-
ع
+

مسلم عبدالله المسافر: مع فكر يحيى محمد

مع قناعتي التامة بان تلخيص اﻻفكار الكبرى من غير اهلها المؤهلين لها هو في النهاية تشويه لها مهما حسنت النيات، لكنني رأيت عرض بعض اﻻشارات السريعة عن افاق واسعة عميقة للمفكر العراقي الكبير يحيى محمد لمن لم يقرأ له حتى اﻻن، وموقعه الرسمي هو موقع فهم الدين وهو ما يلخص مشروعه الفكري تقريبا.

فمن هو يحيى محمد؟ ان هذا السؤال ليس عن السيرة الذاتية ولكنه محاولة لتحديد الهوية، الماهية بلغة الفلاسفة القدماء. وبمتابعتي المتواضعة ﻻعماله المتعددة ارى انه يتحدد بعناصر اربعة، هي انه فيلسوف واقعي اسلامي اصلاحي. فهذه اربعة محددات لهويته اذا ما استثنينا ذكر انسانيته التي هي معلم بارز فيه؛ يحسها القارئ في اسلوبه وتعابيره ويلمسها في كثير من مواقفه الفكرية المبثوثة في ثنايا كتبه.

أما كونه فيلسوفاً فلأن مجال بحثه كما يتجلي بوضوح في كل كتبه هو اﻻبستمولوجيا او نظرية المعرفة. فقد اكد في كل ما كتب على انه يطرح منهجيات للفهم من خلال ما اسماه بعلم الطريقة، فبيّن الخلل الحادث في الفهم الديني التراثي، ومن ذلك ان الاستاذ لم يحصر عناصر النص بكل من اللفظ والسياق، بل اضاف اليهما المجال، وابدع في تصنيف القبليات المعرفية والكشف عن اثارها الهامة في الفهم، وقدّم معايير منطقية جديدة لتحويل الفهم الى الضبط الابستمولوجي دون التوقف عند حدود القراءات الهرمنوطيقية كما هو حال الاتجاه المعاصر، وبذلك عالج الخلل الذي وقعت فيه القراءات الحديثة، كما في كتابات عبد الكريم سروش فيما تُرجم له للعربية وكتابات نصر حامد ابو زيد وغيرهما، وذلك لضبطه لآليات القراءة العلمية ضمن معايير منضبطة، وكان من ابرزها المعيار المنطقي، فمن خلاله استطاع ان يفكك المنظومات المغلقة وجعلها قابلة للاختبار، وطبق ذلك على النظام الفلسفي القديم، كما طبقه على علم الحديث والرواية. يضاف الى انه ناقش قضية الاستقراء ودخل في حوار منتج مع استاذه محمد باقر الصدر حول طبيعة الدليل الاستقرائي ونظرية الاحتمال، وقدّم نظرية جديدة حول مصادر المعرفة وتقسيماتها، ومن ذلك نجد لأول مرة معه ان الضرورات العقلية ليست متكافئة ولا متساوية، فبينها اشكال مختلفة عديدة، ومنها الضرورة العقلية الاحتمالية التي تتصف بنوع من المفارقة او الغرابة والتي تتميز بها عن غيرها من الضرورات. كذلك قدّم نظرية خاصة حول الاحتمال بعد نقده لمختلف المذاهب؛ الغربية والشرقية كما تتمثل بنظرية الصدر، وهو ما نراه في كتابه اﻻستقراء والمنطق الذاتي، وتعليقاته على اﻻسس المنطقية للاستقراء. كما وقام بتطبيق منهج اﻻستقراء في جميع نواحي البحث الديني ان كان عقدياً او فقهياً، متجاوزاً الفصل الحاصل لدى المجالين، كالذي يظهر في عدد من كتبه، ككتاب مدخل الى فهم الاسلام ومنطق فهم النص وفهم الدين والواقع. كذلك يلاحظ بان له فلسفة تتعلق بالواقع كمصدر معرفي ثالث للفهم الديني، بل به يُفهم ويتقوم المصدران اﻻوﻻن النص والعقل. وأتى في هذا الجانب بمعان فلسفية راقية لم يأتِ بها احد قبله، باستثناء اشارات تطبيقية بسيطة كما لدى ابن خلدون، او اشارة نظرية منهجية لم تكتمل عند المفكر حسن حنفي. وفي المجال الفلسفي ايضا لم يتنكر لقيمة الكشف كمصدر معرفي خاص، وهو ما احجمت عنه سائر النخب العربية خشية التهمة بالخرافة، وﻻ أرى اي مبرر لمن يقر بالوحي كمصدر معرفي أﻻ يقر بالكشف كذلك، فاذا تجاوزنا المصطلح فالوحي كشف عام ملزم، والكشف وحي خاص غير ملزم.

