-
ع
+

ملخص ندوة: تراثنا العقلي والعقل المطلوب

 يحيى محمد

تتضمن الورقة التي نقدمها ثلاثة محاور: الإطلاع على مناهج تراثنا العقلي ومقارنة بعضها بالبعض الآخر، ومن ثم نقدها، وأخيراً التعريف بالعقل المطلوب، كالتالي:

1- مناهج تراثنا العقلي

يحتضن التراث المعرفي الاسلامي منهجين عقليين عقائديين هما الفلسفة وعلم الكلام، وليس هناك منهج ثالث مستقل. وتتصف العلاقة بين هذين المنهجين بأنها علاقة تنافي وتضاد، فأحدهما يمتلك روحاً من التفكير هي على الضد من الآخر. اذ تتصف الروح الفلسفية بأنها وجودية حتمية، في حين ان الروح الكلامية هي روح معيارية لا حتمية، وكل جمع بينهما يفضي الى التلفيق. فللفلسفة نظام خاص يجتمع فيه مع العرفان او التصوف، وهو ما نطلق عليه النظام الوجودي، في حين ان للكلام نظاماً آخر يجتمع فيه مع الفقه وسائر العلوم النقلية ضمن ما نسميه النظام المعياري. ومن الناحية المنطقية إن العلاقة بين النظامين متنافية بغض النظر عن مجراهما التاريخي.

فميزة النظام الوجودي عن النظام المعياري هو أن الأول لا يشرّع إلا بأخذ إعتبار «الوجود» ولأجله. فحتى القضايا المعيارية تكون محددة ومقاسة طبقاً لـ «الوجود». بينما ينعكس الحال في النظام المعياري، ومنه علم الكلام، فتشريعه قائم على «المعيار» ولأجله؛ بما في ذلك تحديد قضايا الوجود وإعتباراته. إذ يتمثل اهتمام هذا العلم بالعلاقة التكليفية التي تربط المكلِّف بالمكلَّف، وهو حتى في تعامله مع القضايا الوجودية، كبحثه في الأمور الفيزيقية والميتافيزيقية، ينطلق في الغالب من الدافع اللاهوتي.

ويعد منهج علم الكلام أقرب للتفكير الديني، أو أنه ممزوج بهذا التفكير، وأن أتباعه يحملون عقيدة آيديولوجية مذهبية دينية، وعلى خلافه منهج الفلسفة المتحرر غالباً من هذه المذهبية، وأنه أقرب للمنهج العلمي. لذا ففي فهم القضايا الدينية يسهل الإنفكاك تماماً من الفلسفة، لكن من الصعب الإنفكاك من الهوية الذاتية لعلم الكلام وتفكيره الديني، بإعتباره مختصاً في أسس وأركان هذه القضايا خلافاً للأولى.

وتقوم الفلسفة من حيث الاساس على أداة التفكير العقلي في الكشف عن علاقات الوجود تبعاً لنظام الأسباب والمسببات. فالوجود كله عبارة عن عقل متفاوت الكمال، والعقل كله عبارة عن وجود، وهو عين النظام السببي. وبالتالي فهما متطابقان، إذ ما من موجود إلا وهو عقل، وما من عقل إلا وهو وجود. لكن حيث أن هناك تفاوتاً بين مراتب الوجود أو العقل، فالذي يحدد التطابق بينهما هو قانون الشبه والسنخية. وهو أمر يصدق حتى على مستوى الأحكام والبراهين والقوانين، إذ لا مبرر غيره يحكم مثل هذه العلاقة.

 

أما علم الكلام فيتأسس على قاعدة معيارية عقلية لها علاقة بنظرية التكليف، وهي مبدأ (الحق) المتضمن لفكرة الإلتزام والواجب التكليفي. لكن هذا المبدأ منقسم إلى أصلين مولّدين ينشأ عنهما إتجاهان متضادان يستقطبان أغلب نشاط هذه الدائرة، نطلق على أحدهما (الحق الذاتي)، وعلى الآخر (حق الملكية). إذ يراعي الأول منهما إعتبارات (الحق في ذاته) دون قيد أو شرط، وأبرز من يمثله المعتزلة والزيدية والإمامية الإثنا عشرية. أما الثاني فيقيد فكرة الحق بمبدأ الملكية، حيث يرى - من الناحية العقلية - أن المالك المطلق له حق التصرف بملكه ما يشاء، والأشاعرة هم أبرز من يمثل هذا الإتجاه.

