-
ع
+

مبررات الإجتهاد السني وأزمته

يحيى محمد

بدأت الممارسة الفقهية كممارسة بيانية غرضها تسديد حاجات الواقع المتجدد، لذا فهي تبحث عن التفصيل. وتنبعث هذه الحاجة من أن الفقه هو العلم الإسلامي الوحيد المعني بالواقع المباشر، وحيث أن هذا الأخير يمتاز بالتنوع والتفصيل، لذا فالفقه الذي يعالجه ينبغي أن يكون مفصلاً مثله. لكن هذا التفصيل لا يتحصل إلا في الإجتهاد المعتمد على الحديث، فهذا الأخير وإن كان مفصلاً إلى حد ما؛ إلا أنه لا يفي بحاجات الواقع وتغيراته، ولو كان كافياً لما لزم الإجتهاد بالمعنى الذي فهمه الفقهاء الأوائل، بل لاعتبر من المحرمات بإعتباره لا يمت إلى مصدر قدسي (إلهي)، إنما اضطر إليه الفقه للحاجة وضغط الواقع، فبناه على الأصول البيانية لينضبط بها، عبر تطبيق النص على ما لا نص فيه لجامع يجمعهما. وقد أشار عدد من العلماء إلى هذا الإضطرار، كالشافعي وغيره[1].

كما أشار آخرون إلى أن مبرر العمل بالإجتهاد إنما جاء وفقاً لتناهي النصوص قبال تجددات الواقع غير المتناهية، ومن ذلك ما نقله أبو بكر بن العربي عن بعض العلماء قولهم أن النصوص معدودة والحوادث غير محدودة، ومن المحال تضمن المعدود ما ليس بمحدود[2]، وكذا ما أشار إليه الشهرستاني والشاطبي وغيرهم[3].

لقد ظهر الإجتهاد الفقهي في فترة مبكرة أوائل القرن الثاني للهجرة، وربما قبل ذلك بقليل، وكان يراد به أول الأمر معالجة القضايا التي لا نص فيها. وظل هذا المعنى مستحكماً لدى المذاهب الفقهية التي ظهرت خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة، ومن ثم أخذ يتوسّع فشمل القضايا المنصوص فيها[4].

ففي بادئ الأمر طُرح الإجتهاد كمرتبة بعد مرتبة النص، وكان يُعبّر عنه بصور وقواعد متعددة لم تثر خلافاً بين الفقهاء القائلين به، وكان القياس على رأس هذه القواعد. ويُعد الشافعي أول من أثار الخلاف في الإجتهاد، وذلك عند ضبطه والتنظير له، حيث قصره على القياس فخالف سابقيه الآخذين بالمصالح المرسلة والإستحسان وغيرهما. مع هذا بقي الإجتهاد مطروحاً عند مرتبة تالية للنص، أي الكتاب والسنة، وكذا الإجماع بإعتباره كاشفاً عنه، أو كون حجيته تستمد منه مباشرة تبعاً للحديث المروي بهذا الخصوص.

فالنص أولاً ثم الإجتهاد ثانياً!

هذا ما استندت إليه أغلب المذاهب الفقهية خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة. وهناك من المذاهب من رفض تلك الأدوات للإجتهاد واعتمد على بيانات النص وحده، ومن ذلك مذهب داود الاصفهاني (المتوفى سنة 270هـ) وابنه، فكان في بداية أمره شافعياً لا يقر باصول الإجتهاد سوى القياس، إلا أنه انقلب على شيخه واعتمد على ظواهر النص بلا تأويل ولا قياس، وتكرر هذا المنحى بشكل متطور لدى إبن حزم الأندلسي الظاهري. وقبل هؤلاء جميعاً نحى الإمام الصادق – كما يبدو – إلى إنكار الإجتهاد في كافة مظاهره وأصوله المتعارف عليها، لكونها مصدر التخمين والظنون.

وقيل أن المذاهب الفقهية بلغت خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة ما يقارب العشرين مذهباً، وكان أغلبها يعمل بمبدأ الإجتهاد حسب المفهوم الآنف الذكر. وتعد المذاهب الأربعة المعروفة أبرز من عمل بهذا المبدأ وإن لم يتفق أصحابها على القواعد التي يصح العمل بها، لكنهم اتفقوا على العمل بالقياس واختلفوا في غيره من القواعد. وليس من سبب يجعلهم يتفقون على القياس إلا لأنه أقرب صور الإجتهاد إلى النص، إذ هو قائم عليه كمثال سابق. أما بقية قواعد الإجتهاد فلم تكن لها هذه الخصوصية من الإعتماد على النص الخاص، لذلك كانت موضعاً للرد والقبول، أو كان يُلجأ إليها للحاجة والضرورة كإستثناء للقياس، مثلما أُتخذ القياس كإستثناء للنص، بإعتبار أن العمل به هو للضرورة والإضطرار، وإن أصبح فيما بعد أصلاً يُعتمد عليه كما سنرى.

لقد صنّف الباحثون عمل المذاهب الفقهية إلى صنفين، أحدهما يُعبّر عنه باتجاه الرأي، والآخر باتجاه الأثر. ولفظة الرأي قد تثير جدلاً، إذ في ظاهرها تعني الرأي قبال الأثر أو النص، والأمر ليس كذلك، فالرأي يرادف الإجتهاد، وهو يستند إلى النص بشكل غير مباشر، أو إلى ما كان عليه سلوك الصحابة، وهو لا يفيد إلا الظن.

فخلال القرن الثاني للهجرة شاعت مدرستان كبيرتان في الفقه، الأولى في العراق، ويطلق عليها مدرسة الكوفة، ويتزعمها أبو حنيفة، وقيل أن لها امتداداً يعود بها إلى بعض التابعين مثل ابراهيم النخعي الذي اعتمد على فتاوى عبد الله بن مسعود وأقضية الإمام علي وفتاواه، وكذا أقضية شريح وغيره من قضاة الكوفة. أما الأخرى فهي مدرسة المدينة في الحجاز، ويتزعمها مالك بن انس، وقيل أن امتدادها يصل إلى التابعي سعيد بن المسيب، حيث تأثر بالكثير من الصحابة الذين كانوا في المدينة، فكان حافظاً لأقضية عمر بن الخطاب وأحاديث أبي هريرة وغيرهما، ومثله سار بقية علماء المدينة بالأخذ عن الصحابة الساكنين فيها، وكان أبرزهم عروة وسالم وعكرمة وعطاء بن يسار وقاسم وعبيد الله بن عبد الله والزهري ويحيى بن سعيد وزيد بن أسلم وربيعة[5]. وقد عملت كلا المدرستين بأصول الرأي، وإن اختلف الإعتبار طبقاً للظروف الخاصة بالعراق مقارنة بالحجاز. فقد ذُكر أن خصوصية الرأي في العراق تدعو إلى القياس والفقه الإفتراضي، وكما كان أبو حنيفة يقول: «إنا نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه»[6]، وقيل أنه وضع لذلك ستين ألف مسألة، كما قيل أنه وضع خمسمائة مسألة، وذكر الخطيب الخوارزمي أنه وضع ثلاثة وثمانين ألف مسألة؛ منها ثمانية وثلاثون ألفاً في العبادة والباقي في المعاملات، ولولا هذا لبقي الناس في تيه الضلالة وبيداء الجهالة[7]. وكان يقول: هذا رأي حسن وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء بأحسن مما قلنا فهو أولى بالصواب منا[8]. وقيل أن تعويل مدرسة الكوفة على القياس هو لقلة الرواية في هذا البلد، مثلما يراه إبن خلدون[9]. في حين قام الرأي في الحجاز على المصلحة والعمل ضمن دائرة ما يفرضه الواقع من قضايا، وكما قيل أن علة ذلك هي أن أهل الحجاز بنوا فقههم على المصلحة إتّباعاً لعمر بن الخطاب فيما كان «يجتهد فيه لأمور الدولة»[10]، إذ كان يحكّم الواقع ويعمل بالمقاصد لتحديد قضايا الأحكام، وسار الفقه في الحجاز على هذا التقليد.

ومع ما عُرف عن فقهاء العراق بالعمل بالقياس والإفتراض؛ فقد ظهر على يد أبي حنيفة ما هو جديد في الأمر، حيث امتاز فقهه بأصول الإستحسان والعرف نتيجة خبرته الخاصة بالسوق والتجارة. وكان كثيراً ما يناظر أصحابه، فإذا انجرت المناظرة «الى البحث عن العرف أو المصلحة أو العدل في ذاته، فعندئذ يصمتون ولا يتكلمون»[11]. فقد اعتمد على العرف والإستحسان كأصلين يترك بهما القياس. أي أنه لا يأخذ بهذين الأصلين إلا إذا استقبح القياس كإستثناء. وكما قال عنه محمد بن الحسن: «إن أصحابه كانوا ينازعونه المقاييس، فإذا قال استحسن لم يلحق به أحد، ولقد كان يقيس ما استقام له القياس ولم يقبح، فإذا قبح القياس استحسن ولاحظ تعامل الناس»[12]. كذلك قال عنه أبو يوسف أنه كان إذا وردت حادثة سأل: هل عندكم أثر؟ فإن كان عنده أو عندنا أثر أخذ به، وإن اختلفت الآثار أخذ بالأكثر، وإلا أخذ بالقياس، وإن تعسر القياس تركه وعمل بالإستحسان[13].

مهما يكن فقد وضعت القواعد الإجتهادية في مرتبة متأخرة لمصادر التشريع، فقد روي أن أبا حنيفة قال: «ليس لأحد أن يقول برأيه مع نص عن كتاب الله أو سنة عن رسول الله وإجماع عن الأمة. وإذا اختلف الصحابة على أقوال نختار منهم ما هو أقرب إلى الكتاب أو السنة ونجتنب عما جاوز ذلك، فالإجتهاد موسّع على الفقهاء لمن عرف الإختلاف وقاس فأحسن القياس وعلى هذا كانوا»[14]. وقال أيضاً: «إني آخذ بكتاب الله أولاً، فإن لم أجد فيه الحكم فبسنة رسول الله (ص)، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله رجعت إلى ما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا أخذت من أقوالهم ما كان قريباً من القرآن والسنة، فإن لم أجد للصحابة رأياً لم آخذ بقول أحد من التابعين بل اجتهد كما اجتهدوا»[15].