فهذه بعض الجوانب التي توضح الصفة الفلسفية في الرجل فضلا عما تنادي به كل كتاباته من العقلية النقدية الرافضة للدوغمائية والتقليد، وايضاً تمكنه من اخر ما توصلت اليه الفلسفة الغربية دون استهلاك فيها كالذي نراه عند النخب العربية. فهو بالتالي فيلسوف متميز وسابق لعصره.

واما كونه واقعياً فهو توصيف واضح في كل ما كتب؛ سواء في تصنيفه للاتجاهات التي تقارب الطرح الواقعي في دراسة الدين ونقدها، كالذي جاء في بحث اﻻتجاهات الحديثة وتوظيف الواقع للفهم الديني، وفيه قدّم رؤيته وتبنيه للواقع كنظام معرفي ثالث، وهو ما غاب عن كل اﻻتجاهات الحديثة التي طرحت الواقع ﻻ كنظام معرفي، وقد قدّم في ذلك الكثير من الدراسات مثل فهم الدين والواقع وقبله جدلية الخطاب والواقع وغيرهما.

واما كونه اسلامياً فذلك واضح من الهم والدافع لهذه الدراسات المليئة باﻻفكار العظيمة، لكنه لم ينشغل بالتفاصيل والفروع وذلك من طبيعة الفيلسوف الذي يبحث في اﻻصول والكليات ويتعالي عن تناول الفروع والجزئيات، وباﻻحرى يتركها للمختص، ومع ذلك تناول بعض اﻻمثلة التطبيقية التي اتى بها للتدليل على صوابية منهجه ومدى ما يعد به من عطاء مفتوح وغنى غير مسبوق.

اخيراً فهو اصلاحي كما يتبين من مجمل ما كتبه، وقد صرح بذلك في مقدمة جدلية الخطاب والواقع .

وبالتالي فهو فيلسوف واقعي اسلامي اصلاحي.

لقد قدم يحيى محمد نوعين من المفاهيم: المفاهيم المؤسسة المنتجة بالكسر، والمفاهيم المؤسسة المنتجة بالفتح، وتمثل اﻻولى آليات الفهم ومناهج التفكير والتي كوّنها من خلال اطلاعه الواسع والدائم على التراث اﻻسلامي بمختلف مذاهبه والثقافة الغربية المعاصرة في اخر تجلياتها؛ بذهنية تتميز بالحس النقدي، فمنها مفاهيم العقل التكليفي، العقل المعياري، علم الطريقة، فلسفة علم الطريقة، البحث الطريقي، نظرية المجال.. الخ. اما المفاهيم الثانية فهي تمثل ما وصل اليه من نظريات عن طريق استخدامه للمفاهيم اﻻولى في بحثه الطريقي للتراث، ومنها نظرية النمذجة التي شرعت اﻻبواب امام فهم النص بأسلوب منفتح خلافاً للطريقة الماهوية التي تتعامل مع نصوص منغلقة واحكام ثابتة متعالية على الواقع، ومثل ذلك ما أسميه توسيع المقاصد وربطها بالمصلحة العقلية. وتعتبر هذه المفاهيم اﻻساس الفكري لنظرية التجاوز المذهبي وان كانت عطاءاتها اوسع من مجرد هذه النظرية الرائعة التي ينبغي تبنيها بدل السجال الطائفي المحموم القائم على غير اساس، سوى التعصب واﻻنغلاق.

وهذه النتائج حسبما استشعر هي ما تؤسس لثورة فكرية تقوم بقطيعة معرفية مع التراث ﻻ مع الدين، وتسهم في تحرير الباحث المسلم من التعصب المذهبي والتخلف الفكري والدغمائية والحرفية ومصادمة العقل والواقع، او وقوعه في اللادينية والعلمنة.

