(نُشر أصل هذا الحوار في جريدة القدس يوم 26\3\1999، ثم أُعيد نشره في مجلة قضايا اسلامية معاصرة، عدد 16ـ17، سنة 2001).
نص الحوار
س: ما هي الاتجاهات العامة لمشروعك الفكري؟
ج: يندرج عملي في ثلاث نواح أو جهات:
الاولى، السعي نحو تأسيس علم اسلامي صككتُ له مصطلح (علم الطريقة) لفهم النص الديني، حيث يتمثل موضوع هذا العلم بالفهم، وبالذات مناهج الفهم الديني. اذ تُعد مسألة ‹‹الفهم›› من الاهمية بمكان في فكرنا، لا نستطيع ان نتخلى عنها خصوصاً وان حضارتنا كما يقول حسن حنفي هي حضارة مركزية تعتمد دائماً على النص.
وعلم الطريقة هو علم جديد بمثابة منطق للفهم، اذ يتناول تحليل الاجهزة المعرفية وقبلياتها واجتهاداتها ومناهجها الدائرة حول ‹‹الفهم››، كالذي تحدثنا عنه في كتاب (مدخل إلى فهم الاسلام) المخطوط عام 1994. وطبقاً له قسّمنا الفكر الاسلامي إلى نظامين معرفيين متضاربين ومتنافسين على ‹‹الفهم››، أحدهما اطلقنا عليه (النظام الوجودي) ونقصد به نظام الفلسفة والعرفان، حيث يشتركان في أساس واحد أو أصل مولد مشترك، أما النظام الآخر فسميناه (النظام المعياري)، وهو يشكل مختلف علوم المتشرعة كالفقه والكلام وعلم التفسير التقليدي وما إلى ذلك.
أما الجهة الثانية فما زلت منشغلاً بالسعي إلى التنظير لنظام جديد للفهم الديني، سميته (النظام الواقعي)، ففيه أحاول ان اجعل قضايانا الاسلامية يتحكم بها كل من العقل والنص والواقع والمقاصد.
تبقى الجهة الثالثة، وتتعلق بقيامي برسم الصيغة التي تحدد علاقة المثقف المسلم بالفقيه على الصعيد المعرفي، ومن ذلك اعتبر ان باستطاعة المثقف المسلم ان يختار ما يشاء من آراء مبثوثة لدى المختصين من علماء الاسلام، وذلك حينما يكون قادراً على التمييز بين الآراء ومداركها الاستدلالية، كالذي فصلته في كتاب (الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر). كذلك هناك صيغة اخرى للعلاقة بين المثقف والفقيه تناولتها في كتاب (القطيعة بين المثقف والفقيه)، حيث يكون فيها المثقف الديني في دائرة تقابل دائرة الفقيه، الامر الذي قد يفضي بهما إلى القطيعة معرفياً.
س: ماذا تقصد بانشاء علم للطريقة؟
ج: مختلف العلوم تحتاج إلى منطق أو منهج يساعد على ضبطها في علاقتها بموضوعاتها المبحوثة. ومعلوم ان ولادة المنهج من الناحية التاريخية تأتي بعد قيام العلم، اذ لا مكانة للمنهج بدون العلم، فبعد ذلك يأتي المنهج ليتصدى له بالضبط والتحقيق. فمثلاً علم اصول الفقه نشأ بعد الفقه، وكذا علم النحو بالنسبة إلى اللغة، وعلم العروض بالنسبة للشعر، وكذا علم المنطق بالنسبة لمختلف ضروب المعرفة .
هكذا جميع العلوم ولّدت فيما بعد مناهج منطقية تحدد اطر التفكير والاستدلال فيها. كذلك نحن نعتبر ان وجود مذاهب كثيرة وعلوم عديدة كلها تشترك بموضوع واحد هو فهم النص الديني لا بد وان تحتاج إلى علم للمنهج يعمل على ضبط طرائقها في الفهم والمعرفة ضمن دوائر كبيرة عامة تتناسب مع كثرتها. وبالتالي لا بد من علم للمنظومات المعرفية والطرق التي غرضها فهم النص عبر توضيح قنواتها الفكرية واحوالها المعرفية لتحديد ما يتولد عنها من فهم وانتاج. فكل جهاز معرفي يتضمن خمسة عناصر أو اركان يتناولها علم الطريقة بالفهم والدرس، وهي: المصدر المعرفي، والاداة المعرفية، والاصول المولدة للمعرفة، كذلك الانتاج المعرفي، وايضاً آلية فهم النص ذاته.
س: ماذا تقصد بالاصول المولدة للمعرفة؟
ج: تتأسس المذاهب والتيارات المعرفية على أسس قبلية هي التي تحدد المضامين في الانتاج المعرفي، واذا كانت المسألة تتعلق بفهم النص الديني؛ فان للمذاهب الاسلامية أصولاً معرفية قبلية مسؤولة عن التوليد المعرفي وفهم النص.
فمثلاً ان الفكر الفلسفي والصوفي كلاهما يقومان على أصل مولد واحد هو ‹‹السنخية››، ويقصد بها الشبه الوارد بين الاصل والفرع، فهذا الاصل هو الذي انبنت عليه مختلف النظريات والمقالات الفلسفية والصوفية المتعلقة بتفسير الوجود، كمقالة الواحد لا يصدر عنه الا واحد، ووحدة الوجود، وسائر القضايا الفلسفية الاخرى. فكل هذه القضايا تعتمد على مقالة السنخية كأصل مولد. وكلمة (سنخية) لفظة ترد في الكتب الفلسفية الاسلامية، ولكن اعتبارها أصلاً يشار اليه في التوليد المعرفي لا نجده في الكتابات؛ سواء القديمة منها أو الحديثة. ومعنى كلمة من سنخه، أي من أصله، وترد في الفكر الفلسفي حول علاقة الشبه بين العلة والمعلول.
