المسلمون ودور العقل في قراءة التراث الاسلامي
لقد ركز القرآن الكريم كثيراً على دور العقل، ووردت آيات عديدة تدعو الى التأمل في الخلق والنفس والظواهر الطبيعية "او لم يتفكروا في انفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق" «الروم: 8» كما ان القرآن الكريم في كثير من المواضيع التي اشار فيها الى القضايا العقائدية استخدم الاستدلال العقلي في نقض العقائد غير الاسلامية للمشركين او اهل الكتاب كما في قوله تعالى "لو كان فيهما الهة الا الله لفسدتا" «الأنبياء 22». ولذلك برز الاهتمام الكبير لدى المسلمين منذ انطلاقة حركة العلوم عندهم، بالفلسفة والمنطق والعلوم العقلية والرياضية، وخاصة مع بداية الاحتكاك الثقافي بالأمم والحضارات الأخرى ومواجهة التحديات العقائدية التي فرضها ذلك الاحتكاك مع اصحاب المذاهب والأديان والملل المختلفة كما نلاحظ اهتمامهم بترجمة الأفكار والنظريات الفلسفية من الأمم التي احتكوا بها سواء الشرقية او الغربية. والملاحظ ان المسلمين اهملوا ترجمة النتاج الأدبي والشعري اليوناني والذي يتضمن الكثير من العقائد التي تخالف عقائد المسلمين وتدخل عندهم في باب الشرك، وفي حين انهم، اي المسلمين ركزوا على ترجمة الأفكار الفلسفية التي تخدم تأسيساتهم لعقائد الاسلام وخصوصاً عقيدة التوحيد، مع الاشارة الى ان الفلسفة الاسلامية ليست مجرد ترجمة للفلسفة اليونانية، بل تضمنت العديد من المباحث التي لم تكن موجودة عند اليونان كما اشار الى ذلك المصلح الاسلامي جمال الدين الأفغاني في رده على ارنست رينان "فاعتبر ان الفلاسفة المسلمين لم يكتفوا بالتعريب وانما اضافوا العديد من المباحث التي لم تكن موجودة لدى اليونان".
ومن الواضح ان الحافز الاول والأساس في اهتمام المسلمين بالعلوم الفلسفية والمنطقية تأليفاً وتعريباً وتفكيراً هو الموضوع العقائدي وبالأخص موضوع التوحيد الذي استتبعه مواضيع اخرى مثل النبوة والمعاد. وقد شهد التاريخ الاسلامي صراعاً مستمراً بين دعاة استخدام العقل وبين المعارضين لذلك من دعاة الجبرية، ونحن نشهد خلال القرن العشرين ومع بدايات القرن الحادي والعشرين محاولات جديدة للعلماء والمصلحين الاسلاميين لاعادة قراءة التراث الاسلامي والاستفادة من المناهج العلمية الحديثة والعودة للعقل. وسنطل في دراستنا هذهعلى احد دعاة اعتماد العلم والاساليب الحديثة في قراءة النص الديني وهو المفكر والباحث الاستاذ العراقي يحيى محمد.
من هو المفكر يحيى محمد
يحيى محمد مفكر اسلامي من مواليد 1959 في العراق، بدأ التأليف في نهاية السبعينات من القرن العشرين فصدر له اول كتاب «الدراوينية: عرض وتحليل» عام 1979 وقدم له المفكر الاسلامي والمرجع السيد محمد باقر الصدر. ونظراً للظروف الصعبة للعراق انتقل الى لبنان حيث بدأ التدريس واعطاء الدورات الثقافية لينتقل من هناك الى ايران حيث نشط في الحوزة الدينية في قم ومشهد وانجز العديد من الدراسات والأبحاث الاسلامية ومنها 4 أجزاء حول مناهج الفكر الاسلامي لمؤسسة التحقيقات العلمية في مشهد خلال الأعوام 1986 - 1988. ومن ثم انتقل الى بريطانيا حيث القى العديد من المحاضرات والدورات الثقافية حول تاريخ الاجتهاد في الفكر الاسلامي، ليبدأ بعد ذلك في العمل على مشروعه الفكري الخاص تحت عنوان "المنهج في فهم الاسلام" او "فهم الدين" حيث توصل الى عدد من المناهج والعلوم والنظريات الفلسفية والدينية.