ومن ناحيتي اعتبر نفسي قد عثرت على فهم للدين ﻻ يصادم العصر وﻻ يتنكر للدين في ان واحد، وهو ما قدّمه الاستاذ في دراساته من اعادة اﻻعتبار للواقع والمقاصد والعقل والفهم المجمل، وجعل النص منفتحاً على الواقع الى اخر الزمان عبر الية النمذجة، وفهم النص فهماً ارشادياً بعيداً عن حيل التأويل وما يترتب عنها من اشكاﻻت. فكتبه تنضح وتشع بالتأكيد على كون القرآن كتاب هداية وارشاد ﻻ كتاب تفاصيل سياسية واقتصادية واجتماعية، بل حتى ما فيه من احكام قليلة من ذلك انما جاءت كنماذج تحتذي وتستخلص منها المقاصد. وهذا ما جعلني اعقد كل اﻻمال على هذا الفكر الناهض والمنهج  المؤصل شرعيا وعقليا و واقعيا.. وعنده وجدت مستقر رحلتي بعد تطوافي على مفكرين من امثال الجابري وحسن حنفي ونصر حامد ابو زيد وجورج طرابيشي والطيب تيزيني وحسين مروة وصادق جلال العظم واركون.. الخ. فقد احسست انه يعبّر عن همومي من مثل التجاوز المذهبي وتأصيل الواقع كنظام معرفي والفهم المجمل والعودة للمقاصد بعد توسيعها وتحديثها الى اخر ما جاء به من درر.

فهو الفكر الوحيد القادر على الجمع بين ما قدّمه الدين واخر ما قدّمه العقل المعاصر فيما اعلم. وباستثناء كتب الاستاذ الثلاثة اﻻولى الداروينية والتصوير اﻻسلامي للمجتمع ودور اللاشعور في الحياة، والتي يمكن ان نطلق عليها اسم كتابات الشباب، فان مؤلفاته تنتظمها وحدة موضوعية ويشغله هم واحد هو كيف نفهم الدين خارج اﻻطر التراثية التي لم يعد لديها ما تقدمه، وخارج ايضا القراءت العلمانية للتراث.

وكقارئ يتمثل لي هذا الفكر كهرم عملاق وعظيم يضم قاعدة واسعة ووسط عميق وقمة شاهقة. فأما القاعدة الواسعة فيمكن ان نتصورها كالتالي: الحضارة اﻻسلامية بخلاف غيرها من الحضارات هي حضارة تكليف، والتكليف قائم على النص، والنص يحتاج الى فهم. ومن خلال استعراض المناهج التراثية نجد انها تنتظم تحت عنوان المنهج الماهوي للفهم، وهنا قدّم بقباله منهج الفهم الوقائعي. وينقسم المنهج التراثي للفهم بحسب يحيى محمد الى قسمين: اﻻول المنهج المعياري، والثاني المنهج  الوجودي. واﻻول ينقسم الى الدائرة البيانية والدائرة العقلية الكلامية، والثاني ينقسم الى الدائرة الفلسفية والدائرة العرفانية. وقد ناقش التناقضات الموجودة في كل الدوائر. وهذه القاعدة الواسعة نجدها في كتابه  مدخل الى فهم اﻻسلام وكتابه نقد العقل العربي في الميزان وكتابه العقل والبيان واﻻشكاليات الدينية وكتابه مشكلة الحديث وكتابه الفلسفة والعرفان واﻻشكاليات الدينية.

اما وسط هذا الهرم فيتمثل في ادواته ومناهجه التي سيتوصل بها الى خلاصاته الفكرية فيما سماه النظام الواقعي للفهم، حيث ابتكر من خلال اﻻبستيمولوجيا علما جديداً سماه علم الطريقة، وجعل له فلسفة وبحثاً بخلاف البحث اﻻستنباطي والبحث التاريخي، واكتشف من خلاله منطق فهم النص مستعينا باﻻستقراء وحساب اﻻحتماﻻت، وقدّم عدة نظريات؛ منها نظرية الجهاز المعرفي الذي يعتمده البحث الطريقي والمشتمل على خمسة اركان: المصدر المعرفي، اﻻداة المنهجية، المولدات والموجهات القبلية، ثم الفهم ومنه اﻻشارة والتفسير، واخيراً اﻻنتاج والتوليد. كما ابتكر تقسيمات عديدة تخص القبليات المعرفية، وابدع مواضيع ملهمة تتعلق بالفهم، مثل سنن الفهم وقوانينه وقواعده ومستنبطاته. كما ابدع معايير للتحقيق والترجيح المعرفي لم تكن معهودة في السابق.