وعليه فإن مختلف القضايا الأساسية للفلسفة والصوفية منبعثة من هذا الأصل المعرفي، أو هذا ما توصلتُ اليه وكشفتُ عنه في كتاب (مدخل إلى فهم الاسلام)، ومن ذلك انه من الناحية التاريخية للفلسفة أوضحت كيف يتوارى هذا الأصل خلف الكثير من النظريات الفلسفية منذ أول الفلاسفة طاليس وحتى سائر الفلاسفة اليونانيين وكذلك الرومانيين ثم داخل ما يسمى بالفلسفة الاسلامية، وأظهرتُ ذلك عند الفارابي وابن سينا والغزالي وابن طفيل وابن باجة وابن رشد وابن عربي والسهروردي وصدر الدين الشيرازي. فجميع فلسفات هؤلاء قائمة على ذلك المولد.
س: جزء من النقد الذي أراه ضرورياً لفكر الجابري الذي شاركتَ في نقده، في كتابك (نقد العقل العربي في الميزان)، ان الجابري قام بالعمل على فكرة الانفصال في الفكر الاسلامي وأدى به ذلك إلى شق هذا الفكر ضمن أنظمة معرفية ثلاثة، ونلاحظ في عملك أنك من جهة تنتقد الجابري على التناقضات التي وقع فيها، ولكن هذه النقطة بالذات تبدو فيها مستنداً ومضيفاً أو منقحاً لفكرة الجابري حول الأنظمة المعرفية في (العقل العربي).
يعني أنا أميل إلى التشديد على الوحدة في الفكر الاسلامي، بينما العمل يجري على فكرة تفريعه وشقه، ما رأيك؟
ج: حينما اتكلم عن الفكر الاسلامي باطلاق لا اتكلم عنه من منطلق عقل واحد يحوي انظمة متعددة يطلق عليه العقل العربي أو العقل الاسلامي، لأن في كل بيئة لا بد من وجود تمايزات وتناقضات في بنياتها المعرفية، والبيئة الاسلامية ليست خارجة عن هذا المنطق. هناك تداخلات بين المنظومات المعرفية لدى التيارات والمذاهب في مختلف البيئات، لكن المهم هو وجود بنى واسس قبلية قد تختلف من اتجاه إلى اخر، وهي التي نعتبرها تحدد طبيعة ما تستند اليه الافكار والمعارف.
يمكن القول ان الخلل الاساس في نظرية الجابري هو انه اعتمد على مقالة العقل العربي كعقل واحد في الوقت الذي ضمنه ثلاثة عقول عالمية احدها يعود إلى العقل العربي، وهو ما اطلق عليه النظام البياني، والاخران يعودان إلى بيئة غير عربية سيما البيئة اليونانية، وهما النظام البرهاني والعرفاني. فهذه ثلاثة عقول عالمية. فحتى العقل الغربي جعله متحداً مع العقل اليوناني وهما مختلفان. لكنني لست بصدد نقد هذه النقطة في الخلاف بين العقل اليوناني والغربي. فهذه عقول العالم بحسب الجابري وهي لا تخرج برأيه عن ثلاثة.
يضاف إلى ذلك ان الجابري تصوّر بأن هناك قطيعة تامة بين النظامين العرفاني والبرهاني، بحيث ان أحدهما يقف على الضد من الاخر، في حين انهما من وجهة نظري يستندان إلى أصل مولد واحد هو السنخية، فانتاجهما المعرفي يتشابه بل يكاد يتماثل، بدلالة انك تجد كل فيلسوف ينحو نحو العرفان، وكل عارف ينحو نحو الفلسفة، وينطبق هذا الحال حتى على ابن رشد فضلاً عن ابن عربي، وهناك محاورة بين ابن رشد وابن عربي تكشف عن نفي التضاد المزعوم، وقد نقلناها في كتاب (نقد العقل العربي في اليزان).
س: ألا يمكن اعتبار فكرة قياس السابق على اللاحق التي قام عليها اساس مهم في الفكر الاسلامي متقاربة مع مقالة السنخية، وبالتالي نضطر إلى اعتبار النظامين الوجودي والمعياري يتلاقيان في اصل مولد؟
ج: الحقيقة ان فكرة القياس هي فكرة صورية لا تحمل في حد ذاتها مضموناً محدداً، وبالتالي من الممكن ان يستخدمها كلا النظامين، مع الاخذ بالاعتبار انه داخل نظام الفكر المعياري هناك اضطرار لاستخدام القياس الظني في بعض حقوله المعرفية، كالحال مع الحقل الفقهي. أما عن السنخية فهي ليست صورية بل قضية تعمل على تحديد العلاقات الخارجية في الواقع والوجود. لهذا لها خصوصية وجودية بالنسبة إلى النظام الوجودي الذي يعتبر علاقات الاشياء قائمة على السنخية، أو ان بعضها مربوط بالبعض الاخر بنوع من الشبه.
فالقياس القائل (كل انسان فان ومحمد انسان فمحمد فان) هو قياس يقيني، لكن النتيجة هنا معتمدة على المقدمة أو متضمنة داخلها، وهي لا تتحدث عن الواقع الخارجي، فهي مجرد قضية منطقية. أما السنخية فانها تحدد طبيعة العلاقة بين العلة والمعلول. فالمعلول يشابه العلة، وهو مرتبط معها بمبدأ حتمي. وحيث ان الله هو علة الموجودات قاطبة، لذا فان هذه الموجودات تكون على شاكلته، وهي تتفاوت في الشبه معه بحسب القرب والبعد عنه ضمن سلسلة من المراتب الحتمية كما يقول النظام الوجودي.
