-
ع
+

درس الفلسفة السابع :ديفيد هيوم والمشكلة المنطقية للإستقراء

دروس الفلسفة والعلم والمنطق الاستقرائي (7)

وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ

خلاصة الدرس

ان أول من أثار المشكلة المنطقية للإستقراء هو ديفيد هيوم؛ الذي يرجع اليه الفضل في نقد المعرفة عموماً والإستقراء خصوصاً. ويكفي أن ندرك الخطورة التي أحدثها بما شيع عنه أنه ‹‹أثار الفضيحة في الفلسفة››، حيث كثرت المحاولات للتخلص من المأزق الذي حفره ضد كل من العقليين والتجريبيين معاً. وهناك من المفكرين من يؤمن بالطريقة الإستقرائية، لكنه في الوقت ذاته يعترف بعجز الفلسفة عن ان تجد حلاً لمشكلة الإستقراء كما طرحها هيوم، وينطبق هذا الحال على كل من الاستاذين برود ووايتهيد، فهما يؤمنان بالطريقة الإستقرائية، إلا انهما مع ذلك عبرا عن المشكلة الإستقرائية تعبيراً متقارباً، وهو ان الأول اطلق عليها (فضيحة الفلسفة)، في حين وصفها الآخر بـ (بؤس الفلسفة). وقد ذكر الاستاذ كاتز Katz ان المعضلة التي جاء بها هيوم بقي مفعولها سارياً من دون مقاومة تذكر طوال مائة وثمانين سنة. فمع ان بيرس Peirce قدّم الحجة البراجماتية لتبرير الإستقراء والتي ظهر انها كثيرة الشبه بما سعى اليه من بعد ريشنباخ، لكن ما قدّمه بيرس (سنة 1878) لم يكن معروفاً حتى شيوع افكار ريشنباخ وقبولها كمنافس جدي للشكية التي زرعها هيوم.

مذهب ديفيد هيوم

نعتقد ان مذهب هيوم في الإستقراء يقوم على محورين أساسيين كالتالي:

1 ـ إثبات الدور في الإستقراء

ويتقرر بأن أي محاولة للإستدلال على مبدأ الإستقراء تتعرض للدور، كما أن التعميم فيه لا يملك أي تبرير ممكن.

2ـ الاستقراء والفهم الخاطئ للسببية

ويتقرر بأن ما نسعى اليه من إستنتاجات إستقرائية وقضايا تعميمية؛ كل ذلك يقوم على فهم خاطئ للسببية. وقد استقطب هذا الجانب اهتمام المفكر الصدر في نقده لهيوم دون الأول.

ثلاثة اقسام للمعرفة لدى هيوم

بداية يرى هيوم بان المعرفة الصحيحة لا تتخطى نوعين من القضايا، يضاف الى نوع ثالث غير صحيح، وبالتالي فالقضايا تصبح ثلاث كالتالي:

1ـ تحليلية: وهي تتصف بالضرورة المطلقة وتقوم على مبدأ عدم التناقض، لكنها لا تخبر عن الواقع الخارجي بشيء، ولا تعطي نتيجة جديدة؛ باعتبار ان المحمول متضمن في الموضوع، او ان المعرفة مشتقة بالقياس المنطقي ومتضمنة في المقدمة دون زيادة تذكر.

2ـ تركيبية: وهي على العكس بالضبط من المعرفة التحليلية، فهي لا تتصف بالضرورة المطلقة، ولا تتأسس على مبدأ عدم التناقض، ولا ان المحمول متضمن في الموضوع، وليست المعرفة مشتقة عبر القياس المنطقي، ولا انها مستبطنة في المقدمة، وهي تعطي نتيجة جديدة، وتخبر عن الواقع الخارجي بالشيء الجديد.

3ـ سفسطائية: وهي كل معرفة لا يمكن ارجاعها الى اي من النوعين السابقين، بمعنى ان مثل هذه المعرفة هي سفسطة واوهام وكلام فارغ ينبغي ان يُقذف بها في النار.