رغم ذلك إعترض عليه البعض من حيث أن قواعده الإجتهادية لا تقوم على الضوابط الشرعية المحددة بالنص، وقام العديد باتهامه لكثرة عمله بالرأي وردّه للأحاديث المروية، وجاء عن وكيع قوله: وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث، واتهمه الغير بأنه ردّ أربعمائة حديث أو أكثر، وكان حماد بن سلمة يقول إن أبا حنيفة استقبل الآثار واستدبرها برأيه[16]. ونُقل أنه كان يعتد برأيه، ومن ذلك ما روي أنه قال: لو أدركني النبي (ص) وأدركته لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن[17]. لكن على خلاف ذلك دافع عنه البعض من أنه ناظر إلى المصالح التي أولاها الشارع بالإعتبار[18]. كما دافع عنه بعض آخر من أنه يقدّم الحديث الضعيف على القياس والرأي، ومن ذلك ما ذكره إبن القيم من أن أصحاب أبي حنيفة مجمعون على أنه يرى ضعيف الحديث أولى من القياس والرأي. فمثلاً أنه قدّم حديث القهقهة مع ضعفه عليهما، كما قدّم عليهما حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر رغم ضعفه هو الآخر، كذلك «منع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعيف، وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف، وأشرط في إقامة الجمعة المصر والحديث فيه كذلك»[19]. ونقل عنه أنه قال: «نحن لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة، وذلك إننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة أو أقضية الصحابة، فإن لم نجد دليلاً قسنا حينئذ مسكوتاً عنه على منطوق به»[20].

هذا فيما يتعلق بأبي حنيفة، أما فقيه الحجاز مالك فقد عُرفت مدرسته بوصفين متعارضين، فتارة يطلق عليها مدرسة الأثر قبال مدرسة الرأي لأبي حنيفة، وأخرى يطلق عليها مدرسة الرأي. وجاء وصف مدرسته بالأثر، وذلك لأن المدينة كانت مصدر الحديث بإعتبارها موطن النبي والخلفاء. فقد اعتبر الشهرستاني أن المنتسبين إلى الحديث هم أهل الحجاز أصحاب مالك وأصحاب الشافعي وسفيان الثوري وإبن حنبل وداود الاصفهاني، وقال إنهم «سموا بأصحاب الحديث لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبراً أو أثراً»[21]. كما اعتبر إبن خلدون أن أهل الحجاز هم أصحاب الحديث قبال أصحاب الرأي والقياس في العراق[22]. أما علة وصف مدرسته بالرأي، فلأنه درس الفقه على من عرفوا بأصحاب الرأي، فـ «فقه الرأي تلقاه عن بعض فقهاء الرأي بالمدينة كيحيى بن سعيد واختص ربيعة بن عبد الرحمن الملقب بربيعة الرأي بالطلب»[23].

مهما يكن فقد عمل مالك بالمصلحة وكان يسميها الإستحسان، وهي تتسع لما اصطلح عليه الفقهاء بالاستصلاح والإستحسان[24]. وكان يقول: «الإستحسان تسعة أعشار العلم». وقد فتح عليه ذلك بعض الشبهات، حتى قال الشاطبي بأن مالكاً استرسل في قسم العادات من الأحكام «استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه، ولا يناقض أصلاً من أصوله، حتى لقد استشنع العلماء كثيراً من وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة، وفتح باب التشريع، وهيهات ما أبعده من ذلك رحمه الله، بل هو الذي رضى لنفسه في فقهه بالإتّباع، بحيث يخيّل لبعض الناس أنه المقلد لمن قبله، بل هو صاحب البصيرة في دين الله»[25].

ومع أُخذ مالك بالرأي فإنه كان يأخذ أيضاً بالحديث غير المتصل، مثل المرسل والمنقطع والموقوف، يضاف إلى كونه يعمل بعمل أهل المدينة. وهو يجعل مرتبة الرأي في آخر مصادر التشريع، ويبدي أحياناً قلقه وتحفظه منه. وكان يقول: إنما أنا بشر أُصيب وأُخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة[26]. وقال القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلّمت عليه ثم جلست فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا إبن قعنب، ومالي لا أبكي؟! ومن أحق بالبكاء مني؟! والله لوددت أني ضُربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطاً، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أُفتِ بالرأي[27].

ومما أخذ على مالك دعواه في عمل أهل المدينة، فكما ذُكر أن إبن عمر وهو عميد أهل المدينة كان يرى إفراد الأذان، وكذا القول فيه: حي على خير العمل، وكان بلال يكرر عبارة: قد قامت الصلاة، مع أن مالكاً لم ير ذلك. كما أن الزهري كان يرى الزكاة في الخضراوات، في حين أن مالكاً لا يراها. وقد قال الصيرفي في كتابه (الأعلام): «قد تصفحنا قول من قال: العمل على كذا، فوجدنا أهل بلده في عصره يخالفونه، كذلك الفقهاء السبعة من قبله فإنه مخالفهم، ولو كان العمل على ما وصفه لما جاز له خلافهم». وقيل أن مالكاً كان لا يدع في موطئه إجماع أهل المدينة إلا في ثمان وأربعين مسألة فقط. وهناك من تتبع هذه الإجماعات المزعومة فوجد منها ما هو إجماع، ومنها ما لم يكن إجماعاً لإختلاف علماء المدينة، وذكر من ذلك الكثير من التناقضات على شاكلة ما سبق[28].

وقيل أن مصادر التشريع التي عوّل عليها هي كل من: الكتاب والسنة وقول الصحابي والإجماع وعمل أهل المدينة والقياس والإستحسان والإستصحاب والمصلحة المرسلة وسد الذرائع والعرف والعادة[29].

أما الشافعي فقد احتك بكل من الفقهين الحنفي والمالكي، إذ أقام مدة طويلة يدرس على يد مالك في الحجاز، وكانت صحبته له تسع سنين، كما تلقّى العلم بعد ذلك على يد صاحب أبي حنيفة محمد بن الحسن، ولازمه في بغداد مدة يرجح البعض أنها سنتان، حتى قال الشافعي في هذا الصدد: حملت عن محمد بن الحسن وقر بعير كتباً[30]. ومعلوم أن لحياة الشافعي المعرفية طورين، أحدهما ما كان عليه في بغداد، حيث نشر العديد من الكتب كالرسالة والأم والمبسوط، أما الطور الثاني فهو عندما انتقل إلى مصر (سنة 199هـ)، حيث أخذ ينقح ما كتبه في الرسالة والمبسوط ويمحّص الآراء فيهما، فرجع عن بعض الآراء واعتمد بعضها، وبذلك نسخ ما كتبه في بغداد[31].

ويظل الشافعي أقرب إلى التعويل على النص الخاص من سابقيه أبي حنيفة ومالك، لكونه يحصر حدود الرأي بالقياس دون غيره من المبادئ الإجتهادية الأخرى، فهو لم يعمل بالإستحسان كما فعل أبو حنيفة، ولم يعمل بالمصالح المرسلة كما فعل مالك، بل اعتمد على النص وأقام عليه الرأي أو القياس. فالإجتهاد عنده مرتبط بمثال سابق منتزع عن النص، لذا كان أقرب المذاهب إلى النص منه إلى الرأي.

هذا ما جسّده الشافعي في اطروحته المسماة (الرسالة)، وهي أقدم اطروحة وصلتنا في أصول الفقه، والعديد من العلماء يعتقدون أنها أول ما صنف في ذلك العلم، كالذي نصّ عليه إبن خلدون وإبن تيمية والزركشي ومن قبلهم الإمام الجويني[32]. وكان أحمد بن حنبل يقول: لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي[33].

وقيل أن علة إقدام الشافعي للتكلم في أصول الفقه دون من سبقه من الفقهاء، هو لأن الفقهاء كانوا منشغلين بالأحاديث التي ترد كل واحد منهم في بلاده، فإذا تعارضت عليه أدلة هذه الأحاديث حكم عليها بحسب ما لديه من فراسة. أما في عصر الشافعي فقد تفاقم الأمر حين اجتمعت أحاديث البلدان جميعاً، فكان التعارض مضاعفاً، تارة بين أحاديث البلاد الواحدة، وأخرى بين أحاديث البلدان المختلفة، فأوقع ذلك حيرة لدى العلماء لكثرة التعارض والإختلاف، فانبرى الشافعي ليضع حداً للتعارض عبر رسالته في أصول الفقه، فوضع قواعد الجمع والترجيح بين الأدلة المتعارضة[34]. كما ذكر إبن خلدون بأن السلف لم يكونوا بحاجة إلى النظر في الأسانيد لقرب عصرهم وممارسة النقلة وخبرتهم بهم، لكن «لما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها إلى صناعة؛ احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه»[35].

وقد استهدف الشافعي باطروحته في أصول الفقه أن ينظّم عملية الإجتهاد ويضبطها بميزان النص، كي لا تكون سائبة وعرضة للأهواء والبدع. وكما قال الفخر الرازي في وصفه للشافعي بما حققه في (الرسالة): «إن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة ارسطا طاليس إلى علم العقل»[36]. فعند الشافعي أن العلم يؤخذ من أعلى[37]، أو من الكتاب والسنة، مباشرة وغير مباشرة. فالمصادر التي تفيد العلم عنده أربعة هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ويمكن اختصارها بأنها عبارة عن النص والقياس، وهو لا يعمل بهذا الأخير إلا عند الضرورة. ومن ذلك أنه يقول: «القياس إنما يصار إليه عند الضرورة»[38]، ويقول: «إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط»[39]، كما يقول: «إذا وجدتم لي مذهباً، ووجدتم خبراً على خلاف مذهبي، فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر»[40].

أما إبن حنبل فمن المعلوم أنه كرّس جلّ إهتمامه في الحديث. وقد روي أن استاذه الشافعي كان يستعين به في معرفة الحديث الصحيح، ومن ذلك مخاطبته له: أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً[41].

وقد عُرف عن إبن حنبل أنه كان ينكر الرأي والإجتهاد ووضع الكتب القائمة عليهما، كما كان يخالف من سبقوه من الأئمة المجتهدين؛ بمن فيهم معلّمه الشافعي.

