-
ع
+

درس الفهم السادس: قراءة النص ومرحلة التفسير

الاسس المنطقية للفهم الديني (6)

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ

خلاصة الدرس

بدأ الدرس باستعادة جدول المقارنة بين الموقف التراثي والرؤية الجديدة كما تم ذكره في الجلسة السابقة كالتالي:

الموقف التراثي 

الرؤية الجديدة 

النص = اللفظ + السياق

النص = اللفظ + السياق + المجال

ظهور النص = الظهور اللفظي

ظهور النص = الظهور اللفظي + الظهور المجالي

انواع القراءة = استظهار + تأويل

انواع القراءة = استظهار + تأويل + استبطان

مستويات القراءة = واحد

مستويات القراءة = اثنان (اشارة + تفسير)

تأثير القبليات المعرفية = 0 أو 1

تأثير القبليات المعرفية = 1

 وتم التذكير بان النص يمتلك العناصر الثلاثة: اللفظ والسياق والمجال.. وان للنص ظهوران لفظي ومجالي..

شروط التفسير

يختص التفسير بحسب الرؤية الجديدة بايضاح كيفية المعنى للعلاقات اللفظية التي يتضمنها النص، فإن لم تكن الكيفية متخيلة لدى الارادة التصورية للذهن فإن الأمر يخرج عن حد التفسير وان دل على حمل اللفظ الظاهر على حقيقته او على غيره.

ويستند تبيان الكيفية التفسيرية الى حضور نوعين من العلاقة المتخيلة للارتباط اللفظي، هما: العلاقة المفهومية والعلاقة المصداقية.

فالعلاقة المفهومية هي تلك التي تعبر عن مفاهيم الألفاظ ومعانيها بالشكل الذي تكون فيه واضحة المعالم وبينة المقاصد، بغض النظر عن طبيعة كيفيتها على الصعيد الخارجي.

أما العلاقة المصداقية فهي تعبر عن طبيعة ما تدل عليه المعاني اللفظية من حيث الوجود الخارجي.

وما ضرورة العلاقة المفهومية الا لأنها شرط لا غنى عنه في تلك العملية من الكشف، حيث لا تتوضح العلاقة المصداقية ما لم تنكشف قبلها العلاقة الاخرى. فهذه هي طبيعة التلازم بين العلاقتين في العملية التفسيرية، وهذه هي حاجتها.

الانماط الاربعة لحاجة التفسير للعلاقتين المفهومية والمصداقية

من الناحية العملية نصادف اشكالاً مختلفة لهذه الحاجة، فتارة تكون الحاجة لكليهما معاً، وتارة اخرى تكون الحاجة لتفسير العلاقة المفهومية بما تعبر عن منطوق النص، وذلك لوضوح العلاقة الاخرى، وثالثة العكس، حيث تكون الحاجة لتفسير العلاقة المصداقية دون المفهومية لبيانيتها، ورابعة قد تنتفي هذه الحاجة نظراً لوضوح النص في كشفه عن عناصره تبعاً لكلا العلاقتين، حيث يتحدان ويندمجان في المتخيل الذهني لظاهر النص من غير تمايز، وذلك للوضوح الناتج عما تمدنا به بعض القبليات المعرفية وعلى رأسها الضرورات الحسية والوجدانية. لكن في اغلب الاحيان نجد انفسنا في حاجة لايضاح الكيفية وشرح ما يراد تبيانه من النص؛ سواء على صعيد المفهوم ام المصداق ام كليهما. ويمكن تبيان هذه الانماط الاربعة كما يلي:

1- تبادر كيفية العلاقتين معاً دون جهد

في كثير من الاحيان يتبادر في النفس كيفية العلاقة المفهومية والمصداقية وفق المتخيل الذهني من غير جهد مضاف الى الحاصل الوارد في منطوق النص بعلاقاته اللفظية، نظراً للمخزون الذهني من القبليات المعرفية التي تعمل على تشكيل الصورة المتخيلة لطبيعة العلاقتين الانفتي الذكر، خاصة فيما يتعلق بالقبليات الحسية والوجدانية باعتبارها واضحة غير مجهولة المعالم. وفيها يبدو اتحاد بين العلاقتين المفهومية والمصداقية، او الظاهر والتفسير، كالذي يتبادر لدينا من متخيل للعلاقتين عندما نقرأ قوله تعالى: ((فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ))، او قوله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))، او قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا)).. ففي مثل هذه الايات تبدو العلاقتان المفهومية والمصداقية متحدتين عند المتخيل الذهني.