محورا البحث لدى هيوم

1 ـ إثبات الدور في الإستقراء             

لقد ادرك هيوم انه لا يوجد ما يبرر الدليل الإستقرائي، سواء لجأنا إلى القياس أو إلى الإستقراء ذاته. فمن حيث ان النتيجة في الإستقراء هي غير منتزعة من المقدمات ولا مستبطنة فيها، فهذا يجعله لا يستند إلى القياس، اما لو اعتبرناه مبرراً تبعاً لعملية النجاح الإستقرائي في الماضي، فإن ذلك يجعله واقعاً في الدور.

فقد يقال بهذا الصدد ان ملاحظاتنا السابقة للوقائع في الطبيعة هي التي علمتنا صحة الدليل الإستقرائي. فنحن نلاحظ دائماً أن الاوراق التي توضع في النار تحترق، وأن الحديد الذي نقربه من الحرارة يتمدد، وأن الشمس تشرق وتغرب كل يوم، وأن السمك يموت خارج الماء... الخ. فجميع هذه الظواهر جعلتنا نعتبر أن بالإمكان أن نعمم عليها الحالات الأخرى المشابهة لها.

لكن واقع الأمر أننا نستدل على الدليل الإستقرائي من خلال إستقراء آخر، فيتحتم علينا أن نقع في الدور. وسنبرز هذه الحجة من خلال المثال التالي:

لنفترض أنا نريد أن نستدل على القضية القائلة بأن كل نار تحرق. في هذه الحالة لا بد من توفر مقدمتين بالشكل التالي:

الاولى عبارة عن ملاحظاتنا السابقة التي كشفت عن صفة الاحراق للنار. أما الثانية فهي الاقرار بأن الأشياء المتشابهة تخضع إلى نفس الحكم. فمن هاتين المقدمتين نستنتج أن كل نار تحرق.

لكن الملاحظ أن المقدمة الثانية إما أن تكون مصادرة على الإستقراء أو مستدلة به، ولا شك أنه لا يوجد ما يبرر المصادرة. فيبقى انها عبارة عن نتاج إستقرائي، فنكون قد وقعنا بعملية فارغة من الدور. ولا فرق في ذلك فيما لو قلنا ان ما نشاهده من اطرادات منتظمة في الماضي تخول لنا ان نتوقع استمرارها في المستقبل، وما لو قلنا ان نجاح قاعدة الإستقراء في الماضي تدعونا إلى توقع نجاحها في المستقبل، فكل ذلك مما يتضمن الدور، أو إفتراض مصادرة ان الشبيه يأتي بالشبيه طبقاً للقانون الأرسطي (الحالات المتشابهة تفضي إلى نتائج متماثلة) والذي هو أيضاً نتاج العملية الإستقرائية ذاتها، مما يؤكد ما نحن فيه من الدور.

هكذا ان هيوم يُشْكل على الدليل الإستقرائي بأنه يفشل كلياً في تأسيس المعرفة الخاصة بالتنبؤات المستقبلية وغير المشاهدة إذا ما كانت الطبيعة غير منتظمة أو مطردة، وانه لا يمكننا ان نعرف، لا قبلياً ولا بعدياً، حقيقة ما عليه الطبيعة من انتظام أو عدم انتظام. فلا يوجد سبب قبلي ولا بعدي يبرر صحة الدليل الإستقرائي، إذ القبلي لا يكشف ولا يخبر عما في الخارج، وان البعدي يعتمد على الإستقراء ذاته؛ فكيف يمكن تبرير ذاته؟!

وعلى رأي هيوم ان خبرتنا  الماضية ليست فقط لا تبرر لنا ما سيحدث غداً على وجه اليقين، بل انها أيضاً لا تبرر ذلك على وجه الإحتمال، إذ الإحتمال على رأيه مستمد من نفس إفتراض التشابه المنزوع عن الإستقراء، فكيف نقيم الحكم عليه؟!

والملاحظ ان محاولة هيوم لإلصاق المغالطة في تبرير الدليل الإستقرائي على أساس الخبرات الماضية؛ هي صحيحة تماماً. لكن ما ابداه بخصوص تفسير الإحتمال برده إلى الانطباعات الحسية وتفريغه من الطابع المنطقي هو تفسير ساذج لا يُقر عليه.