س: هنا كأنك تستبعد كل ما اُطّر ضمن علوم الفقه والكلام والتفسير.. الخ خارج الفكر الفلسفي، وهي فكرة شبه استشراقية تعتبر ان لا فكر فلسفياً عند المسلمين وانهم (استعاروا) الفكر الفلسفي من (الخارج) ما رأيك؟
ج: اقصد بالتفسير؛ التقليدي منه، فعند الفلاسفة والمتصوفة تفاسيرهم الخاصة. وبالنسبة إلى كون المسلمين لا يحملون فلسفة خاصة وانما استعاروا الفلسفة من الخارج، اذا كان المقصود بها المعنى الوجودي القائم على السنخية والحتمية فهذا صحيح، ولكننا نستطيع القول ان الغرب الحديث لا يقوم على الفلسفة بمعناها التقليدي اليوناني، وانما يقوم على فلسفة اخرى استحدثها، ولو من خلال نقد الفلسفة اليونانية. كذلك الحال داخل اطار الفكر الاسلامي، اذ نلاحظ بأن النظام المعياري متمثلاً بعلم الكلام يحمل فلسفة اخرى مقابلة للفلسفة اليونانية. اذاً المشكلة هي في الاصطلاح. المسلمون يحملون فلسفة اصيلة متمثلة بنظريات علم الكلام.
س: ولكنك هنا تستخدم الفلسفة كاصطلاح خاص باليونان، مع انك تقول ان علم الكلام هو (نظام فلسفي)، بل انك تعتبر الفلسفة الغربية الحديثة، مختلفة عن الفلسفة اليونانية، بحيث ان اصطلاح (الفلسفة) يغدو جغرافيا ومختصا باليونان فحسب؟
ج: المشكلة هي مشكلة اصطلاح لا اكثر، حتى ان لفظة (فلسفة) تعني محبة الحكمة وكانت ترد في الفكر اليوناني ثم سحبت إلى سائر مدارس الفكر الاخرى، كما هو الحال في الفكر الاسلامي والغربي.
الفكر الغربي يحمل فلسفة تختلف في غالبها عن الفكر اليوناني، فالاساس الذي يقوم عليه الفكر اليوناني هو السنخية والمطابقة بين العقل والوجود، لكن الفكر الغربي لا يحدد هذه المطابقة بشكل مسبق، أو ان علاقة التطابق بين العقل والطبيعة هي علاقة مشكوكة، وهذه ايضاً تعتبر نوعاً من الفلسفة مقابل الفلسفة اليونانية، رغم ان الاشكالية التي تجمع الفكر اليوناني والغربي تتحد حول الواقع الموضوعي المتعلق بالطبيعة، لكن الاشكالية في الفكر اليوناني أعم بحيث تشمل الوجود كله. كذلك في الفكر الاسلامي نلاحظ ان استخدام اصطلاح (الفلسفة) قد جرى لدى الاتجاهات التي انضوت تحت تأثير الفكر اليوناني ومنطقه، أما الاتجاهات الاخرى التي خالفت هذا الفكر فكانت تنتمي ضمن ما يسمى علم الكلام. ورغم التداخل بين علم الكلام والفلسفة الا ان البنى الاساسية والاصول المولدة لهما تختلف جذرياً.
س: ضمن عملك في الفكر الاسلامي وجدت تناقضات كبيرة، ما هي اهم هذه التناقضات؟
ج: ربما يكون من اهم هذه التناقضات التلفيق الحاصل بين النظامين الوجودي والمعياري، فتجد العديد من رجال النظام الوجودي يتبنون القضايا المعيارية، تارة بشكل مستقل جنباً إلى جنب القضايا الوجودية، واخرى مبنية على هذه القضايا ومطبوعة بها. وكذا حصل العكس مع رجال النظام المعياري. فهناك تداخلات كثيرة بين النظامين أدت إلى التلفيق لتضارب الاصول المولدة. فالنظام الوجودي نظام حتمي سنخي، علاقاته قائمة على مبدأ الحتمية والسنخية، أما النظام المعياري فعلى خلاف ذلك لا يقوم على هذين المبدئين في مراتب الوجود. وهذا يعني ان الاول يفضي إلى تصور وحدوي مترابط الوجود، والاخر يفضي إلى تصور مثنوي استقلالي. ربما كانت هذه اهم التناقضات في تراثنا المعرفي الاسلامي.
س: هل تميل إلى سيادة احد النظامين؟
ج: بل اتبنى نظاماً ثالثاً اطلق عليه (النظام الواقعي)، وهو يتأسس على الواقع كمصدر معرفي لفهم القضايا الاسلامية وحلها. وللاسف يكاد يكون الواقع غائباً في الفكر الاسلامي؛ سواء في دائرة النظام الوجودي أو المعياري. فبالرغم من ان كلا النظامين كانا يمارسان طريقة العقل في التفكير، كما هو الحال مع الفلسفة في النظام الوجودي وعلم الكلام في النظام المعياري؛ لكن ذلك كان يجري خارج حدود الواقع أو يتعالى عليه.
نجد أحياناً طرحاً لاشكالية العلاقة بين العقل والنص؛ سواء داخل النظام الوجودي أو المعياري، إلا انه لم تطرح اشكالية الواقع، سواء مع العقل أو النص. واعتبر ان هذه من اكبر الثغرات في تراثنا المعرفي. وقد انكشف لدى القرنين الماضيين مدى الحاجة إلى التفكير في الواقع ومتغيراته وعلاقته بكل من العقل والنص.
س: ما رأيك بمشاريع نقد الفكر الاسلامي، التي موضوعها نقد النص نفسه؟
ج: ان تعاملي مع النص هو كالتعامل مع المسلمات. اذ اعتبر النص مادة خام أو موضوعاً للدراسة من دون إشكال، انما المشكل في الفهم لا النص ذاته لكونه ذا مصدر إلهي. والسؤال المركزي الذي ينبغي توجيهه هو كيف نفهم النص مع كثرة الخلاف حوله. وهنا لا بد من التعامل المنهجي طبقاً لعلم الطريقة، مع الاخذ بعين الاعتبار ان ما تم التعامل به مع النص كان معزولاً عن فهم الواقع، وهي نقطة خلل تراثنا الاسلامي.