وصدر له العديد من الكتب والدرسات الفكرية وابرزها مدخل الى فهم الاسلام، نقد العقل العربي في الميزان، الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، القطيعة بين المثقفوالفقيه، حولية الخطاب والواقع، حولية الدين والواقع، فهم الدين والواقع، الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية، العقل والبيان والاشكاليات الدينية، الاستقراء والمنطق الذاتي، مشكلة الحديث، منطق فهم النص.
بين الفلسفة وعلم الكلام
يعتبر المفكر يحيى محمد "ان التراث المعرفي الاسلامي يحتضن منهجين عقليين عقائديين هما الفلسفة وعلم الكلام، وليس هناك منهج ثالث مستقل، وتتصف العلاقة بين هذين المنهجين بأنها علاقة تنافي وتضاد، فأحدها يمتلك روحاً من التفكير هي على ضد من الآخر. اذ تتصف الروح الفلسفية بانها وجودية حتمية، في حين ان الروح الكلامية هي روح معيارية لاحتمية، وكل جمع بينهما يفضي الى التلفيق. فالفلسفة نظام خاص يجمع فيه مع العرفان او التصوف وهو ما نطلق عليه النظام الوجودي، في حين ان للكلام نظاماً آخر يجمع فيه مع الفقه وسائر العلوم النقلية ضمن ما نسميه النظام المعياري". ويضيف "يُعد منهج علم الكلام اقرب للتفكير الديني وان اتباعه يحملون عقيدة ايدولوجية مذهبية دينية، واما منهج الفلسفة فانه اقرب للمنهج العلمي. وتقوم الفلسفة من حيث الاساس على اداة التفكير العلقلي في الكشف عن علاقات الوجود تبعاً لنظام الاسباب والمسببات. فالوجود كله عبارة عن عقل متفاوت الكمال، والعقل كله عبارة عن الوجود، وهو عين النظام السببي وبالتالي فهما متطابقان، اذ ما من موجود الا وهو العقل، وما من عقل الا وهو موجود".
مشكلات التفكير في التراث الاسلامي
وعن مشكلات التفكير في التراث الاسلامي فيقول يحيى محمد "ان طريق التفكير التي جرت في تراثنا الاسلامي كانت تعاني من مشاكل مزمنة ثلاث كتالي:
1 - انها لم تمارس المراجعة النقدية المتواصلة لفحص مفاهيمها ومقولاتها لكونها من المذاهب الدوغمائية التي لا تشكك في مقالاتها.
2 - انها غيبت الاعتبارات الخاصة بالواقع، فحتى الاتجاهات العقلية كانت اتجاهات تجريدية او انها تعاملت في الغالب وفق العقل القبلي وليس البعدي، بل لم يحصل انذاك تميز بين هذين النوعين من العقل.
3 - انها استندت في الاساس الى الاعتبارات المعرفية الخاصة دون المشتركة، بل وأن اعتباراتها والنتائج المترتبة عليها كانت تجريدية في كثير من الأحيان، الأمر الذي يصعب اخضاعها للاختبارات الواقعية مباشرة.
العقل المطلوب
لكن ما هو العقل المطلوب بحسب يحيى محمد؟
يجيب يحيى محمد عن ذلك قائلاً "نرى ان هناك نوعين من العقل يتوجب حضورهما، هما العقل البعدي القائم على دراسة الوقائع والتزود بنتائجه، والعقل الوجداني البديهي.
فاتبداء لاغنى عن المراجعة النقدية المتواصلة للفكر الديني، اي مراجعة نقد الذات على التواصل، كما لابد من تأسيس المعرفة طبقاً للاعتبارات المشتركة لا الخاصة.