ومن ذلك ما رواه أبو يعلى الحنبلي وأبو المحاسن بن المبرد أنه كان لا يوافق أصحاب المذاهب الثلاثة وغيرهم من الفقهاء فيما نهجوه من طريقة. فقد روي أنه كان يقول: لو أن رجلاً ولي القضاء ثم حكى برأي أبي حنيفة ثم سُئلت عنه لرأيت أن أرد أحكامه. وقال في رواية عمر بن معمر: إذا رأيت الرجل يجتنب أبا حنيفة والنظر فيه ولا يطمئن إليه ولا إلى من يذهب مذهبه ممن يغلو ولا يتخذه إماماً، فارج خيره. وسئل مرة - كما قيل -: أيروى عن أبي حنيفة؟ قال: لا، قيل: فأبو يوسف؟ قال: كان أمثلهم، ثم قال: كل من وضع الكتب ويجرد الحديث فلا يعجبني[42]. ومثل ذلك سئل: أيما أحب إليك جامع سفيان أو موطأ مالك؟ فأجاب: لا ذا ولا ذا، عليك بالأثر[43]. كما سأله المروذي: أترى يكتب الرجل كتب الشافعي؟ فقال: لا، فسأله مرة أخرى: أترى أن يكتب الرسالة؟ قال: لا تسألني عن شيء محدث، قال المروذي: كتبتها، قال: معاذ الله.. لا تكتب كلام مالك ولا سفيان ولا الشافعي ولا إسحاق بن راهويه ولا أبي عبيد. وجاء أن ابا عبيد قال عندما أنكر عليه إبن حنبل وضع الكتب: لو علمت أنك تكرهها ما تعرضت لها ولا وضعتها[44]. كما جاء أنه قال لبعض معاصريه: لا تكتب شيئاً من الرأي[45].

أما سبب نفوره من كتابة الرأي فهو كما ذكر أن صاحب الرأي قد يتراجع عنه فيما بعد، واستشهد على ذلك بما فعله سفيان ومالك حين وضعا الكتب وأخرجا المسائل رغم ما فيها من الخطأ في الرأي، حيث أن صاحبه يرى اليوم شيئاً وينتقل عنه غداً[46].

وبخصوص الأفعال قبل ورود الشرع إن كانت على الإباحة أو الحظر روى عنه إبن عقيل روايتين، وعليها انقسم رأي الحنابلة إلى قولين[47].

وهو يعد الرأي والقياس من الباطل في الدين، حتى اتهم القائلين بهما من المبتدعة الضلال[48]. ومما جاء عنه قوله: من دلّ على صاحب رأي فقد أعان على هدم الإسلام[49]. وقوله: ليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء، إنما هو الإتباع وترك الهوى[50]. وكان يقول: عليكم بالسنة، عليكم بالأثر، عليكم بالحديث؛ لا تكتبوا رأي فلان ورأي فلان، فسمى أصحاب الرأي[51]. وفي خبر آخر أنه قال: ما تصنع بالرأي، وفي الحديث ما يغنيك عنه، أهل الحديث أفضل من يكلم في العلم، عليك بالحديث[52].

وهذه الحدة الملحوظة لدى إبن حنبل تخف فيما جاء في بعض الروايات، ومن ذلك ما روي أن إبراهيم الحربي سأله عن مالك، فأجاب: حديث صحيح ورأي ضعيف، قلت: والاوزاعي؟ قال: حديث ضعيف ورأي ضعيف، يعني أنه يحتج بالمقاطيع. قلت: فالشافعي؟ قال: حديث صحيح ورأي صحيح[53].

هذا ما يروى عن إبن حنبل، وهو يخالف ما قيل أنه كان لا يعمل بالقياس إلا في حالات خاصة تضطره إلى ذلك[54]، وعُدّ أقل العاملين به لثروته الحديثية. علاوة عما قيل أن أصوله خمسة هي: النص وفتوى الصحابة والإختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا والحديث المرسل والقياس للضرورة[55]، وأُعتبر أنه جعل قاعدتي المصالح والإستحسان ضمن القياس، وبذلك وسّع من دائرة القياس وأقام مصالحة بين طريقة الشافعي وطريقة كل من أبي حنيفة ومالك، لكنه كان ينفر من الإفتاء في القضايا المفترضة[56]. وقد أضاف البعض إلى أصوله المذكورة كلاً من الإستصحاب وسد الذرائع[57].

وعلى هذه الشاكلة فإن ما يروى عنه يخالف ما قيل - أيضاً - أنه كان يفتي السائلين حسب أحوالهم، ويرى وجوب دراسة حال المستفتي، كشرط من شروط الإفتاء، مما قد يجعل الفتاوى يختلف بعضها عن البعض الآخر في المورد الواحد تبعاً لإختلاف أحوال الناس. فقد قيل أنه «كان يفتي في حال من الأحوال في مسألة معينة، فيسأل عن المسألة نفسها، ويرى إختلاف حال السائل عن حاله في الأولى، فيفتي بما يراه من حاله، فيظن الراوي أنهما رأيان»، مع أن إختلاف الحكم جاء لإختلاف الحال[58].

مع هذا عُرف الفقه الحنبلي - عموماً - بروح الانفتاح في المعاملات، وقدّر البعض أنه يكاد يكون أكثر سماحة واتساعاً من الفقه الحنفي، لأن الحنابلة يرون الأصل في العقود الإباحة، أما غيرهم فيرى الأصل فيها الحظر[59].

مهما يكن فمن الثابت أن إبن حنبل ظل مشدود التعلق بأخذ العلم من فوق مثل الشافعي، لكنه أشد ايغالاً من الأخير لتعويله على الحديث الضعيف وترجيحه على الرأي والإجتهاد، وهي العلة التي جعلت مقلديه قلة، كالذي أشار إليه إبن خلدون في مقدمته[60].

***

إذاً مع ما عُرف من تقسيم الفكر الإجتهادي للأئمة الأربعة إلى شطري أصحاب الرأي وأصحاب الحديث، فتارة جُعل أبو حنيفة من أصحاب الرأي لإكثاره من القياس والفرضيات، وأخرى من أصحاب الحديث لشدة إعتباره له وعنايته به، وأُختلف في حق مالك إن كان أقرب إلى أصحاب الرأي بإعتباره يقول بالمصالح المرسلة، أو أنه من أصحاب الحديث لإهتمامه به.. ومهما قيل عن العامل الظرفي والفارق بين ظرف العراق وقلة الحديث فيه، وبين الحجاز وغزارة الحديث فيه بإعتباره معدن النص والرسالة.. فمهما كان الحال السابق فإن من الواضح أن أصول الرأي التي يقول بها هذان الفقيهان، وكذلك ما يقوله بعدهما الشافعي وإبن حنبل، كلها جاءت استثنائية للضرورة. فالإجتهاد وارد في آخر قائمة مصادر التشريع. وعادة ما يتربع القياس بعد النص وتكون سائر مصادر التشريع الأخرى استثنائية مقارنة به، وهذا يدل على عدم إهتمام المذاهب الفقهية بالواقع وتجدداته، بل يلتفت إليه عند الحاجة والضرورة، بين الحين والآخر. وقد أبدى أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من الفقهاء الحرج من الإجتهاد والرأي والعمل بالقياس وغيره، ما لم تكن هناك حاجة وإضطرار. فالأساس المعول عليه هو نص الحديث، لكونه يحمل في الأصل سمة العصمة والنبوة، ولأنه مصدر التفصيل الذي يحتاجه البيانيون لتغطية حاجات الواقع وتجدداته.

أما بعد فترة الأئمة السابقين، وبالتحديد خلال القرن الرابع الهجري، فقد وصل الإجتهاد إلى باب الإغلاق، وحصرت المذاهب الفقهية بالأربعة المعروفة مع عدد قليل غيرها، ونقل القاضي عياض (المتوفى سنة 544هـ) أن الناس أجمعوا على جواز تقليد المذاهب الأربعة والسفيانية والاوزاعية والداودية دون غيرهم. لكن إلى زمانه لم يبق من المذاهب المذكورة غير المذاهب الأربعة ومذهب داود[61]. واستمر العمل بهذه المذاهب حتى نهاية القرن الثامن الهجري، فكما صرح إبن فرحون (المتوفى سنة 799هـ) بقوله: صار الناس اليوم في أقطار الأرض على خمسة مذاهب: مالكية وحنبلية وشافعية وحنفية وداودية، وهم المعروفون بالظاهرية[62]. ثم بعد ذلك آل الأمر إلى بقاء المذاهب الأربعة دون غيرها.

ومع هذا فقد ظل التداول الفقهي للقضايا ممتداً طيلة القرون التالية، حيث لم يُلغَ الإجتهاد ضمن الفروع الخاصة بالمذهب المتبنى، فهو اجتهاد وتقليد، أو أنه تقليد لأصل المذهب واجتهاد في فروعه. وقد تبنت الدول الحاكمة آنذاك هذه المذاهب ومهدت الطريق إلى تقليدها جيلاً بعد آخر، فكان الفقه الرسمي في الدولة العباسية هو الفقه الحنفي، وفي دولة الأدارسة في المغرب وكذا في الأندلس هو الفقه المالكي، وقيل أن من أسباب اختصاص المغرب والأندلس بالفقه المالكي هو لغلبة البداوة على أهلها، فكانوا أميل إلى أهل الحجاز لهذه العلة[63]، وساد في مصر الفقه الشافعي[64]. وكان للحكم العباسي أثر كبير على التطور الفقهي، إذ كانت الدولة تحتاج إلى ما يدعم سياستها وتنظيم أمورها الادارية عبر النتاج الفقهي، ومن ذلك أن الإمام مالكاً وضع كتابه الموطأ بأمر من المنصور، وأن الفقيه أبو يوسف وضع كتاب الخراج بأمر من هارون الرشيد. وذكر إبن حزم الأندلسي أن مذهبين انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان؛ مذهب أبي حنيفة في المشرق، ومذهب مالك في الأندلس[65].

وقد ولّد هذا التقليد ظهور أتباع يخالفون النهج الذي خطه المؤسسون، حيث أصبح التعامل مع النص الديني تعاملاً بالوساطة والوكالة، وهو أن يؤخذ برأي هؤلاء المؤسسين ولو كان مخالفاً للنص، فصار التعويل على الإجتهاد، وخاصة القياس منه، هو الأصل المرجح على النص، وهو ما لم يجرؤ الفقهاء الأوائل أن يقولوا به. واشتهر قول بعض الأحناف: كل آية أو خبر يخالف قول أصحابنا يُحمل على النسخ أو التأويل أو الترجيح[66]. وزاد بعضهم بقوله: «لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أدّاه ذلك إلى الكفر، فإن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر»[67].