س: أين يوجد تأصيل هذه الفكرة لديك، هل يمكن اعتبار مثلاً نظرية المقاصد عند الشاطبي أصلاً من أصول هذه الفكرة لديك؟
ج: بالرغم من اهمية نظرية المقاصد كما فصّل الحديث عنها الشاطبي الا انها وُظفت لتبرير الاحكام الشرعية دون تأسيسها. اذ أُريد منها الكشف عن ان مختلف الاحكام الشرعية لا تخلو من اندراجها ضمن ثلاث مراتب من المقاصد المصلحية، هي المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية، ولم توظف للكشف عن احكام جديدة مناسبة الا في حدود ضيقة، كالحال مع ما يسمى بالمصالح المرسلة. بل ان الشاطبي نفسه قد تعامل مع التشريع من منطق الحسن والقبح الشرعين، طبقاً لطريقة الاشاعرة التي تنكر الكشف العقلي في مجال الاحكام، فهي لا تتقبل الا ما كان ضمن دائرة ما نطق به الشرع، فكيف اذاً يستثمر الواقع والحال هكذا؟
ان المحاولة التي جاء بها الشاطبي لم تكن جديدة في هذا المضمار، بل هناك فقيه سبقه جاء بما هو جديد في الامر، وهو نجم الدين الطوفي الحنبلي الذي عاصر ابن تيمية واتى بما هو جديد في استثماره للواقع عبر نظريته في المصلحة وترجيحها على حكم النص والاجماع عند التعارض. ونعلم ان جميع الذين جاءوا بعده لم يتقبلوا الفكرة التي طرحها. لكننا نعرف اليوم بأن الامام الخميني في الوسط الامامي الاثنى عشري قد دعا إلى ما يشابه هذه النظرية للطوفي.
س: ضمن الفكر الاسلامي نجد تقاطعات بين النظامين اللذين اقترحتهما، في أشخاص مثل الغزالي، كيف تفسر هذه الحالة؟
ج: اذا تركنا النواحي التي يمكن توظيفها في الخلاف والتمذهب، فمن الناحية العلمية الصرفة هناك فعلاً بنى مختلفة، فاذا اخذنا صدر الدين الشيرازي وهو يفسر مثلاً آية ((قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)) فانه يقوم بربطها ببداية الوجود وتسلسله معتقداً انها تعني بأن كل الخلائق تصدر على شاكلة المبدأ الاول، أو واجب الوجود كما يطلق عليه الفلاسفة، مثلما جاء في الحديث النبوي: خلق الله آدم على صورته. فهذا التفسير ينبني على روح معرفية خاصة تحوّل ما ظاهره معياري إلى طبيعة اخرى مختلفة. فبدلاً من تفسير الاية بحسب ما تبديه من مظهر يتجلى فيه عمل الانسان كموضوع قابل للتعدد والتنوع لتتحدد عليه القيم والمعايير؛ فان الموضوع في التفسير الوجودي كما يدلي به الشيرازي ليس العمل الانساني بما هو فعل سلوكي وارادي، أو معياري، وانما هو صدور ذوات الخلائق أو وجوداتها بحيث تكون على شاكلة ما عليه المبدأ الاول.
كذلك فإن ابن رشد الذي يمثل جانب الفلسفة الخالصة يعتبر أن اصل التكليف والطاعة في عالمنا الانساني مستمد من سنخ التكليف والطاعة في عالم العقول والافلاك، ويرى بان لله امراً حكم فيه على الفلك الذي يخصه بالحركة وامر سائر المبادىء المفارقة بان تأمر جميع الافلاك الاخرى بالحركات، معتبراً هذا الامر هو الذي قامت عليه السموات والارض، وهو التكليف والطاعة التي هي الاصل في التكليف والطاعة للانسان، ولذلك اعتبر عبادة الفلاسفة وشريعتهم الخاصة وجودية وان الله لا يعبد بعبادة اشرف من عبادة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته على الحقيقة الذي هو اشرف الاعمال عند الله واحظاها لديه.
كذلك فعل زعيم العرفاء الشيخ محي الدين بن عربي، فهو يرى ان معنى آية ((وقضى ربك ألا تعبدوا الا اياه)) هو ان الكل محكوم عليه بعبادة الرب حقيقة، وبالتالي فمن حيث الحقيقة لا يوجد عصيان، والكل في طاعة الله، أو ان كل عبادة البشر صحيحة على هذا الشكل. يضاف إلى أنه ابدى بعض التحير والتشكيك في التكليف، كما في ابياته الشعرية:
الرب حق والعبد حق ياليت شعري من المكلف
ان قلت عبد فذاك نفي او قلت رب فما يكلف
من هذا المنطق يختلف النظام الوجودي عن المعياري جذرياً.
س: كيف يتلبس النظامان مع بعضهما؟
ج: في البدء لا يمكن انكار ظاهرة المفارقة في التلبس المشار اليه لدى الكثير من رجال النظامين، بحيث كانت الحصيلة هي التلفيق عند العجز عن التوفيق. والواقع ان اصل المفارقة يعود إلى علاقة النظام الوجودي بالقضايا المعيارية التي يثيرها النص الديني، سيما تلك التي لها علاقة بنظرية التكليف. فرجال هذا النظام يؤسسون قضاياهم طبقاً للبنية الوجودية القائمة على السنخية والحتمية، لذلك فحين يقرأون الخطاب وما يتضمنه من إثارات معيارية فانهم يضطرون إلى جعل القراءة قائمة على ظاهر وباطن، فالظاهر هو ذلك الذي يحفظ للخطاب معياريته الخاصة، لكن الباطن ما يقوم بنفيها وتحويلها إلى طبيعة اخرى تتسق والبنية الوجودية تبعاً للسنخية والحتمية. لذلك تجد بعضهم لا ينكر عصيان ابليس لربه، لكنه يرى هذا العصيان عين عبادته وطاعته. فمن حيث الظاهر يكون ابليس عاصياً، لكنه من حيث الباطن مطيع. والقصد من ذلك ان الامور تجري بشكل حتمي.