2- الحاجة الى توضيح العلاقة المفهومية دون المصداقية

في حالات معينة ان ظاهر الدلالات اللفظية لا يفي بحاجة العلاقة المفهومية لدى المتخيل الذهني، بحيث يحصل شعور بان الظاهر من تلك الدلالات يظل ناقصاً ما لم يدرك الغرض الذي تضيفه طبقاً لذلك المتخيل. فيصبح من المعلوم لدى الارادة التصورية للذهن ان ما ترمي اليه الدلالة النصية هو شيء اخر غير الظاهر المحصل، استناداً الى كل من الكناية والاستعارة والتمثيل.

فمثلاً جاء في قوله تعالى: ((قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً))، فالدلالة الظاهرة للمقطع الأخير من النص تعبر عن كثرة ما اصاب الرأس من الشيب، لكن غرض النص ليس الظاهر المذكور، بل التعبير عن حالة كبر السن والشيخوخة، اذ ان من يصل الى هذه المرحلة من العمر يبْيضّ رأسه شيباً. ويمثل البلاغيون على ذلك بأمثال؛ كقولهم عن الفتاة بأنها (نؤوم الضحى)، فالظاهر منكشف وهو وصف الفتاة بانها تنام في وقت الضحى، لكن ما يريد المتكلم ان يوصله للسامع هو شيء اخر، او ان السامع يفهم منه شيئاً اخر غير هذا الظاهر، وهو كون الفتاة مترفة مخدومة. وكذا قولهم: (هو كثير رماد القِدْر)، والمعنى انه مضياف او كثير الضيافة، حيث لكثرة الضيافة فانه يقوم بتجهيز الطعام باحراق الحطب ونصب القدور فيكثر الرماد بذلك.

ومعلوم ان التفسير - هنا - هو ليس ظاهر الألفاظ، فلو توقف الأمر على هذا الظاهر من غير ان يكون هناك متخيل ذهني للعلاقة بين مضامين النص على صعيد المفهوم، او ما يريد المتكلم توصيله من معنى وراء ذلك الظاهر، فسوف لا يعد تفسيراً بل مجرد ظاهر واشارة، بحيث لو قلت هذا هو الظاهر وهذه هي حقيقة اللفظ لما اوفى المعنى شيئاً بخصوص العلاقة المفهومية وتوضيحها كما يريد ان يبلغها المتكلم.

ولا شك ان ما يساعد على ايضاح هذه العلاقة هو القبليات المعرفية، خاصة تلك التي تتمثل بقرائن الواقع الحسي. فكأننا من خلال العلاقة المصداقية أمكننا ان نكشف عن العلاقة المفهومية.

إذاً فحاجتنا للتفسير هي الكشف عن المفهومية، فبعد هذا التشخيص تصبح العلاقة المصداقية واضحة بفضل الضرورة الحسية، خلافاً لما سنراه في الحالة القادمة.

3- الحاجة الى توضيح العلاقة المصداقية دون المفهومية

في بعض الاحيان قد يكون النص واضحاً من حيث العلاقة المفهومية تبعاً للظهور اللفظي، فلا تكون هناك حاجة الى الكشف عن تبيان طبيعة العلاقة بين الألفاظ بما هي هي في مرحلتها المفهومية لوضوحها، وان كان المتخيل الذهني للعلاقة المصداقية للنص يحتاج الى الكشف والايضاح.