ويمكن ايجاز الخلاف بين العقلين الفلسفي والكلامي حول فهم الدين بالنقاط التالية:

1ـ ان الفهم الفلسفي لنظرية التكليف هو فهم مجاز، فلا يوجد - بنحو الحقيقة - مكلِّف ومكلَّف ورسالة تكليف وثمرة تكليف، كالذي تبشر به النصوص الدينية وتؤيدها الطريقة الكلامية.

 2ـ ان الرؤية الفلسفية تقيم فهمها لنظرية التكليف من منطلق الإلوهة؛ لا العبادة التي يستند اليها النظام المعياري ومنه علم الكلام.

3ـ تتخذ الممارسات التفسيرية للفلسفة طابعاً توكيدياً، بمعنى انها تؤكد على معرفة معنى النص حقيقة دون ادنى ريب. في حين تتصف ممارسات الكلام التأويلية بالاحتمالية والامكان دون توكيد.

4ـ تندرج الممارسات التفسيرية للفلسفة ضمن آليات ثلاث هي: الاستظهار والتأوبل والاستبطان. في حين تقتصر هذه الممارسات لدى علم الكلام على الاستظهار والتأويل دون الاستبطان.

 

2- نقد التراث العقلي

ليس لدى المنطق الفلسفي من مشكلة تخص اصوله المولدة، فهو لا يعاني مشكلة في انقسام الاصول واختلافها، وهو من هذه الناحية متسق مع ذاته، كما انه متسق مع شريكه الوجودي المتمثل بالعرفان، لكن مشكلته تنحصر في التطبيق والتعارض في الرؤى، واحياناً التناقض حتى على مستوى الفيلسوف الواحد، واهم من ذلك الانزلاق نحو التلفيق مع الرؤية الدينية. 

أما علم الكلام فقد شهد اعترافاً لدى الكثير من اتباعه على فشله وتهافته. وكان من بين هؤلاء فخر الدين الرازي الذي ندم على هذا العلم وما اصابه من ضياع. وكان من بين المشاكل التي شهدها هذا العلم انقسامه على نفسه بين منطقين متعارضين تمام التعارض، وهو ما لم نجده لدى الفلسفة. وقد كان لذلك اثر على المبدأ الذي اتخذه علم الكلام في ترجيح العقل على النقل عند التعارض. اذ لما كانت اعتبارات علم الكلام العقلية متعارضة فكيف يمكن جعلها مرجعاً يُستند إليه في الحكم؟ وكيف يُعتمد عليها في إثبات المسألة الدينية أو تأسيس الخطاب من الخارج؟ وما هو نوع العلم والقطع الذي تفضي إليه كما يدعيه أصحابها؟

وعموماً ان طرق التفكير التي جرت في تراثنا الاسلامي كانت تعاني من مشاكل مزمنة ثلاث كالتالي:

إنها لم تمارس المراجعة النقدية المتواصلة لفحص مفاهيمها ومقولاتها، لكونها من المذاهب الدوغمائية التي لا تشكك في مقالاتها.

إنها غيبت الإعتبارات الخاصة بالواقع، فحتى الإتجاهات العقلية كانت إتجاهات تجريدية، أو أنها تعاملت في الغالب وفق العقل القبلي وليس البعدي، بل لم يحصل آنذاك تمييز بين هذين النوعين من العقل.

إنها إستندت في الأساس إلى الإعتبارات المعرفية الخاصة دون المشتركة. بل وأن إعتباراتها والنتائج المترتبة عليها كانت تجريدية في كثير من الأحيان، الأمر الذي يصعب إخضاعها للإختبارات الواقعية المباشرة. وهذا يعني أنها تقوقعت ضمن دوائر مغلقة من التصورات والمنظومات الذهنية التي يتعذّر إختراقها وفحصها من الخارج، أو جعلها تحتكم إلى المنطلقات العامة المتمثلة بالواقع والأصول العقلية المشتركة، وكل ما يمكن فعله هو الفحص المنطقي غير المباشر، وكذا الفحص الضمني لتبيان ما قد تفضي إليه من تعارضات ذاتية أو ضمنية.