وواضح ان الغزالي هو ما جعل التصوف النظري يتغلغل بقوة ضمن الحضانة الاسلامية، وذلك بمداخلتها مع الاعتبارات المعيارية، اذ كانت شخصيته مؤثرة، سيما وقد ردّ على الفلاسفة وغيرهم، وكسب بذلك تعاطف الغالبية من المسلمين. كذلك نجد في الوسط الامامي الاثنى عشري الكثير من الفلاسفة والمتصوفة هم في الوقت نفسه فقهاء ومتكلمون، وقد تأثروا بالغزالي وابن عربي. لكن اغلب رجال النظام المعياري لم يتقبلوا دائرتي النظام الوجودي (الفلسفة والتصوف النظري)، قديماً وحديثاً.
س: هل هناك إذن تعايش بين الاتجاهات هذه، أم ان هناك نوعاً من الحروب الفكرية؟
ج: من منظار تاريخي هناك معايشات وفي قبالها توجد حروب كتلك التي اقامها ابن تيمية في نقده للاتجاه الصوفي والفلسفي. ولكن هناك من وقف ضد الفلسفة دون التصوف. ومنهم من اكتفى بالجانب العملي الذي تمارسه الصوفية من الزهد والاخلاق والمعاني التي تقرب إلى الله تعالى دون الاخذ بالاصول المعرفية الاساسية لهذا المذهب الوجودي.
فمثلاً ان كلاً من الشاطبي وابن خلدون ينتقد الفلسفة في الوقت الذي يميلان فيه إلى التصوف، واغلب الظن انهما لا يعولان على الاسس القبلية للتصوف. لكن حيث ان هناك بعض الصفات المتشابهة بين الاشاعرة والتصوف؛ فقد ادى ذلك إلى جعل الكثير من الاشاعرة يميلون إلى التصوف. وتتحدد المشابهة بأن كلا الطرفين لا يميلان إلى الممارسة العقلية، فهما يقومان على نقد العقل. كما تنبني نظرية الاشاعرة في القضاء والقدر على فكرة الكسب التي تستلزم الجبرية، وهو ما يقربها من الصوفية، رغم ان الاخيرة اكثر ايغالاً ببلوغها النزعة الحتمية الصرفة. كما ان رؤية الاشاعرة للطبيعة والحوادث تبعاً لنظريتها في الاعراض وعلاقتها بالجوهر؛ تقترب من رؤية الصوفية للوجود. ايضاً فإن كلا المذهبين قائل بمقالة: لا فاعل في الوجود الا الله.
س: هذه الوقائع تجعلنا نميل اكثر فأكثر إلى منطق الوحدة لا الانفصال. ما هو رأيك لمصادر الفكر هذه، وهل تعتقد بمصادر اجنبية في الفكر الاسلامي؟
ج: في الحقيقة هناك عناصر مؤثرة خارجة عن البيئة الاسلامية، كما هناك عناصر ذاتية داخلية تصدق حتى على النظام الوجودي. فمثلاً لدى التصوف بعض العناصر التي تنسجم مع النزعة الذاتية للفكر الاسلامي، سيما ما يتعلق بالقيم الاخلاقية العملية والروحية، مثلما نجد اصولها الكاشفة لدى سيرة النبي الاكرم (ص) وأهل بيته واصحابه والتابعين. لكن الفكر الصوفي كتنظير لا يختلف من حيث اصوله المولدة عن الفلسفة. ومن الناحية التاريخية فان للتصوف اصولاً قديمة. فالهرمسية شاعت قبل قرون من الاسلام، وكانت لها طرق معرفية خاصة للانتاج المعرفي وفهم الوجود، وهي تختلف عن الفكر المعياري، بالقدر الذي تتحد فيه مع الفكر الفلسفي، وقد ظهر اثر ذلك عند الاشراقيين الذين جمعوا بين الفلسفة والتصوف، باعتبار ان العلاقة بينهما قائمة على اصل مولد واحد هو السنخية، وان الفارق بينهما هو كالشعرة التي سرعان ما تنقطع.
هل هناك اثنينية في الوجود ام وحدة وجود؟ يقول الفلاسفة بالاثنينية ضمن وحدة نوعية، والعرفاء ينفونها ويثبتون وحدة شخصية تتشكل باشكال مختلفة. وسواء اخذنا بالاثنينية كما تراه الفلسفة، أو بالوحدة، ففي النظريتين ليس هناك مفهوم للخالقية بالمعنى الذي يراه النظام المعياري، بل توجد ضرورة وجودية تبعاً لوحدة الوجود أو للثنائية الازلية للعلة والمعلول. الامر الذي يختلف جذراً عن تفكير النظام المعياري. اي ان النظام الوجودي قائم في الاساس على اعتبارات الذات الالهية بما هي وجود تترتب عليها سائر الموجودات في العالم، اما النظام المعياري فهو قائم ليس على اعتبارات الذات بما هي وجود، بل تبعاً للقدرة والارادة الالهيتين، والتي عليهما تترتب سائر العلاقات الاخرى ومنها تلك المتعلقة بتكليف الانسان.