وقد استغرب الشيخ عز الدين بن عبد السلام بما حلّ في المتأخرين من تقليد، وشنّ عليهم هجوماً بالإنكار، وقال: «ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جموداً على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم في خلاف ما وطّن نفسه عليه تعجب غاية التعجب من استرواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحداً رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر، وفقنا الله لإتّباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى إتّباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم، وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته»[68]. وقال أيضاً: «لم يزل الناس يسألون من إتفق من العلماء من غير تقييد لمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلّدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلّداً له فيما قال كأنه نبي أُرسل، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب»[69].

وكان من خصائص هذه المرحلة أن أفضى الأمر إلى تشعب الآراء الفقهية في كل مذهب بسبب اتساع دائرته، وإختلاف آراء المخرجين فيه لأحكام الحوادث، مضافاً إلى إختلاف الروايات في كثير من الموضوعات عن إمام المذهب نفسه، إذ قد يكون له في الموضوع الواحد عدة آراء منقولة مختلفة، وهذا ما أدى إلى استمرار حركة الترجيح والتصحيح لبعض الآراء والروايات، والتضعيف للبعض الآخر. فوصفت المرحلة بأنها حركة التحرير والتخريج والترجيح في المذاهب، وأُرّخت مدتها بأنها تمتد ما بين منتصف القرن الرابع وحتى زمن سقوط بغداد منتصف القرن السابع الهجري. أما المرحلة التي تلتها منذ سقوط بغداد وحتى ما يقارب القرن الثالث عشر الهجري فقد وصفت بأنها فترة ركود وجمود شمل مختلف مناحي الحياة العلمية وعلى رأسها الدراسات الفقهية، حيث لم يصبح المذهب الفقهي هو الشاغل لطلاب الفقه كما كان في السابق، بل زاد الأمر ضيقاً، وهو أن صار الانكباب على كتاب فقيه بعينه هو الشاغل للمريدين. فقد «أصبح مريد الفقه يدرس كتاب فقيه معين من رجال مذهبه فلا ينظر إلى الشريعة وفقهها إلا من خلال سطوره»[70]. مما يعني أن هناك شرائع بعضها ينتزع من البعض الآخر، فمع توالي الزمن أخذت هذه الشرائع تتسع شيئاً فشيئاً، فلم يعد هناك إهتمام بالنص الديني إلا عبر وسائط متعددة.

وزامن هذا التقليد في الفروع والفقه تقليد مثله في الأصول والعقيدة، إذ آلت المذاهب الأربعة في الأخير إلى تبني العقيدة الأشعرية بعد أن كانت متوزعة على بعض الفرق، فاجتمع على الأشاعرة الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة. أما قبل ذلك فقد كان أغلب الحنابلة حشويين، وأغلب الحنفية معتزلة، وأغلب الشافعية أشاعرة، وأغلب المالكية قدريين جبريين، كالذي أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام[71].

وقد تبدو هنا مفارقة في ابتعاد الفقهاء عن الخطاب الديني والتعويل على آراء الرجال وقياساتهم، رغم أنهم تبنوا العقيدة الأشعرية التي ترى عدم صحة الإجتهاد والقياس ما لم يكشف عنه هذا الخطاب، وأنه لا مجال للإنحراف عنه بأي وجه من الوجوه تبعاً لنظرية الحسن والقبح الشرعيين. إذ زاد الأمر سوءاً بأن أخذ المتأخرون يجتهدون في الأحكام ولو بمخالفة النصوص، كالذي يشير إليه إبن القيم الجوزية[72]. وكان أبرز ما يعوّل عليه في الإجتهاد هو القياس الذي سنخصص له الفقرة التالية..

 

الإجتهاد السني ومبدأ القياس 

ما من مشكلة يواجهها الفقه أكبر من تسديد حاجات الواقع وتغطية مستجداته. فعندما وجد الفقهاء النصوص عاجزة عن أن تغطي كل ما يفرزه الواقع من مستجدات؛ لجأوا إلى الإجتهاد وعلى رأسه القياس بإعتباره ظل النص فينوب عنه تبعاً لوجود مثال سابق يطرحه الأخير. فغرض القياس هو سد مشكلة التناهي الوارد في النصوص قبال العدد غير المحدود من الحوادث المستجدة. ومع أن ائمة المذاهب الفقهية كانوا في الغالب لا يعملون بالقياس إلا عند الضرورة، إلا أن فترة التقليد التي شهدها عصر ما بعد الأئمة قد أولته إهتماماً منقطع النظير كأهم مصدر للتشريع، وذلك تلبية لتغطية حاجات الواقع وتجدداته.

وهنا يحضرنا ما قاله إمام الحرمين الجويني بهذا الصدد، إذ بيّن أهمية القياس واعتبره كما قال: «مناط الإجتهاد وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة، وهو المفضي إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع مع انتفاء الغاية والنهاية، فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة مقصورة، ومواضع الإجماع معدودة مأثورة، فما ينقل منها تواتراً فهو المستند إلى القطع، وهو معوز قليل، وما ينقله الآحاد من علماء الأعصار ينزل منزلة أخبار الآحاد، وهي على الجملة متناهية، ونحن نعلم قطعاً أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها. والرأي المبتوت المقطوع به عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى متلقى من قاعدة الشرع، والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع هو القياس وما يتعلق به من وجوه النظر والإستدلال. فهو - إذاً - أحق الأصول باعتناء الطالب»[73]. كما صرح غيره بأنه لو لم يستعمل القياس أفضى إلى خلو كثير من الحوادث عن الأحكام؛ لقلة النصوص وكون الصور لا نهاية لها[74]. وإن كان في قبال ذلك من رأى عدم الحاجة إلى القياس إلا في الموارد القليلة أو الاستثنائية، وكما قال البعض: من اتسع علمه بالنصوص قلت حاجته إلى القياس , كالواجد ماء لا يجزيه التيمم، وإنما يحتاج إليه في القليل[75].

لقد كان العمل بالقياس قبل تقنينه عملاً آلياً لا يسع الفقيه الاستغناء عنه رغم عدم خضوعه إلى ضوابط محددة. أما بعد عملية التقنين فقد أصبحت له شروط وقيود مصرح بها، حيث أقام الشافعي تحديداً لمصادر التشريع، واعتبر ثلاثة منها لا تعبّر عن الإجتهاد، بل هي كاشفة عن الشرع بدرجات متفاوتة، وأضاف إليها الإجتهاد محدداً بالقياس كمصدر رابع وأخير. وهذه المصادر هي بحسب رتبها عبارة عن: الكتاب والسنة والإجماع والإجتهاد أو القياس. وتحديد القياس عند الشافعي هو كما يقول: «كل حكم لله أو لرسوله وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنه حُكمَ به لمعنى من المعاني، فنزلت نازلة ليس فيها نص حكم، حُكم فيها حكم النازلة المحكوم فيها، إذا كانت في معناها»[76]. أي هو تنزيل حكم شرعي في قضية معينة بدلالة معنى من المعاني على قضية أخرى ليس فيها حكم، وذلك حين تكون في نفس معنى تلك الدلالة. فالشرط الأساس في صحة القياس عند الشافعي هو أن تكون القضية التي تخلو من الحكم لها معنى هو نفس معنى القضية المحكوم عليها من قبل الشرع. لكنه أضاف إلى ذلك وجهاً آخر للقياس اعتبره صحيحاً أيضاً وإن كان أقل رتبة عن الأول، إذ رأى القياس من وجهين «أحدهما أن يكون الشيء في معنى الأصل فلا يختلف القياس فيه، وأن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فذلك يُلحق بأولاها به وأكثرها شبهاً فيه. وقد يختلف القايسون في هذا»[77].

وهو إذ يحدد الجانب الداخلي من القياس، والمتمثل بإدراك مطابقة المعنى بين الأصل والفرع، أو ذلك الذي يكون فيه الشبه، لا ينسى أن يذكّر بضرورة أخذ الجانب الخارجي للقياس بعين الإعتبار، كما يتمثل بحال القايس ذاته، إذ يشترط أن «يكون صحيح العقل حتى يفرّق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به دون التثبيت، ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه، لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتاً فيما اعتقد من الصواب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك»[78].

مع ذلك فإنه يستبعد من القياس حالة واحدة هي الرخص خلافاً للحنفية، أي «ما كان لله فيه حكم منصوص ثم كانت لرسول الله سنة بتخفيف في بعض الفرض دون بعض عُمل بالرخصة دون سواها، ولم يُقس ما سواها عليها»، ومثّل على ذلك بآية الوضوء، فحيث أن الرسول مسح على الخفين فإنه لا يجوز القياس عليه بالمسح على العمامة أو البرقع أو القفازين[79].

أما المتأخرون عن الشافعي فقد زادوا إهتماماً بالقياس وتفريعاته، ودونوا له الكثير من التعاريف لضبطه وتحديده، ووضعوا له الشروط الكفيلة باجرائه وتطبيقه. وكان من بين التعاريف التي وُضعت له ما قيل أنه مساواة فرع لأصل في علة الحكم. أو هو عبارة عن تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد. أو هو حمل معلوم على معلوم آخر في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة. أو هو ادراج خصوص في عموم. أو هو إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به. أو هو الحاق المختلف فيه بالمتفق عليه. أو هو إستنباط الخفي من الجلي. أو هو حمل الفرع على الأصل ببعض أوصاف الأصل. أو هو حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه. أو هو حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه. أو هو استخراج مثل حكم المذكور لما يذكر بجامع بينهما[80]... الخ.