2 ـ الإستقراء والفهم الخاطئ للسببية

أ- الإستقراء والتحليل المنطقي للسببية

هناك عدد من النقاط الأساسية التي يمكن إستنتاجها من التحليل المنطقي الذي أفاده هيوم، وهي كما يلي:

1 ـ إن أساس معرفة السببية يعود إلى التجربة لا العقل، بإعتبارها لا تستنبط من مبدأ عدم التناقض.

2 ـ ليست الضرورة من القضايا التي يمكن للتجربة ان تثبتها أو تنفيها.

3ـ على هذا فإن عدم إثبات الضرورة يجعل من التعميم في الدليل الإستقرائي فاقداً للتبرير المنطقي.

موقف الصدر من التحليل المنطقي

ان للمفكر الصدر مواقف نقدية متعددة ازاء النقاط السابقة..

فبالنسبة إلى موقفه من النقطة الأولى، انه يختلف مع هيوم في تفسير أساس معرفتنا بمبدأ السببية (العامة)، ويتفق مع العقليين في كونها قبلية. لكنه مع ذلك لا يعتبرها مستنبطة من مبدأ عدم التناقض أو غيره من المبادئ القبلية، بل حسبها من القضايا الأولية المنطوية على الضرورة. وهو بهذا لا يوافق على التقسيم الذي أجراه هيوم بحق القضايا، إذ كما عرفنا انها تدور لديه بين ان تكون تجريبية أو مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، والحال ان السببية عند الصدر لا تنضم إلى أي من هذين المنبعين.

أما موقفه من النقطة الثانية، فهو على خلاف هيوم يعتقد ان بإمكان التجربة إثبات الضرورة في العلاقة السببية، سواء الخاصة منها أو العامة. كل ما في الأمر ان ذلك يقوم على أمرين مجتمعين معاً: ‹‹الاول: معطيات الخبرة الحسية التي تبدو فيها الحادثتان مقترنتين مرات عديدة. والاخر: الإحتمال العقلي المسبق للواقع الموضوعي للعلية، نتيجة لعجز التفكير العقلي المحض عن الإثبات والنفي.

فالخبرة + الإحتمال المسبق = الدليل على الواقع الموضوعي للعلية››.

أما موقفه من النقطة الأخيرة فيعتمد على ما مر قبل قليل، إذ ان التعميم لا يثبت ما لم تثبت - على الأقل - الضرورة في العلاقة السببية. لهذا رأى ان من الممكن إثبات التعميم استناداً إلى إثبات الضرورة إستقرائياً. لكن ما سيتضح لنا انه لا سبيل لإثبات الضرورة بالتجربة. وبالتالي فاذا كان من الممكن تبرير الضرورة في السببية العامة بإعتبارها قضية أولية، فإن ذلك لا يصح مع الضرورة في السببية الخاصة، حيث انها ليست من القضايا الأولية، كما انه لا يمكن إثباتها عبر التجربة. الأمر الذي ينعكس أثره على التعميم في القضية الإستقرائية، حيث طالما ان هذه الضرورة لا يمكن إثباتها، فلا مجال - اذن - لإثبات التعميم أو تبريره.

ب - الإستقراء والتحليل النفسي للسببية

حين ننظر إلى علاقة السببية بين الحرارة وتمدد الحديد يمكن ان نتحسس بإقترانهما وتعاقبهما، لكنا لا نتحسس بضرورتهما، فكيف نفسر ما في أذهاننا من ضرورة تجعلنا نتصور أنه كلما قربنا الحديد من الحرارة فإنه يتمدد؟