س: هل تعتقد ان الية التفكير الاسلامية المعيارية ما تزال مسيطرة ضمن البنى الفكرية الحالية، ام ان تطورات حصلت نتيجة التغيرات الكبيرة التي تعيشها المجتمعات الاسلامية؟
ج: الحركات الاسلامية هي انعكاس للنظام المعياري، والكثير منها متشبث بالدائرة النقلية أو البيانية لهذا النظام، ويبدو ان الدائرة البيانية ما تزال مهيمنة في العالم الاسلامي، سواء في التخصصات العلمية أو في الحركات الاسلامية. ومع ذلك فهناك حركات جديدة تعمل على خلخلة نظرية هذا النظام.
الحركات الاسلامية ما تزال تعيش تحت كنف النظام المعياري. الهيمنة ما تزال مستمرة، لا يوجد تنظير مهم يدخلنا في منهج جديد يختلف عن النظامين المعياري أو الوجودي. هناك اضطرارات تفضي إلى تغيير في المواقف والرؤى نتيجة ضغوط الواقع، لكن دون تغييرات جذرية منظرة.
س: لقد تحول التفكير في الدين إلى نوع من الدين بشكل صار يمنع أي تحديث حقيقي في بنية التفكير الاسلامي، لماذا؟
ج: ربما يكون السبب في ذلك الخشية من ترك الدين ذاته. فهذه الخشية جاءت نتيجة الضغوط الكبيرة للواقع كأمر طبيعي افرزته تطورات الاحداث. كما يتعلق الامر من جهة ثانية بالضغط الاستعماري الذي يمارسه الغرب لاجل الهيمنة بمختلف تجلياتها، ومنها الهيمنة الثقافية. فكل ذلك يجعل اهل الاسلام يخافون على الدين من الضياع. وهكذا كثيراً ما يتم التشبث بمحاولة ابقاء ما كان على ما كان، أو الحفاظ على ما ينسب للسلف، خشية الخروج عن الدين، ولا ننسى اننا امام طريقة تفكير سادت قروناً طويلة من الزمن، فليس من الهين زعزعتها، لذلك تبدو انها ما زالت مهيمنة رغم محاولات التجديد. وعموماً ليس هناك منهج اسلامي جاهز لتسديد حاجات الواقع الحالي ويكون مؤهلاً للتبني.
س: كيف نؤسس منهجاً جديداً ونحافظ فيه على النظام المعياري في الان نفسه؟
ج: انا لست من الداعين إلى المحافظة على ذات النظام المعياري، بل ادعو للمحافظة على القيم المعيارية التي يحملها الخطاب الديني كمسلمات اساسية لا غنى عنها، كما تتمثل بنظرية التكليف، لكن خارج حدود هذه المسلمات أو القيم فان بالامكان اشادة نظام اخر يخالف النظام المعياري وينافسه في الفهم، وارى ان امكانية ذلك متوفرة اذا ما تبنينا المنهج الواقعي، اي ان بالامكان انشاء نظام ثالث يفترض فيه الاصالة من غير تضارب مع مسلمات الاسلام، كما يفترض فيه ان يكون قادراً على حل مختلف المشاكل التي يعاني منها النظام المعياري، سيما عندما يتبنى نظرية المقاصد ويعطيها زخماً من البناء والتغيير للاحكام.
س: لنأخذ مثالاً على معالجتك الواقعية للنص مسألة القروض وعلاقتها بالربا؟
ج: عادة ما يستند رجال النظام المعياري في فهمهم لقضية الربا طبقا لمبدأ المثلية، اي على المقترض ان يسترد إلى المقرض مثل ما استقرضه بالضبط، بغض النظر عما ينال النقد من تغيرات في قيمته الشرائية، وهم يستندون في ذلك إلى بعض النصوص وابرزها الحديث النبوي القائل: كل قرض فيه نفع فهو ربا أو فهو حرام. لهذا يمنعون اي زيادة للمقرض على المقترض، والحال ان تغيرات القيمة الشرائية للنقد هبوطاً وارتفاعاً تجعل من استرداد القيمة لا يكافىء المبلغ الاصلي محل الاقتراض، وهذا في حد ذاته ينطوي على زيادة أو نقيصة، وان كان بحسب الظاهر ان المبلغ هو هو أو مثله، لكن من حيث ان العبرة ليس بالنقد بما هو نقد كأن يكون ورقاً أو معدناً، وانما العبرة بما يستفاد منه في الاستهلاك وسائر المعاملات من البيع والشراء وغيرها . فهذه الفائدة أو القيمة هي التي تعد مناط التساوي، لذلك ليس من العدل استرداد المبلغ بمثله، انما العدل استرداد المبلغ بما يساوي القيمة الشرائية حين الاقتراض. وعليه فتحديد ذلك انما يتم عبر مقاصد الشرع بعد التغيرات التي يفرضها الواقع على تحولات الاشياء.
س: ما تقوم به يبدو لي ضرورياً ولكنه متأخر كثيراً، ويخيل لي ان الحركة الفكرية العربية، التي ابتدأت منذ اكثر من قرن محاولات التجديد لم تستطع حل هذا السؤال الواضح، وهو الرجوع إلى الواقع، ويمكن وضع الفكر الايديولوجي بتشكيلاته المختلفة، القومي والماركسي، في الاطار الشكلاني نفسه، فقد اتجه إلى تأويل للواقع بدلاً من قراءة الواقع نفسه.
وأنت ترى وجود نوعين من التفسير والتحليل: البراني والجواني، وتنحاز إلى التفسير الجواني، ومن ناحية اخرى فانك تبتكر طريقة جديدة للتفسير، وتحاول ربط التفسير بالواقع، ألا يعني ذلك تناقضاً في داخل رؤيتك؟
ج: في الحقيقة لا يوجد تناقض. أقصد بالتفسير الجواني هو ذلك الذي يمتد إلى داخل المنظومة المعرفية ليجد العلاقات الرابطة فيما بينها بصورة ذاتية طبقاً للكشف عن الاصول المولدة للمعرفة. وهذا الامر ينطبق على المنهج الذي يعتمد في رؤاه على الواقع. فهنا انما اعتمد على المنطق الواقعي لا باعتبارات تبرير الواقع ولا باعتبارات تأثير الواقع على الفكر وجعل هذا الاخير مطية له، وهي الطريقة البرانية، وانما كمنهج معرفي نستفيد منه كمصدر للمعرفة والتحقيق في مختلف قضايانا المعرفية.