اما القمة الشاهقة للهرم فتتمثل فيما وصل اليه من نتائج مبهرة واصلاحية للفكر الاسلامي؛ نأمل ان يتبناها المسلمون المعاصرون وﻻ يرفضونها بحجة انها علمنة للاسلام، وليحظوا بشرف اﻻعتراف بها وﻻ يتركوها للاجيال القادمة. فإن لم نقبلها فسيقبلها غيرنا ممن يأتي بعدنا، وهي ما قدّمه من نظريات في كتبه، وخاصة جدلية الخطاب والواقع وفهم الدين والواقع. ويمكن اجمالها تحت عنوان الفهم الواقعي للدين، حيث قدّم النظام الواقعي مقابل الماهوي المحتوي على النظام البياني، ووسع من نظرية المقاصد وربطها بالمصالح العقلية، فلا يمكن استثمار الشاطبي بدون رد اﻻعتبار للطوفي. واعلى القمة حسب تقديري نظرية النموذج اﻻرشادي، فهي قد تبدو مقاربة للمفهوم الفلسفي الغربي، وكأن يحيى محمد اراد ان يسكن هذا المفهوم ويوطنه في جهازه المفهومي المتسق منطقيا وواقعيا، لكن حقيقة الامر ان بينهما شيئاً من الاختلاف لا يخفى على المدقق، وبالتالي فان ما جاء به من نظرية تعد ثورة فكرية غيّرت مفهوم اﻻجتهاد وطرحت فهماً للدين ﻻ يتناقض مع اي عصر وﻻ يفقد الدين حقيقته المتعالية اﻻلهية، وبذلك تجاوز كل المحاوﻻت التبريرية الدفاعية السلفية بكافة اشكالها، ومثلها المحاوﻻت التأويلية القائمة على التحايل والمليئة باﻻشكاليات. وفي الحقيقة فان اكثر ما شدني وبهرني هو هذا الحل الموفق والعلمي المؤصل شرعيا وواقعيا وعقليا دون الوقوع في التلفيقية كما لدى نخبنا المثقفة، فقمة المشروع النمذجة، وان كان كل ما طرحه هذا الهرم العملاق يشد ويبهر... 

ولست اجهل ان هذا المفكر ﻻ يقدّم اجابات دينية، بل ليس من وظيفته وﻻ من اهتماماته حسبما ذكرت سلفاً ان ينشئ علماً تفصيلياً اسلامياً عقيدة وشريعة، كالذي يقدمه علماء الدين على اختلاف تخصصاتهم ومذاهبهم، ولكن الذي يجعلني اراه امل اﻻسلام ومحط الرجاء للامة هو انه ارسى عبر مشروعه الفكري الضخم والموفق اساسا ثابتا لفهم الدين من خلال اكتشافه لمجموعة مباركة من المنهجيات والقوانين والقواعد الضابطة للعقل المسلم عند محاولته لفهم الدين والتفكير فيه. ومهما اختلفنا حول فكر الرجل فلن نختلف في انه يستحق القراءة واﻻهتمام.

ولو عقل الاسلاميون بمختلف طوائفهم قيمة ما قدّمه هذا المفكر لأنشأوا مراكز بحوث لمشروعه. فقد مهّد لهم الطريق واعطاهم اﻻدوات والمناهج الكافية للبحث، وما عليهم اﻻ ان يبتدؤا السير. ويكفي ان له جهازاً مفاهيمياً من استوعبه وكان لديه الصبر على البحث والقدرة على الكتابة صار باحثا اسلاميا متميزا بعقلية جديدة. انه يقدم ما لديه دون نبرة التعالي التي اقرؤها عند غيره ودون حذلقات مكشوفة يغطي بها بعضهم النقص المعرفي لديه بحجة ان المعاني العميقة تحتاج الى لغة مكثفة. ولم اجد في كل ما قرأت له اﻻ بحثا رصينا وفكرا عميقا ﻻ كما نراه من غيره.

فعلى يده تم تدشين الواقعية اﻻسلامية بعد تشرد النخب العربية طويلا بين السلفية بمختلف صورها والعقلانية اﻻسلامية والوجودية اﻻسلامية والعلمانية بمختلف صورها، الى اخر ما يطرحه تأزم الواقع العربي واﻻسلامي على سائر الاصعدة الفكرية والسياسية واﻻجتماعية والتربوية.. الخ. لقد عثر الاستاذ على الطريق الثالث بتثبيته للضلع الثالث من اضلاع مثلث المعرفة الاسلامية، وهو ضلع الواقع بعد النص والعقل. وعندما اقارن ما أقرأه له بما أقرأه لغيره ﻻ أجد مبرراً للنخب العربية في برودها في التعاطي معه اﻻ لسببين كلاهما من قبيل (عذر أقبح من ذنب)، اﻻول خلفيته الشيعية، والثاني تشبثه بالحقيقة الدينية، واﻻ فان وضوح طرحه الفكري وعمقه ووساعته ﻻ يقارن باي طرح موجود على الساحة الفكرية بلا أستثناء، فقد يشاركه بعضهم في بعض هذه الثلاثة، اما اجتماعها فلا. ان طرحه اﻻسلامي الواقعي اﻻنساني يفتح افاقاً للعطاء اللامحدود الذي قد ﻻ ندرك ابعاده اليوم، لكن الزمن كفيل بتجليتها.

 

comments powered by Disqus