرورة الحقوق الالهية ضمن نسق التفكير اللاهوتي، او ما يعبر عنه بمسلك حق الطاعة، فيمكن ان يكون بينهما شيء من التداخل كالذي فصلنا الحديث عنه في كتاب (فهم الدين والواقع).

§ الحضارة الاسلامية منذ انطلاقتها الاولى كانت تعيد انتاج منتوجات حضارة الاخر (اليوناني، الاغريقي، الحضارة الغربية) وتشكلها على وفق اللغات الدينية والجمالية والاخلاقيه لماذا يستمر ذلك في النظام الثقافي والمعرفي للمجتمعات الاسلامية ؟ هل يوجد عجز في الانظمة المعرفية الاسلامية؟

لقد تأثرت الحضارة الاسلامية بالحضارة الاغريقية او اليونانية، وكانت الحضارة الغربية متأثرة بالحضارة الاسلامية دون عكس. فللحضارة الاسلامية اصالة عظيمة لا تنكر، مثلما ان للحضارة اليونانية اصالتها رغم تأثرها بالحضارات القديمة وعلى رأسها حضارة مصر الفرعونية. كذلك الحال مع الحضارة الغربية فهي اصيلة رغم تأثرها بما قبلها من حضارات، وبالتالي فبعضها جاء مكملاً للبعض الاخر. وما زال الباب مفتوحاً مع انفتاح العقل وقدرته على نقده لذاته.

واعتقد ان ما يتطلب للعقل الاسلامي اليوم هو القيام بالمهمة الشاقة المتمثلة بنقده لذاته، ليصنع من جراء ذلك حالة تجديد الحضارة من دون توقف ولا جمود.

 

 

comments powered by Disqus