نحن نعلم مثلاً اننا لا نستطيع ان نفسر الكثير من النصوص الاسلامية، سواء في القرآن الكريم أو الحديث، الا بلحاظ علاقتها بالواقع، فاذا عزلت النص عن الواقع لما أمكن فهمه باتساق. وبالتالي فمن الممكن النظر إلى المنهج الواقعي طبقاً للقراءة الجوانية ولحاظ الأصل المعتمد عليه في التوليد، وكذا المتفرعات التي تترتب على هذا الأصل كانتاج معرفي، وايضاً كطريقة لفهم القضايا الاسلامية.
س: ألا يمكن للتحليل الجواني ان يقيم توازناً مع التحليل البراني؟
ج: هذا صحيح. انا لا أرفض التحليل البراني أبداً، وانما هناك الكثير من القضايا التي لا يمكن فهمها الا من خلال آثارها البرانية، فنفهم الفكر على انه يتضمن الدوافع الايديولوجية فيفيدنا بذلك التحليل البراني، لكن الذي أقوله بأن المنظومات المعرفية اذا ما كانت تحمل أفكاراً بعضها يمكن رده إلى البعض الآخر أو يتسق معه تمام الاتساق فمن الخطأ تشطير هذه الأفكار وردها إلى اعتبارات التحليل البراني، وانما لا بد من تفسيرها طبقاً للأصول المولدة، أي طبقاً للقراءة الجوانية. نعم من الممكن ايضاً طبقاً للتحليل البراني ان توظف القراءة الجوانية نتيجة للتأثيرات البرانية واستخدامها كفواعل ايديولوجية.
س: ضمن منظومة الجابري للتفكير يقوم بضم مفكري المغرب تحت سقف واحد، وأنت تعتبر هذا الموقف خاطئاً، لماذا؟
ج: في الحقيقة انني حاكمت الجابري في هذه النقطة وفي كثير من النقاط من خلال نفس المحددات التي حددها هو ذاته، فقد صنّف المفكرين المسلمين ضمن نظم محددة لها شروطها المعلنة، ومن أهم هذه الشروط الموقف من السببية، فهو يعد النظام البرهاني قائماً على مبدأ السببية الحتمية التي تتضمن عدم امكان انفصال المسبب عن سببه، خلافاً للنظام البياني الذي يرى جواز انفصال المسبب عن السبب. فطبقاً لمثل هذه التفرقة جعل كلاً من ابن حزم وابن باجة وابن طفيل وابن رشد والشاطبي وابن خلدون كلهم ضمن النظام البرهاني، مع ان الكثير من هؤلاء لا ينتمون إلى طائفة الفلاسفة من جهة، كما انهم لا يعتقدون بمبدأ السببية الحتمية، فبعضهم أشاعرة يلتزم بموقف هذه الطائفة من السببية وتفسيرها طبقاً للعادة، مثل الشاطبي وابن خلدون. وبعض منهم لا يلتزم أيضاً بالسببية الحتمية ولا يعتقد بتفسير الأشاعرة لها، مثل ابن حزم، يضاف إلى ان الأخير يتبع المنهج الظاهري في التعويل على اللفظ مما يجعله ينحو إلى النظام البياني اللغوي، وان الشاطبي وابن خلدون يميلان للعرفان ويذمان الفلسفة. كما ان ابن طفيل معلوم اتجاهه بأنه اتجاه عرفاني فلسفي على طريقة ابن سينا، وهو يعد الأخير إماماً له في هذا المجال، كما في مقدمة رسالته (حي بن يقظان).
س: كيف لمفكر من وزن الجابري وتأثيره القيام بنوع مما يمكن ان أسميه التلفيق الفكري، وما هو رأيك، اذا وافقتني سبب أو ضرورة ذلك؟
ج: في تصوري انه مضطر لهذا التقسيم؛ للاتجاه العام الذي بنى فيه نظريته اعتماداً على التفسير البراني. فلا شك بأن هذا التفسير يفضي إلى تهوين الرؤية الجوانية المتسقة، فهو قد اعتمد على التأثير السياسي في تكوين الأفكار وردودها، وحينما ضم فلاسفة ومفكري المغرب والأندلس ضمن النظام البرهاني، انما فعل ذلك ليتسق مع رؤيته في ان السياسة هي التي تنتج الأفكار، حيث اعتبر السياسة الأموية في الأندلس قامت برد فعل معرفي ضد الاتجاه المعرفي الذي اتبعته سياسة كل من الخلافة العباسية والفاطمية، أي ان هناك تضاداً في المواقف السياسية بين الاتجاه الأموي والاتجاهين الآخرين، مما انعكس ذلك على تبني الفكر لكل منهما.