ومعلوم أن للقياس أركاناً أربعة، هي الأصل والفرع والحكم والجامع بين الأصل والفرع، وقد يكون هذا الجامع علة أو نوعاً من الشبه أو غير ذلك. وأهم ما في القياس هو معرفة الجامع، بل والعلة منه بالخصوص. وهناك عدة طرق للتعرف عليها من خلال الوصف. فمثلاً حددها القرافي بثمانية طرق[81]، أشهرها النص، وتسمى العلة المنصوص عليها، وقد تكون دلالة النص صريحة قاطعة أو ظنية. كذلك الإجماع، وهو كاشف عن النص بشكل ما من الأشكال. كما هناك الطرد، وهو اطراد ثبوت الحكم مع وصف يُفهم منه أنه العلة في الحكم. وهناك الدوران، وهو دوران الحكم مع وصف وجوداً وعدماً، فيُعلم أنه العلة[82]. وهناك تنقيح المناط، وهو تهذيب ما نيط به الحكم وبني عليه وهو علة، أي يشترط أن يكون النص دالاً على العلة، وأن التنقيح مهمته أن يستبعد الأوصاف التي تقترن مع العلة وجعلها لا مدخل لها فيها. كذلك هناك السبر والتقسيم، وهو الإختبار وحصر الأوصاف الصالحة لأن تكون علة حكم الأصل. فبواسطة الإختبار تستبعد الأوصاف التي لا يصح أن تكون علة، وهنا تتفاوت عقول المجتهدين فمنهم من يرى المناسب هذا الوصف ومنهم من يراه غيره، مثل الإختلاف في علة ولاية البكر الصغيرة في التزويج، إذ الحنفية رأوا المناسب في تعليل الولاية هو الصغر، بينما رأى الشافعية أنه البكارة. والتمايز بين التنقيح وبين السبر والتقسيم هو أنه في التنقيح يكون النص دالاً على علة الحكم، وفي السبر والتقسيم غير دال ويراد التوصل بها إلى معرفة العلة لا إلى تهذيبها[83].

وأهم ما في هذه الطرق ما يعرف بالمناسبة، وهي أن تكون العلة ذات علاقة بالمصلحة العامة ودفع الضرر أو رفع الحرج عن الناس. وفي هذه الحالة لا بد أن تكون علة الحكم وصفاً ظاهراً منضبطاً ومناسباً لمظنة تحقيق الحكمة من الحكم التي يدل عليها الشرع. فمثلاً أن الإسكار هو وصف مناسب لتحريم الخمر؛ لأن في بناء التحريم عليه حفظ العقول[84]. وهناك الكثير من النصوص التي يمكن القياس عليها تبعاً لملاحظة مصالح الناس، فمثلاً قيس على الحديث النبوي: (القاتل لا يرث مورثه) حالة قتل الموصى للموصي، فيحرم الأول مما اوصي إليه، كعقوبة مثل حالة قتل الوارث. كما أن نص الحديث (لا يحل لإنسان أن يخطب على خطبة أخيه ولا أن يبتاع على بيع أخيه) قيس عليه عقد الإيجار، وهو أن لا يحل لإنسان أن يستأجر على استئجار أخيه، للتساوي في أن كلاً منهما فيه إعتداء على الغير[85].

وزعم بعض المعاصرين أن الأصوليين استثنوا من ممارسة القياس وجريانه حالات مثل المجالات التعبدية وكذلك العقوبات المقدرة من حدود وكفارات وأيضاً الفروض المقدّرة كما في الإرث[86]. لكن على رأي الكثير من العلماء فإن القياس يجري في جميع الأحكام حتى في الحدود والكفارات خلافاً لما ذهب إليه الحنفيون، كالذي نصّ عليه صفي الدين الحنبلي[87]، وكذا جماعة من الشافعية من أمثال القاضي أبي الطيب وسليم وإبن السمعاني وأبي منصور[88]. وقد كان الشافعي يقول في كتابه (الأم): ولا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ منهم ربع دينار فصاعداً، قياساً على السنة في السارق[89]. وحتى الحنفية فقد تتبع الشافعي مذهبهم وأبان أنهم لم يفوا بشيء مما ذكروه من منع القياس في كل من الحدود والكفارات والمقدرات[90].

هكذا يتضح أن أغلب فقهاء السنة أولوا القياس جلّ إهتمامهم، وطبقوه على مختلف القضايا الفقهية، وكان مبررهم في العمل به هو عدم كفاية النصوص الدينية لتغطية مستجدات الواقع.

أما النافون للقياس، فقد رأوا أن هذا النوع مع غيره من أنواع الإجتهاد التي تفترض وجود حوادث لا نصّ فيها؛ كلها تجري ضد البيان الشرعي، وأن ما جاء به الخطاب من التفصيل يكفي لسد كل ما يتعلق بالواقع وتجدداته.

وكان من أبرز نفاة القياس القدماء النظّام الذي ساق الكثير من الأمثلة التي تكشف ضعف العمل بالقياس، حيث كشف عن أن الشارع فرّق بين المتماثلات وجمع بين المختلفات، مما يعني ضرباً للجامع الذي يعتمد عليه القياس في التفريع. ومن الأمثلة التي تذكر بهذا الخصوص نختار ما يلي:

 إن الشارع قد فرض الغسل من المني وابطل الصوم بإنزاله عمداً، لكنه لم يفعل ذلك بخصوص البول والمذي وهو نجس.

كما أوجب غسل الثوب من بول الصبية، والنضح من بول الصبي، رغم تساويهما في النجاسة.

وكذا أوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، مع أن الصلاة أهم من الصوم.

وفرّق في العدة بين الموت والطلاق، رغم إستواء حال الرحم فيهما.

وانه نقّص الشطر من صلاة المسافر الرباعية، وأبقى الثلاثية والثنائية على حالهما.

وقطع يد السارق ولو سرق ثلاثة دراهم، في حين لم يقطع يد المختلس ولو اختلس ألف دينار، ولا قطع يد المنتهب ولا الغاصب.

واكتفى في القتل بشاهدين دون الزنا، مع أن القتل أعظم من الزنا.

واوجب حد الفرية على قذف الغير بالزنا، لكنه لم يفعل ذلك مع القذف بالكفر، رغم أنه أشد من الأول.

كما أوجب الصدقة في السوائم، لكنه أسقطها عن العوامل... إلى غير ذلك من الأمثلة الفقهية[91].

وأجاب إبن القيم الجوزية على هذه الشبهات فرأى أن هناك عللاً وحِكماً في تفريق الشارع بين المتماثلات وجمعه بين المختلفات، الأمر الذي لا ينافي العمل بالقياس الصحيح. فمثلاً أنه اعتبر الحكمة في قطع يد السارق دون المختلس والمنتهب والغاصب، هي أن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فهو ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، وبالتالي فلولا التشريع بالقطع لسرق الناس بعضهم بعضاً ولعظم الضرر واشتدت المحنة بالسراق، خلافاً للمنتهب والمختلس، حيث أن المنتهب يأخذ المال جهرة بمرأى الناس، وبذلك يمكنهم من الأخذ على يديه، أو يشهدوا ضده عند القاضي. وأما المختلس فإنه يمكن الإحتراز منه بالتحفظ والتيقظ، وهو أشبه بالخائن من السارق. في حين أن الأمر في الغاصب ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب[92].

كما اعتبر الحكمة في الشهادة على الزنا بأن الشارع بالغ في ستره فلم يقبل فيه إلا أربعة شهود يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها الإحتمال، حرصاً على الستر وكره اظهاره والتكلم به، وتوعد من أحب اشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. في حين يختلف الأمر مع القتل، إذ لو اشرط الشارع أربعة شهود؛ لضاعت الدماء وتواثب العادون وتجرأوا على القتل[93].

كذلك اعتبر الحكمة في حد القذف بالزنا دون الكفر، هي أن القاذف غيره بالزنا لا سبيل للناس إلى العلم بكذبه، فجعل حد القذف تكذيباً له، وتبرئة لعرض المقذوف، وتعظيماً لشأن هذه الفاحشة التي يجلد من رمى بها مسلماً. وأما من رمى غيره بالكفر فإن شاهد حال المسلم واطلاع المسلمين عليها كاف في تكذيبه، ولا يلحقه من العار بالادعاء ما يلحق ذلك الذي يُرمى بالفاحشة، ولا سيما إن كان المقذوف امرأة، فإن العار الذي يلحقها بين أهلها وتشعب ظنون الناس وكونهم بين مصدق ومكذب؛ لا يلحق مثله بالرمي بالكفر[94].

وأيضاً اعتبر الحكمة في ايجاب الشارع الصدقة في السائمة واسقاطها في العوامل، هي أن الأخيرة مصروفة عن جهة النماء إلى العمل، فهي كالثياب والعبيد والدار التي ليس فيها زكاة[95].

فهذه جملة مما أجاب به إبن القيم لدفع الشبهات المطروحة بصدد القياس. ويلاحظ أنها تتعلق بذكر المصالح والحِكم التي يقدرها العقل، لكن العمل بالقياس أعمّ من ذلك. كما أن التزاحم بين المصالح والحِكم قد يمنع أحياناً معرفة تحديد الأحكام حولها، لا سيما العبادات.

 

أزمة الإجتهاد السني 

هناك عدد من المشاكل تعترض قاعدة القياس والإجتهاد، أهمها ما يلي:

 

أولاً:

إن الإجتهاد ومنه القياس يفتقر إلى الدليل الشرعي القطعي، وأن العمل به لا يكون بحسب الإعتبارات الظنية لكونه قاعدة كبرى تتوقف عليه الكثير من الأحكام. وقد كان الشافعي يستدل عليه إستدلالاً دورياً من الخطاب القرآني، وأن المتأخرين استدلوا عليه تارة من القرآن، وثانية من السنة، وأخرى بدعوى الإجماع، وكذا بدعوى أن الصحابة كانوا يمارسونه[96]. فمن القرآن - مثلاً - استدلوا بقوله تعالى: ((فاعتبروا يا أولي الأبصار)) (الحشر\2)، حيث إستفاد الفقهاء من ذلك بأن لفظة «فاعتبروا» لها دلالة على القياس، لأن الأخير هو عبور من الأصل إلى الفرع، مما يعني أن الأمر الوارد في الآية بصيغة تلك اللفظة يتعلق بالحث على القياس ومن ثم الإجتهاد. مع أن سياق الآية ليس بصدد الإجتهاد ولا القياس المصطلح عليه، فهو دال على أخذ العبرة، سيما أن العبرة أو «العبور» في الآية ليس من جهة الإرتكاز إلى معنى النص ومن ثم تطبيق حكمه على مشابهاته كما في القياس والإجتهاد، وإنما عبارة عن النظر إلى واقع خارجي وتأمله ولو من خلال ما صوّره القرآن وحكاه لأجل الإفادة بأخذ العبرة منه. وهذا المعنى لا علاقة له بالإجتهاد المصطلح عليه. فهو ليس ربط حادثة بنص كما هو شأن الإجتهاد والقياس، بل ربط مصير بواقع لم يبق منه إلا الأثر وما خلّفه من درس وعبرة كما تنص على ذلك بداية الآية: ((هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)).