وبحسب العقل البعدي فإن للدلالات الواقعية اهميتها الخاصة للكشف المعرفي. وبالذات فإن العقل المطلوب هو ذلك المحدد بالنظام الواقعي، او بجعل الواقع أساس التفكير والتكوين المعرفي بعد البديهيات العقلية والمنطقية، ومنه يمكن تقديم الرؤية الخاصة بالفهم الديني كنظام يختلف عن النظم المتعارف عليها من الفهم".
ويختم بالقول "من الناحية المبدئية يتقدم الواقع على غيره من مصادر الكشف المعرفي ويتميز بكونه يساعد على التحقيق في اصول العقائد وان له الفضل في الكشف عن حجية النص واثبات المسألة الدينية برمتها لا العكس، بمعنى انه لولا الواقع لتعذر معرفة كونه حجة ولتعذر الالزام بأحكامه. ومن الناحيةالابستمولوجية تعود أهمية الواقع مقارنة بالنص الى ان الأخير ثابت لا يقبل التغيير والافصاح عن نفسه باكثر مما جرى فيه الأمر التواء، فهو يحمل نظاماً مغلقاً لا يسمح بإضافة المزيد، خلافاً للواقع باعتباره يحمل نطاقاً مفتوحاً يتقبل الاضافة دونانقطاع وهو بهذه الاضافة يكون اكثر وضوحاً كلما طال الزمن ممايجعله مفتوحاً على الراجعة والتصحيح".
محاولات جديدة في فهم الدين
كما عمد المفكر يحيى محمد لتأسيس مشروع متكامل تحت عنوان "فهم الدين" واسس موقعاً خاصاً على الانترنت كما اقام العديد من الدورات التدريبية في بريطانيا ولبنان وسوريا من اجل شرح المشروع الجديد القائم على الاستفادة من التقنيات الحديثة في فهم النص الديني، واصدر كتاباً خاصاً تحت عنوان "منطق فهم النص" وهي "دراسة منطقية تعنى ببحث اليات فهم النص الديني وقبلياته". وقد استفاد فيه من علم الهرمنوطيقيا والذي اسسه المفكر فرديريك شلايرماخر. وقد دعى فيه الى "اخضاع الدراسات الاسلامية للبحث المنهجي والاستمولوجي والقطيعة مع حروب التفكير المذهبي، على أمل ان تتحقق في المستقبل الظروف الملائمة للبحث العلمي في الفكر الديني، كما حدث مع العلوم الطبيعية والنهضة التي تحققت بسبب ذلك، وبما يساعد في فحص المسلمات الدينية ومراجعاتها على الدوام بعيداً عن الاعتبارات المذهبية والايديولوجية"
الخلاصة
إذن نحن امام تجربة فكرية اسلامية جديدة في تجديد الفكر الديني والدعوة الى فهم جديد للنص الديني على ضوء الواقع والمتغيرات وليس انطلاقاً من النص نفسه، وهذه الدعوة تلتقي مع الكثير من المحاولات الفكرية والاصلاحية التي شهدها الفكر الديني وخصوصاً خلال القرن العشرين ومع بدايات القرن الحادي والعشرين وهناك رموز دينية وفكرية عديدة قامت بجهود فكرية وعملية لتجديد الفكر الديني منذ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبدو مروراً بالدكتور علي شريعتي والمفكر مرتضى مطهري والدكتور محمد عابد الجابريوالدكتور نصر حامد ابو زيد والدكتور محمد اركون والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم.
بعض هذه التجارب نجحت في تحقيق اختراقات هامة على صعيد الفكر الاسلامي واسست لبيئة جديدة في الواقع الديني وبعضها تعرض للنقد والمحاصرة وان كان قدم نتاجات هامة على صعيد قراءة النص الديني.
وكل ذلك يتطلب المزيد من الجهد من قبل المفكرين والعلماء المسلمين لتطوير النص الديني وخصوصاً داخل الحوزات الدينية لأن هذه الحوزات هي التي تساهم في صناعة العقل الديني اليوم.
(نقلاً عن موقع مؤسسة الفكر الاسلامي المعاصر)