واقرب مثال على ذلك ما يتعلق بقوله تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى))، فظاهر النص دال على ان الرمية التي كانت للنبي هي في الوقت ذاته منفية عنه ومنسوبة لله، وهذا هو توضيح ما عليه العلاقة بين الألفاظ من حيث المفهوم الذي ينطق به النص، لكنه لا يكفي بشأن ايضاح الكيفية الخارجية او المصداق، اذ ما معنى ان تكون الرمية المنسوبة الى النبي هي في حقيقتها رمية لله لا للنبي؟ فالمعنى بحسب المصداق ليس واضحاً او مفسراً، الأمر الذي يستدعي ان تكون هناك اضافة تفسيرية تشرح فيه الكيفية التي عليها طبيعة المصداق الخارجي، وبدون ذلك لا يكون النص نصاً مفسراً، انما هو واقع تحت طي الاشارة والفهم الظاهر فحسب. ونحن هنا في تفسيرنا لهذه الاشارة والفهم الظاهر لا غنى لنا من الاستناد الى القبليات المعرفية، ومن تلك القبليات المؤسسة تبعاً للرؤى المنظومية، كتلك التي تتكئ على نظرية وحدة الوجود، مثل الذي قام به ابن عربي في تفسيره لهذا النص، إذ اعتبر الصورة المحمدية هي ذاتها عبارة عن صورة الهية في احدى تعينات الذات القدسية.

ومن الامثلة الاخرى على هذه الحالة قوله تعالى: ((وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ))، حيث ان العلاقة المفهومية واضحة تبعاً للظهور اللفظي، لكن العلاقة المصداقية تحتاج الى الايضاح، اذ كيف يمكن تصور حركة الجبال التي شُبهت بمر السحاب؟ فهل نتصور ذلك بحسب القبلية العلمية التي تؤكد على حركة كل شيء طبيعي؟ وهل ان الحركة المقصودة داخلية بحسب الجزيئات والذرات والجسيمات البسيطة؟ او ان حركتها خارجية بحركة الارض في الفضاء؟

يظل هناك عدد كبير من النصوص القرآنية يمكن اعتبارها واضحة المعنى من الناحية المفهومية، لكنها غير واضحة من الناحية المصداقية.

4- الحاجة الى توضيح العلاقتين معاً

ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))، فما معنى وصف الله بالنور وما هي كيفيته المصداقية؟ ومثل ذلك ما وصف الله نفسه بكثير من الصفات؛ كالمكر والغضب والحب والرضا والمجيء والاستواء... الخ. فبعض العلماء لم يفسر العلاقة الأخيرة للنص واكتفى بايضاح العلاقة المفهومية، وذلك بأخذ هذه الصفات على حقيقتها الظاهرة ولكن من غير تكييف، اي من غير ايضاح للعلاقة المصداقية، كالذي عليه ابن تيمية. وبعض اخر زاد على ذلك بتحقيق ما يتطلبه التفسير فاعتبرها مأخوذة على حقيقتها الظاهرة وان لها الكيفية الخاصة، كالكيفية الجسمية مثل الذي ذهب اليه الحشوية، او الكيفية التجريدية (التشاكلية) كالذي ذهب اليه صدر المتألهين، او الكيفية (العينية) كالذي ذهب اليه ابن عربي.

***

هكذا فهناك مستويات ثلاثة للظهور بعضها يقوم على البعض الاخر، كالتالي:

الاول: مستوى الظهور اللفظي بمعناه الدال على الحقيقة العامة المشتركة. وهو ليس من التفسير بشيء وإن كان يعبر عن حمل اللفظ على الحقيقة.

الثاني: مستوى الظهور اللفظي بمعناه الدال على المعنى الخاص، وهو مستوى يتجلى بنواح ثلاث: احدها حمل اللفظ على الحقيقة الخاصة المشخصة وذلك كتعبير عن خصوص الحقيقة العامة المشتركة. وثانيها حمل اللفظ على الظهور المجازي. واخيراً حمل اللفظ على الظهور الرمزي. ويظل هذا المستوى هو الاخر لا يعبر عن المرحلة التفسيرية.

الثالث: مستوى تفسير النص، حيث انه يعتمد على المستوى الثاني، وخاصيته انه يعمل على ايضاح العلاقتين المفهومية والمصداقية معاً. ولما كان قائماً على المستوى الثاني وموضحاً له تبعاً لهاتين العلاقتين فانه يعبر بذلك عن فهم الفهم ومعنى المعنى.

هكذا فان المستوى الثالث قائم على المستوى الثاني، وهذا الاخير قائم على الاول.

للتنزيل اضغط هنا

comments powered by Disqus