ويؤيد هذا المعنى ما ذهب إليه إبن حزم من أن المراد بالإعتبار التعجب بدليل سياق الآية، ووافقه على ذلك إبن عبد السلام فقال في (القواعد): من العجيب إستدلالهم بهذه الآية على جواز القياس مع أن الإعتبار في الآية يراد به الاتعاظ والازدجار، والمطلق إذا عمل به في صورة خرج عن أن يكون حجة في غيرها بالاتفاق. ثم قال: وهذا تحريف لكلام الله عز وجل عن مراده إلى غير مراده، ثم كيف ينتظم الكلام مع كونه واعظاً بما أصاب بني النضير من الجلاء أن يقرن ذلك الأمر بقياس الدخن على البر والحمص على الشعير، فإنه لو صرح بهذا لكان من ركيك الكلام وإدراجاً له في غير موضعه وقراناً بين المنافرات. لكن الزركشي عجب من إبن عبد السلام، وطبّق على الآية مفهوم العبرة بعموم اللفظ، وأرجع المسألة إلى قياس العلة، لأن إخراجهم من ديارهم وتعذيبهم قد رُتّب على المعصية، فالمعصية علة لوقوع العذاب، فكأنه قال: تقعوا في المعصية فيقع بكم العذاب، قياساً على أولئك، فهو قياس نهي على نهي، بعلة العذاب المترتبة على المخالفة. قال الماوردي: وفي الإعتبار وجهان: أحدهما: أنه مأخوذ من العبور، وهو يجاوز المذكور إلى غير المذكور، وهذا هو القياس. والثاني: من العبرة وهو إعتبار الشيء بمثله، ومنه عبر الخراج أي قياس خراج عام بخراج غيره في المماثلة. وفي كلا الوجهين دليل القياس لأنه أمر أن يستدل بالشيء على نظيره، وبالشاهد على الغائب[97].

لكن كما قلنا أن الآية بعيدة كل البعد عن القياس المتواضع عليه، وهو إلحاق مسكوت عنه بمنصوص عليه، إذ لا نجد في مسألتنا إشارة للرجوع إلى النص كما يشترطه القياس. كما أن الإستدلال بالآية على القياس يفيد - على فرض صحته - القياس المتعلق بالموضع الذي طرحته الآية، ولا دليل منها يتعدى ذلك الموضع. مما يعني أن التعدي قائم على قياس مُصادر على المطلوب.

ومن الحديث استدلوا على الإجتهاد بعدد من الروايات، لكنهم لم يوفقوا في ابراز حالة التواتر، ولا المعنى الذي راموا إليه. ومن ذلك أنهم استدلوا بما روي عن النبي قوله: «إذا إجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا إجتهد فأخطأ فله أجر واحد». ومثل ذلك روي أن الرسول (ص) طلب يوماً من عمرو بن العاص أن يحكم في مسألة، فقال: أجتهد وأنت حاضر يا رسول الله؟ قال: نعم إنْ أصبت فلك أجران، وإنْ أخطأت فلك أجر. وقال لعقبة وعمرو بن العاص: إجتهدا فإن أصبتما فلكما عشر حسنات وإنْ أخطأتما فلكما حسنة واحدة. وإجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة حينما رضي النبي بتحكيمه، فحكم بقتل الرجال وسبي النساء والذراري بالرأي.

وبغض النظر عن سند هذه الروايات فالملاحظ أنها لا تدل على المعنى المصطلح عليه من الإجتهاد، فموردها محدد بأمور الحكم والقضاء، وهي أمور تتعلق بتقدير الأحكام وتطبيقها على المصاديق، الأمر الذي قد يجعل الحاكم أو القاضي مخطئاً في حكمه لا من جهة معرفة الحكم الكلي، بل من حيث عدم تشخيص الواقع كما هو.

لكن أهم المنقولات التي لها دلالة على الإجتهاد بالرأي هي منقولة معاذ بن جبل حينما بعثه النبي إلى اليمن قاضياً، إذ قال له النبي: بمَ تقضي إنْ عرض لك قضاء؟ قال: بما في كتاب الله، قال (ص): فإن لم تجد؟ قال: بما في سنة رسول الله، قال (ص): فإن لم تجد؟ قال: أجتهد ولا آلو. فسّر بذلك رسول الله وقال: الحمد لله أن وفق رسول الله لما يرضي الله ورسوله. فهذه الحادثة لها دلالة على الإجتهاد باستنفاد الجهد فيما لا نص فيه. لكنها من جهة وردت بخصوص القضاء وهو يحتاج إلى فض المنازعات والفصل فيها؛ سواء بالإستناد إلى النص أو إلى غير ذلك إن لم يتمكن القاضي من إيجاد الحكم في النص، وهو خلاف الحال في الفتوى، إذ قد لا يترتب على الفتوى أثر من المشاكل أن توقف المفتي وإمتنع عن الإفتاء أو قال بالإحتياط أو أي وظيفة عملية أخرى، وذلك فيما لو عجز عن تحصيل الحكم الشرعي من النصوص. لهذا فإن قياس الإجتهاد في القضاء على الفتوى يعني إلغاء الخصوصية في الأول، وهو ما يحتاج إلى دليل منفصل يسمح بمثل هذا التعدي.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن منقولة معاذ هي كغيرها من المنقولات التي ذكرناها تُعد من أخبار الآحاد التي لا تنفع في إثبات مثل هذا المطلب الكبير، فالإجتهاد أصل أساس تتوقف عليه مختلف الفروع الفقهية، ومن غير المنطقي أن يتم إثباته بمجرد خبر الآحاد الظني الثبوت. لهذا سبق لأبي حنيفة أن إعتبر بأن خبر الواحد إذا كان مما تعم به البلوى فليس بحجة، فكيف الحال والخبر مرسل؟! ناهيك عن أن هناك من عدّه من الموضوعات، كما هو الحال مع الجوزجاني الذي علّق عليه بقوله: «هذا حديث باطل جاء بإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أصول الشريعة». وكذا أن إبن حزم اعتبره حديثاً باطلاً لم يروه أحد إلا الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص لم يسمهم، وهو ذاته رجل مجهول لا يعرف من هو[98].

كما استدلوا على حجية الإجتهاد - خاصة القياس - بدعوى الإجماع. وهي مجرد دعوى لا يستفاد منها علم. بل يمكن القول أنها باطلة للعلم بأن العديد من السلف قد نهوا عن العمل بالرأي والقياس، كما هو الحال مع الإمام الصادق وداود الأصبهاني وإبنه وغيرهم..

وكذا قيل أن الصحابة كانوا يعملون بالقياس جميعاً وإن لم يتبين الضابط لديهم، وأُعتبر ذلك دليلاً على صحته[99]. والحال أن المؤشرات الكثيرة تشير إلى أنهم كانوا يعملون وفق المصلحة العامة، لا بمحض القياس، وذلك إذا ما استثنينا روايات قليلة رويت عنهم بهذا الصدد، كالرواية التي رويت عن الإمام علي بشأن حد الخمر. بل يلاحظ في القبال أن روايات السلف التي وردت في النهي عنه وعن الرأي كثيرة لا يرقى إليها ما يخالفها[100]. وسبق لإبن حزم أن نفى أن يكون هناك أحد من الصحابة أباح القول بالقياس، بإستثناء الرسالة الموضوعة عن عمر بن الخطاب، وهي عنده لا تصح، حيث رواها رجلان متروكان[101].

 

ثانياً:

هناك قياسات لا يطمئن لها، لكونها تفتقد التساوي في الإعتبار، ومن ذلك ما ذهب إليه جماعة من الفقهاء من أن الجهل بالمهر في عقد الزواج يفسد النكاح قياساً على ما يحصل في البيع، حيث أن الجهل في المعاوضة أو الثمن يفسد البيع، وكذا يكون الجهل في المهر من حيث أنه عوض عن بضع الزوجة[102]. ومن ذلك أيضاً ما عوّل عليه الفقهاء من صحة قياس الخلافة على الإمامة في الصلاة، رغم فارق المسؤولية والمصلحة بين الموضعين، حيث ما يصلح هنا قد لا يصلح هناك، وكذا العكس، لكن الفقهاء عولوا على ما روي عن عثمان قوله: نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله لديننا[103]. وعلى هذه الشاكلة أوجب الحنفية الكفارة على القتل قياساً على المجامع، وعلى المجامع ناسياً في الإحرام، كما لو قتل الصيد خطأ، رغم وجود الفارق بين هذه الحالات. وكذا الحال حول إجراء القياس على من يكاتب الكفار ويطلعهم على عورات المسلمين بإلحاقه بالسارق، وقد ردّ البعض على هذا القياس، بقوله: إن ذلك يقتضي التصرف في علائق غيب لا يهتدى إليه فانعدم طريق القياس، حيث أن الذي يكاتب الكفار وإن زاد ضرر فعله على ضرر السارق الواحد فهو بالإضافة إلى سارق واحد، أما بالإضافة إلى الجنس فلا، حيث أن السرقة مما يتشوف إليها الرعاع بخلاف مكاتبة المسلم فإنها لا تكاد توجد، أو لا يظهر إستواء السبب، فكل ما كان من هذا الجنس فلا يجري فيه القياس لفقد الشرط[104]. وواقع الأمر أن البعد بين المسألتين عظيم!

وقديماً نصّ الغزالي على أن أكثر قياسات الفقهاء - وكذا المتكلمين - مبنية على مقدمات مشهورة يسلمون بها لمجرد الشهرة، لذلك ترى أقيستهم تتضمن نتائج متناقضة فيتحيرون فيها[105]. كما فصّل إبن القيم صور الاضطراب والتناقض التي شهدها أهل الإجتهاد فيما عولوا عليه من الممارسة القياسية، سيما تلك التي لها علاقة بقياس الشبه، وقال بهذا الصدد: «إن أصحاب القياس قالوا بقياس الشبه، وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يُعْلم أن الشارع علقها بها، واستنبطوا عللاً لا يعلم أن الشارع شرّع الأحكام لأجلها، ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس، ثم اضطربوا فتارة يقدمون القياس، وتارة يقدمون النص، وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضاً إلى أن يعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شُرّعت على خلاف القياس»[106].