لقد بحث هيوم عن مصدر هذه الفكرة، فلاحظ أنها تقترن مع صفة أخرى نطلق عليها الاطراد أو التتابع المستمر، فحيث لا يوجد اطراد، فلا ضرورة هناك. فبهذا المفتاح أقام فيلسوفنا تفسيره لوجود الضرورة في علاقة السببية. فنحن حين نلاحظ ظاهرتين تتصفان بالإقتران والتعاقب باطراد فإنه سينشأ في مخيلتنا رباط قوي بين فكرتي الظاهرتين، بحكم العادة. فلو أنه حضرت احدى الفكرتين؛ فما على الفكرة الأخرى إلا أن تعقبها، وهو ما يبرر لنا كيفية الحكم على الأشياء الخارجية. إذ لو تحسسنا بوجود الظاهرة السابقة لكنا نحكم بضرورة وقوع الظاهرة الأخرى؛ نتيجة ما اعتدنا عليه من مشاهدات حسية جعلت أذهاننا مهيأة لافراز العلاقة القوية بين الفكرتين. فمثلاً في حياتنا اليومية نتحسس على الدوام بأن هناك تلازماً بين ظاهرتي النار والاحراق، وبحكم العادة تنشأ في مخيلتنا علاقة قوية بين فكرتي هاتين الظاهرتين، لكن بسبب هذه القوة فانا نضطر إلى أن ننزعها على الواقع ونظن أنها خارجية، بحيث كلما لاحظنا ناراً سنحكم عليها بأنها تحرق، مع أنه من الناحية المنطقية لا دليل على ذلك، رغم ما نجده من التهيؤ الذهني الحاد الذي أطلق عليه هيوم ‹‹تداعي المعاني››.

خلاصة التحليل النفسي للإستقراء

تتلخص النتائج التي توصل اليها هيوم في تحليله السابق إلى هاتين النقطتين:

1 ـ تتعلق السببية كمفهوم نفساني بكثرة ما يتحسس به الفرد من تكرار في علاقة الإقتران بين الظاهرتين المتعاقبتين، لا انها صيغة قبلية.

2 ـ يستحيل تبرير الدليل الإستقرائي من الناحية المنطقية، وإن كان يمكن تبريره نفسياً بواسطة تداعي المعاني الناشئ عن العادة، وذلك من خلال تحليل السببية بالصورة التي تُنتزع فيها الضرورة من المخيلة النفسية لتفرض على الواقع.

نقد التحليل النفسي للإستقراء

1- بخصوص النقطة الأولى يلاحظ انها إن استطاعت ان تفسر السببية الخاصة فإنها عاجزة عن تفسير السببية العامة، فربما نحكم على حادثة معينة بالسببية وإن لم نتحسس بها إلا لمرة واحدة فقط. كذلك فإن الضرورة التي نشعر بها في هذه الحالة تختلف عما نشعر به في العلاقة الخاصة للسببية، فما أيسر التسليم بالحكم القائل ان النار قد لا تحرق لخلوّها من الضرورة، لكن ما أعسر الحكم الذي ينفي مطلق السبب عن حدوث زلزلال لم يسبق أن خبرناه من قبل؟ هكذا فمن أين حصلنا على هذه الضرورة في الحوادث الفريدة؟ وكيف نفسر عليها تداعي المعاني إذا كنّا لم نتحسس بالسبب اطلاقاً؟

 على ان تفسير ‹‹الضرورة›› بواسطة تداعي المعاني يقتضي الاقرار بدءاً بالسببية.

وعلى العموم ان التفسير النفسي لهيوم ناجح إلى الحد الذي فيه اقرار لما تتأثر به مخيلتنا من تصورات انطباعية قد تفرضها على الواقع الموضوعي، لكن ذلك يختلف عما يراد تفسيره منطقياً. لهذا نجد في العلاقة الخاصة للسببية أن الانطباع الحسي المتكرر يمكنه أن يؤثر على المخيلة كحالة نفسية تفسرها نظرية تداعي المعاني، أما من الناحية المنطقية فلا تفسير لذلك سوى الارتكاز إلى قوانين الإحتمال وحساباته، بدلالة ان أي خطأ ملحوظ يحدث في التجربة يفضي إلى تغيير طبيعة الحكم المنطقي، رغم بقاء الاثر النفسي الذي يمكن أن يؤدي اليه التداعي.

2- أما فيما يخص النقطة الثانية، فالملاحظ ان هيوم قد جعل من الدليل الإستقرائي حالة نفسية دون ان يكون له اثر منطقي. ونحن وان كنّا لا نمنع الاثر النفسي الذي يبلغه الخيال في الاحكام الإستقرائية، لكن ذلك لا يحيل من وجود منطق خاص يقوم عليه الإستقراء، وهو منطق الإحتمال الذي لم يقتنع به هذا الفيلسوف.

للتنزيل اضغط هنا

comments powered by Disqus