 

3- العقل المطلوب

نرى ان هناك نوعين من العقل يتوجب حضورهما، هما العقل البعدي القائم على دراسة الواقع والتزود بنتائجه، والعقل الوجداني والبديهي.

فابتداءاً لا غنى عن المراجعة النقدية المتواصلة للفكر الديني، أي مراجعة نقد الذات على التواصل. كما لا بد من تأسيس المعرفة طبقاً للإعتبارات المشتركة لا الخاصة. كذلك لا بد من التمييز بين العقل القبلي والعقل البعدي، وأن القضية المدعمة بالأول لا تكون بقوة تلك المدعمة بالثاني؛ ما لم تكن من القضايا الوجدانية والبديهية واللوازم المستنتجة عنها، وعدا ذلك فإن القوة المعرفية التي يحظى بها العقل البعدي هي أكثر وثوقاً مما يحظى به العقل القبلي. وبحسب العقل البعدي فإن للدلالة الواقعية أهميتها الخاصة للكشف المعرفي. وبالذات فان العقل المطلوب هو ذلك المحدد بالنظام الواقعي، او بجعل الواقع أساس التفكير والتكوين المعرفي بعد البديهات العقلية والمنطقية، ومنه يمكن تقديم الرؤية الخاصة بالفهم الديني كنظام يختلف عن النُظم المتعارف عليها في الفهم.

وأهم ما يميز النظام الواقعي عن النظامين الوجودي والمعياري، هو أنه يعتمد على العقل البعدي، ويتقوم بالقبليات المشتركة التي يقرّها الوجدان الفطري، ومن ذلك ما يتعلق بمنطق الإستقراء والإحتمال، الأمر الذي يجعله قابلاً للتجديد والتطوير والإثراء؛ لإتكائه على الواقع الثري بالمعاني.

ومن الناحية المبدئية يتقدم الواقع على غيره من مصادر الكشف المعرفي، ويتميز بكونه يساعد على التحقيق في أصول العقائد، وأن له الفضل في الكشف عن حجية النص وإثبات المسألة الدينية برمتها، لا العكس، بمعنى أنه لولا الواقع لتعذّر معرفة كونه حجة، ولتعذّر الإلزام بأحكامه. كما انه يساعد على معرفة ما يتضمنه النص من معنى. ومثل ذلك انه يساعد على الكشف عن طاقة النص وإمكاناته للتطبيق، مثلما يساعد على معرفة ما يتضمنه الأخير من مصداقية دينية أو تزوير. كذلك تبرز أهمية الواقع عند الإعتماد عليه كمعيار لترجيح النظريات الدينية وأنساق الفهم.

ومن الناحية الابستمولوجية تعود أهمية الواقع مقارنة بالنص، إلى أن الأخير ثابت لا يقبل التغيير والإفصاح عن نفسه بأكثر مما جرى فيه الأمر إبتداء، فهو يحمل نظاماً مغلقاً لا يسمح بإضافة المزيد، ناهيك عن كونه يعمّق ظاهرة الإبهام وعدم الوضوح كلما طال الزمن، خلافاً للواقع بإعتباره يملك نظاماً مفتوحاً يتقبل الإضافة دون إنقطاع، وهو بهذه الإضافة يكون أكثر وضوحاً كلما طال الزمن، مما يجعله مفتوحاً على المراجعة والتصحيح، أكثر فأكثر، كلما طرأ عليه شيء جديد. وهنا تبرز أهليته لأن يكون مرجعاً أساسياً للتصحيح. فهو يستقل بميزة القابلية على الإنفتاح الدائم، ومن ثم الكشف والتحقيق لتقييم النظريات، سواء تلك التي تُستخلص منه كالنظريات العلمية، أو تلك التي ترتبط معه بشيء من العلاقة، كالنظريات الفلسفية والدينية.

comments powered by Disqus