وعرض إبن القيم بهذا الصدد صفحات كثيرة منقولة عن أتباع المذاهب الأربعة دالة على اضطرابهم وتناقضهم فيما مارسوه من قياسات. ومن شواهده على ذلك ننقل طرفاً من أقواله - للفائدة – كالتالي:

قلتم يُقتل الرجلُ بالمرأة، ثم ناقضتم فقلتم لا يؤخذ طرفه بطرفها، وقلتم يقتل العبد بالعبد وإن كانت قيمة أحدهما مائة درهم وقيمة الآخر مائة ألف درهم، ثم ناقضتم فقلتم لا يؤخذ طرفه بطرفه، إلا أن تتساوى قيمتهما، فتركتم محض القياس. وقستم قول القائل: (إن كلمت فلاناً أو بايعته فإمرأتي طالق وعبدي حر) على ما إذا قال (إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق) ثم عديتم ذلك إلى قوله (الطلاق يلزمني لا أكلم فلاناً) ثم كلمه، ولم تقيسوه على قوله (إن كلمت فلاناً فعليّ صوم سنة، أو حج إلى بيت الله، أو فمالي صدقة) وقلتم هذا يمين لا تعليق مقصود، فتركتم محض القياس، فإن قوله (الطلاق يلزمني لا أكلم فلاناً) يمين لا تعليق[107]. وقلتم لو حبلت إمرأة لا زوج لها ولا سيد وولدت مرة بعد مرة لم تحد، ولو تقيأ الخمر كل يوم لم يحد فتركتم محض القياس[108]. وقلتم لو قال القائل: (بعتك هذا العبد بألف) فإذا هو جارية أو بالعكس فالبيع باطل، فلو قال (بعتك هذه النعجة بعشرة) فإذا هي كبش أو بالعكس فالبيع صحيح، ثم فرقتم بأن قلتم المقصود من الجارية والعبد مختلف، والمقصود من النعجة والكبش متقارب وهو اللحم، وهذا غير صحيح؛ فإن الدرَّ والنسل المقصود من الأنثى لا يوجد في الذكر، وعَسْب الفحل وضِرَابه المقصود منه لا يوجد في الأنثى، ثم ناقضتم أبْيَن مناقضة بأن قلتم لو قال (بعتك هذا القمح) فإذا هو شعير أو (هذه الألْية) فإذا هي شحم لم يصح البيع مع تقارب القصد. وقلتم لو باعه ثوباً من ثوبين لم يصح البيع لعدم التعيين، فلو كانت ثلاثة أثواب فقال: (بعتك واحد منها) صحّ البيع؛ فيالله العجب! كيف أبطلتموه مع قلة الجهالة والغَرَر وصححتموه مع زيادتهما؟ أفترى زيادة الثوب الثالث خَفَّفت الغَرَر ورفعت الجهالة؟ وتفريقكم بأن العقد على واحد من إثنين يتضمن الجهالة والتغرير؛ لأنه قد يكون أحدهما مرتفعاً والآخر رديئاً فيُفْضِي إلى التنازع والإختلاف، فإذا كانت ثلاثة فالثلاثة تتضمن الجيد والرديء والوسط، فكأنه قال: (بعتك أوسطها) وذلك أقل غرراً من بيعه واحداً من إثنين رديء وجيد، وإذا أمكن حَمْلُ كلام المتعاقدين على الصحة فهو أولى من إلغائه، وهذا الفرق ما زاد المسألة إلا غرراً وجهالة، فإن النـزاع كان في ثوبين فقط وأما الآن فصار في ثلاثة، وإذا قال (إنما وقع العقد على الوسط) قال الآخر (بل على الأدنى، أو على الأعلى) [109]. وقلتم لو أفطر في نهار رمضان فلزمته الكفارة ثم سافر لم تسقط عنه؛ لأن سفره قد يتخذ وسيلة وحيلة إلى إسقاط ما أوجب الشرع فلا تسقط، وهذا بخلاف ما إذا مرض أو حاضت المرأة فإن الكفارة تسقط؛ لأن الحيض والمرض ليس من فعله، ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم لو احتال لإسقاط الزكاة عند آخر الحَوْل فملَّكَ ماله لزوجته لحظة فلما انقضى الحول استردَّه منها، واعتذاركم بالفرق ـ بأن هذا تحيل على منع الوجوب، وذلك تحيل على إسقاط الواجب بعد ثبوته، والفرق بينهما ظاهر ـ اعتذارٌ لا يجدي شيئاً، فإنه كما لا يجوز التحيل لإسقاط ما أوجبه الله ورسوله لا يجوز التحيل لإسقاط أحكامه بعد انعقاد أسبابها ولا تسقط بذلك[110]. وقلتم لو قال لامرأته (طلقي نفسك) ثم نهاها في المجلس ثم طلقت نفسها وقع الطلاق، ولو قال ذلك لأجنبي ثم نهاه في المجلس ثم طلق لم يقع الطلاق فخرجتم عن موجب القياس، وفرقتم بأن قوله لها تمليك وقوله للأجنبي توكيل، وقد تقدم بطلان هذا الفرق[111]. وقلتم لو أوصى له بثلث ماله وليس له من المال شيء، ثم اكتسب مالاً فالوصية لازمة في ثلثه، ولو أوصى له بثلث غنمه ولا غنم له ثم اكتسب غنماً فالوصية باطلة، فتركتم محض القياس، وفرقتم تفريقاً لا تأثير له، ولا يتحصل منه عند التحقيق شيء[112].

 

ثالثاً:

يضاف إلى ما سبق يمكن لحاظ النقاط المجملة التالية:

1ـ إن القياس الذي اعتمد عليه الفقهاء يفضي إلى نتيجة ظنية، لكنه في الوقت ذاته قائم في الغالب على ما هو ظني، أي على خبر الآحاد، فهو بالتالي يحمل ظناً مضروباً بمثله، فيكون بذلك أكثر ضعفاً وأقل إحتمالاً.

2ـ إن القياس الذي من الواضح قبوله هو ذلك المتعلق بمقاصد الشرع أو المصالح العامة والتي هي قطعية وعليها أدلة متواترة كتلك التي طرحها الشاطبي بطريقته الاستقرائية[113]، وأما قياس الشبه، كالذي ذهب إليه الشافعي وغيره والذي يعود إليه أغلب أقيسة الفقهاء كالذي يحتمله الغزالي[114]، فليس عليه دليل[115]، وأنه لا ضابط له وكثيراً ما يصطدم مع مصالح الواقع. مما يعني أن العبرة بالمقاصد والمصالح لا القياس.

3ـ إن النهج الفقهي لم يوظف في الغالب طرق إعتبارات المصلحة في الكشف عن الأحكام الشرعية إلا عند الضرورة وضغط الواقع، وهو ما يكشف عن فشل هذا المنهج في ما عوّل عليه من سلوك استعلائي، كالذي بيناه في عدد من الدراسات.

4ـ بإعتقادنا ليس الإجتهاد الملحّ في الطلب هو ذلك الذي عوّل عليه أصحاب البيان من الفقهاء، سواء في دائرة النص، أو دائرة ما لا نص فيه، بل الإجتهاد المطلوب هو ذلك المتعلق بالواقع تحت ظل مقاصد الشرع، كالذي فصلنا الحديث عنه في (فهم الدين والواقع) [116].

 

 

 



[1]  إبن القيم الجوزية: أعلام الموقعين عن رب العالمين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف، دار الجيل، بيروت، 1973م، ج2، ص284.

[2]  أبو بكر بن العربي: المحصول في أصول الفقه، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن الفصل الثاني: في الدليل على صحة الأصل (لم تذكر ارقام صفحاته).

[3]  الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتعريف حسين جمعة، دار دانية بيروت ـ دمشق، الطبعة الأولى، 1990م، ص86. والشاطبي: الاعتصام، دار الكتب الخديوية بمصر، تقديم محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، 1913م، ج3، ص197ـ199. كذلك: أعلام الموقعين، ج1، ص333 وما بعدها.

[4]  أنظر حول ذلك كتابنا: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، طبعة دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 2009م، الفصل الأول.

[5]  ولي الله الدهلوي: الإنصاف في بيان أسباب الإختلاف، دار النفائس، الطبعة الثانية، 1404هـ، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ص32ـ33 و36.

[6]  أبو بكر البغدادي: تاريخ بغداد، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج13، فقرة 7297.

[7]  إبن أبي الوفا: الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، مكتبة المشكاة الإلكترونية، ص620.

[8]  الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، ص620.

[9]  مقدمة إبن خلدون، ص446.

[10]  أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، دار الفكر العربي، ص245 و273.

[11]  تاريخ المذاهب الإسلامية، ص355 و378.

[12]  أبو زهرة: أبو حنيفة، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، 1977م، ص348.

[13]  الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، ص621.

[14]  الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، ص621.

[15]  أبو حنيفة، ص106. وتاريخ المذاهب الإسلامية، ص375.

[16]  تاريخ بغداد، ج13، فقرة 7297.

[17]  تاريخ بغداد، ج13، فقرة 7297.

[18]  أبو حنيفة، ص348ـ349.

[19]  أعلام الموقعين، ج1، ص77. والجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، ص592

[20]  أبو حنيفة، ص273.

[21]  الملل والنحل، ص89.

[22]  المقدمة، ص446.

[23]  تاريخ المذاهب الإسلامية، ص395.

[24]  تاريخ المذاهب الإسلامية، ص428. كما لاحظ كتابنا: فهم الدين والواقع، طبعة دار افريقيا الشرق، 2009م، الفصل الثاني.

[25]  الاعتصام، ج2، ص132ـ133.

[26]  أنظر المصادر التالية: إبن حزم الأندلسي: ملخص  إبطال القياس والرأي والإستحسان والتقليد والتعليل، تحقيق سعيد الأفغاني، مطبعة جامعة دمشق، 1379هـ ـ1960م، ص66. والإحكام في أصول الأحكام، ج6، ص56. وأعلام الموقعين، ج1، ص75. والموافقات في أصول الشريعة، ج4، ص289. والإعتصام، ج3، ص256.

[27]  الإحكام في أصول الأحكام، ج6، ص57. وأعلام الموقعين، ج1، ص76.

[28]  الزركشي: البحر المحيط، شبكة المشكاة الالكترونية، فقرة 1217.

[29]  الرويشد: قادة الفكر الإسلامي عبر القرون، مكتبة عيسى البابي الحلبي، ص34ـ35.

[30]  إبن حجر العسقلاني: تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، دار الكتاب العربي، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص362. وإبن قطلوبغا: تاج التراجم في طبقات الحنفية، عن شبكة المشكاة الإلكترونية.

[31]  تاريخ المذاهب الإسلامية، ص477.

[32]  مقدمة إبن خلدون، ص455. وإبن تيمية: ورسالة في الحقيقة والمجاز، فقرة عن أصول الفقه. والبحر المحيط، فقرة 3.

[33]  البحر المحيط، فقرة 3.

[34]  الإنصاف في بيان أسباب الإختلاف، ص83ـ84.

[35]  مقدمة إبن خلدون، ص455.

[36]  مقدمة المحقق لرسالة الشافعي، ص13.

[37]  الشافعي: الأم، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ ـ1983، ج7، ص250.

[38]  أعلام الموقعين، ج2، ص284.

[39]  أعلام الموقعين، ج2، ص282.

[40]  الملل والنحل، ص89. والإعتصام، ج3، ص256.

[41]  أبو الحسين بن أبي يعلى الحنبلي: طبقات الحنابلة، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته)، ج2، مادة (محمد بن إدريس الشافعي). والإنصاف في بيان أسباب الإختلاف، ص48.

[42]  أبو المحاسن بن المبرد: بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم تأليف، تحقيق وتعليق روحية عبد الرحمن السويفي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ ـ1992م، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص161.

[43]  طبقات الحنابلة، ج2، مادة (عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان).

[44]  المصدر السابق، ج1، مادة (أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي ).

[45]  المصدر السابق، ج2، مادة (محمد بن أحمد بن واصل المصري).

[46]  نفس المصدر، ج2، مادة (عبد الملك بن عبد الحميد الميموني الرقي).

[47]  البحر المحيط، فقرة 87.

[48]  طبقات الحنابلة، ج1، مادة (أحمد بن جعفر بن يعقوب الاصطخري).

[49]  بحر الدم، ص11.

[50]  طبقات الحنابلة، ج2، مادة (عبدوس بن مالك العطار).

[51]  نفس المصدر، ج1، مادة (بديل بن محمد بن أسد).

[52]  بحر الدم، ص97ـ98.

[53]  المصدر السابق، ص97.

[54]  أعلام الموقعين، ج2، ص201.

[55]  المصدر السابق، ج1، ص29ـ32.

[56]  نفس المصدر، ج2، ص201.

[57]  قادة الفكر الإسلامي، ص84ـ87.

[58]  تاريخ المذاهب الإسلامية، ص540ـ541.

[59]  فقه الدعوة ومشكلة الدعاة، في حوار مع محمد الغزالي، ضمن فقه الدعوة، سلسلة كتاب الأمة، مؤسسة الخليج، 1408هـ، ج1، ص131.

[60]  مقدمة إبن خلدون، ص448.

[61]  الذهبي:  سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، الطبعة التاسعة، 1413هـ، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ج8، فقرة 92.

[62]  إبن فرحون: الديباج المذهّب في معرفة أعيان علماء المذهب، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته)، ج1، ضمن باب في ترجيح مذهب مالك.

[63]  مقدمة إبن خلدون، ص449.

[64]  حول المدن التي تبنت المذاهب الفقهية ذكر إبن فرحون أن مذهب مالك ساد لدى أهل الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد أفريقية والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان، وكذا ساد لدى الكثير من بلاد الشام وقزوين وابهر، كما ظهر في نيسابور وانتشر باليمن، وظهر ببغداد ظهوراً كثيراً ثم ضعف فيها بعد أربعمائة سنة، وكذا ضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة. في حين ساد مذهب أبي حنيفة لدى أهل الكوفة والعراق وما وراء النهر وكثير من بلاد خراسان، كما ظهر بأفريقية ظهوراً كثيراً إلى قريب من أربعمائة عام فانقطع منها ودخل منه شيء ما وراءها من المغرب قديماً بجزيرة الأندلس وبمدينة فاس. وغلب مذهب الأوزاعي على الشام وعلى جزيرة الأندلس إلى أن غلب عليها مذهب مالك بعد المائتين فانقطع منها. وأما الشافعي فقد كثر أتباعه وظهر مذهبه ظهور مذهبي مالك وأبي حنيفة، وكان أول ظهوره بمصر وكثر أصحابه بها مع المالكية ثم بالعراق وبغداد وغلب عليها وعلى كثير من بلاد خراسان والشام واليمن، ودخل ما وراء النهر وبلاد فارس، كما دخل شيء منه أفريقية والأندلس. ويبقى مذهب أحمد بن حنبل الذي ظهر ببغداد ثم انتشر كثيراً في بلاد الشام وغيرها، وبعد ذلك ضعف. وأخيراً كثر أتباع مذهب داود وانتشر ببلاد بغداد وفارس، وقال به قوم قليل بأفريقية والأندلس، ثم ضعف (الديباج المذهّب في معرفة أعيان علماء المذهب، ج1، ضمن باب في ترجيح مذهب مالك).

[65]  إبن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، 1968م، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ج7، ص144.

[66]  محمد أمين بن عابدين: العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، دار المعرفة، بيروت، ص333.

[67]  محمد الويلتوري المليباري: هداية الموفقين إلى الصراط المستقيم، مكتبة ايشيق، استانبول، 1399هـ ـ1979م، ص65.

[68]  العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن قاعدة فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته (لم تذكر ارقام صفحاته).

[69]  شاه ولي الله الدهلوي: حجة الله البالغة، دار التراث، القاهرة، 1355هـ، ج1، ص155.

[70]  مصطفى الزرقاء: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، دار الفكر، الطبعة السابعة، ج1، ص158، وص195 وما بعدها.

[71]  عبد الوهاب بن علي السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج3، فقرة 365. ومصطفى عبد الرزاق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة، 1386هـ ـ1966م، ص292.

[72]  أعلام الموقعين، ج2، ص305 وما بعدها.

[73]  البحر المحيط، فقرة 1250.

[74]  المصدر السابق، فقرة 1256.

[75]  نفس المصدر، فقرة 1256.

[76]  الرسالة، ص512.

[77]  المصدر السابق، ص479 و40.

[78]  المصدر السابق، ص510.

[79]  نفس المصدر، ص545ـ546.

[80]  محمد بن علي الشوكاني: ارشاد الفحول، دار الكتب العلمية، بيروت، ص295ـ296. والبحر المحيط، فقرة 1250.

[81]  القرافي: تنقيح الفصول، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن الفصل الثالث (في الدال على العلة).

[82]  قواعد الأصول ومعاقد الفصول، وهو مختصر كتاب تحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل لصفي الدين الحنبلي، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن فقرة: أصول المصالح خمسة (لم تذكر ارقام صفحاته).

[83]  عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، دار القلم، الكويت، الطبعة الثانية، 1970م، ص65ـ66.

[84]  مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، ص50ـ25. وأبو الحسين البصري: المعتمد في أصول الفقه، تحقيق محمد حميد الله، طبعة دمشق، 1964م، ج2، ص767 وما بعدها.

[85]  مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، ص23.

[86]  المصدر السابق، ص25ـ26.

[87]  قواعد الأصول ومعاقد الفصول، ضمن فقرة (القياس).

[88]  البحر المحيط، فقرة 1282.

[89]  المصدر السابق، فقرة 1282.

[90]  إذ قال الشافعي: أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها وتعدوها إلى الإستحسان، وفي مسألة شهود الزنا أوجبوا الحد ونصوا أنه إستحسان. وأما الكفارات فقد قاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع، وقاسوا قتل الصيد ناسياً على قتله عامداً مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى: ((ومن قتله منكم متعمداً)). وأما المقدرات فقاسوا فيها، ومن ذلك تقدير عدد الدلاء عند وقوع الفأرة، ثم أدخلوا تقديراً على تقدير فقدروا للحمام غير تقدير العصفور والفأرة، وقدروا الدجاجة على تقدير الحمامة، وقدروا الخرص بالقلتين في العشر (البحر المحيط، فقرة 1282).

[91]  أعلام الموقعين، ج2، ص71ـ72. وإبن قتيبة الدينوري: تأويل مختلف الحديث، دار الجيل، مراجعة محمد زهري النجار، بيروت، 1393هـ ـ 1972م، عن مكتبة سحاب السلفية الإلكترونية، ضمن باب ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي (لم تذكر ارقام صفحاته).

[92]  أعلام الموقعين، ج2، ص80ـ81.

[93]  المصدر السابق، ج2، ص84.

[94]  المصدر السابق، ج2، ص83ـ84.

[95]  نفس المصدر، ج2، ص99ـ101.

[96]  أنظر تفاصيل ذلك في الفصل الثاني من: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر.

[97]  البحر المحيط، فقرة 1260.

[98]  إبن حزم الأندلسي: النبذ في أصول الفقه، شبكة المشكاة الإلكترونية، ص60.

[99]  المحصول في أصول الفقه، ضمن الفصل الثاني (في الدليل على صحة الاصل). والغزالي: المنخول في علم الأصول، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن الفصل الأول من الباب الرابع (لم تذكر ارقام صفحاته).

[100]  أنظر: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، الفصل الثاني.

[101]  النبذ في أصول الفقه، ص69.

[102]  المستصفى، ص310.

[103]  المحصول في أصول الفقه، ضمن الفصل الثاني (في الدليل على صحة الاصل). كذلك: مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، ص34.

[104]  البحر المحيط، فقرة 1282.

[105]  المستصفى، ص39.

[106]  أعلام الموقعين، ج1، ص349.

[107]  أعلام الموقعين، ج1، ص278.

[108]  أعلام الموقعين، ج1، ص282.

[109]  أعلام الموقعين، ج1، ص284ـ285.

[110]  أعلام الموقعين، ج1، ص286.

[111]  أعلام الموقعين، ج1، ص289.

[112]  أعلام الموقعين، ج1، ص290، ولاحظ على هذه الشاكلة: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، فصل: (فيما أثبت على خلاف الظاهر).

[113]  الموافقات، ج4، ص230، وفهم الدين والواقع، الفصل الثالث.

[114]  المستصفى، ص317.

[115]  قيل أن في صحة قياس الشبه وجهين: أحدهما: يصح، لأن عمر أمر أبا موسى بإعتباره، والثاني: المنع، لأنه لو جاز رد الفرع إلى الأصل بالشبه لوجب أن يصح كل قياس لأنه ما من فرع إلا ويمكن ردّه إلى أصل بضرب من الشبه (البحر المحيط، فقرة 1276).

[116]  لاحظ الفصل الأخير من كتاب فهم الدين والواقع: (منهج الفهم المجمل والمقاصد).

comments powered by Disqus