س: هذا يجعل من الفكر مطية للسياسة تمتطيها ويخرجه من فاعليته الذاتية، بينما يدفعنا الجابري أحياناً إلى الاعتقاد بوجود انساق أصلية تفصل بين النمط الفكري المنتج في المغرب عنه في المشرق، فيغدو فكر المغاربة الاندلسيين عقلانياً نتيجة الطبيعة الأوروبية، ما رأيك بذلك؟
ج: في بداية كتابه (تكوين العقل العربي) يقول الجابري بأن الفكر ما هو الا ردود فعل للسياسة، وهو في نفس هذا الكتاب يحلل تواجد المذاهب الفكرية والنظم المعرفية طبقاً للصراع السياسي، فهو بهذا لا يولي التوالد الذاتي للمعرفة اهمية، لكنه من ناحية اخرى يسعى لترسيخ البنى المعرفية الثابتة، ولا شك ان هذه المقالة تعتمد على القراءة الجوانية للفكر عبر تفسيره لدور السياسة في توظيف الفكر، وعلى هذا الأساس فانه جعل من فكر المغاربة الأندلسيين فكراً يونانياً طبقاً للحاجات والاعتبارات السياسية، وليس طبقاً للطبيعة، انما كان الفكر جاهزاً، وما فعله الاندلسيون هو فقط الاتكال عليه واستجلابه من الأصول اليونانية. وهو بهذا يجمع بين القراءتين الجوانية والبرانية، لكنه يجعل من القراءة البرانية اساس توليد القراءة الجوانية، وهنا مكمن الخطأ كما اوضحتُ ذلك طبقاً لمنهج حسابات الاحتمال.
س: في محاكمتك لاختيار الجابري عنوان (نقد العقل العربي) تعتبر محاججته في هذا الموضوع مغلوطة، وتركز على فكرة عقل اسلامي، لماذا؟
ج: في هذه النقطة أيضاً ألجأ إلى نقد الجابري من خلال نفس المنطلقات والمحددات التي اعتمد عليها والتي أوقعته بالمفارقة والتناقض. فهو يعد العقل العربي من حيث الأساس عبارة عن عقل لغوي بياني، لكنه في الوقت نفسه يضم اليه صنفين آخرين من العقل هما العقل البرهاني الفلسفي والعقل العرفاني (اللامعقول)، مع انه يعد هذين العقلين الأخيرين لم ينشآ من بيئة عربية، وانما مردهما بلاد اليونان وفارس. واذا اخذنا باعتبار ان الجابري يرى اتحاداً في ماهية العقل اليوناني والعقل الغربي الحديث، وانه يعد عقول العالم العلمية ثلاثة، هي العقل العربي واليوناني والغربي، فان النتيجة تصبح بأن العقل العربي يفتقر إلى الخصوصية في قبال غيره من العقول، وذلك لأن هذا العقل من وجهة نظره يحمل الأنظمة الثلاثة التي ذكرناها، وبعضها يعود إلى بلاد اليونان المتحد مع الفكر الغربي، فبالتالي يصبح العقل العربي عقلاً عالمياً لا يوجد في قباله عقل آخر ينازعه، في حين انه يضعه من جانب آخر في قبال العقلين اليوناني والغربي، وهذا هو التناقض.
أما بخصوص إن كان العقل عربياً أم اسلامياً، فمع اعترافنا بأن احدهما لا يمكن عزله عن الآخر، بمعنى ان الموجود والحاضر لدينا هو عقل عربي اسلامي، لكن اذا اعتبرنا ان محددات العقل العربي هي اللغة والتاريخ والعرق وما اليها، وان اعتبارات العقل الاسلامي هي المحددات التجريدية النابعة من العقل المجرد ومن النص، باعتباره معطى الهياً، فان التراث الغالب في هذه القضية انما يصطبغ بالصبغة الاسلامية، مع أخذ اعتبار التداخل ما بين الصبغتين العربية والاسلامية.
س: ترى أيضاً تناقضاّ رئيسياً في اعتبار الجابري الأنظمة البياني والبرهاني والعرفاني ضمن بنية واحدة، ما هو هذا التناقض، ولماذا لا يستطيع (العقل العربي) التكامل ضمن الخلاف؟
ج: ليس لدي ممانعة من ان يكون هناك خلاف في نظم العقل الواحد، بمعنى ان ادانتي للجابري لا لكونه جعل هذا العقل حاملاً لنظم معرفية متضاربة، بل مؤاخذتي عليه تناقضه بالذات، وهو انه جعل العقل العربي حاملاً لعقول العالم في الوقت الذي اعتبره ذا خصوصية محددة في قبال العقلين الآخرين، اليوناني والغربي. وبعبارة اخرى، انه تارة يعتبر العقل العربي متمثلاً بالنظام البياني ضد العقلين الاجنبيين المتمثلين بالنظامين البرهاني والعرفاني، واخرى انه يعتبره حاملاً لثلاثة عقول أو نظم معرفية، وهو بذلك يلحق النظامين الاخرين ضمن هذا العقل.
س: خلال نقدك لادراج فكر الشيعة الامامية ضمن النظام العرفاني تذكر ان بعض الاتجاهات العرفانية موجودة وتتحدى اتجاه المعيار الشيعي، هل يعني ذلك امكان استنتاج فكرة اختراق كافة الأنظمة المعرفية للاتجاهات المذهبية الاسلامية، وبالتالي خطأ نظرية العزل والفصل عند الجابري؟
ج: هذا صحيح وقد أكدت على ذلك في (مدخل إلى فهم الاسلام)، لأن المذاهب تتداخل فيما بينها، فتجد المذهب السني يحمل اتجاهين وجودي ومعياري، وكذا الحال مع المذهب الشيعي، مما يعني ان كل مذهب ينقسم على ذاته من جانب ويتداخل مع الآخر من جانب آخر.
س: في مقابل نقد فكرة نقد العقل العربي، وباستبدال العربي بالاسلامي، هل نجد لديك اتجاهاً لنقد العقل الاسلامي، أم انك تقوم بمحاولة تفسيرية فحسب؟
ج: اعتبر مقولة العقل الاسلامي تختلف كلياً عما نطلق عليه ‹‹الاسلام››، وبالتالي فانه اذا لم يجز لنا ان ننقد الاسلام باعتباره ديناً الهياً مسلماً به، فان من الجائز، بل من الواجب، نقد العقل الاسلامي باعتباره عقلاً اجتهادياً قابلاً للاصلاح والتصويب. ومن هذه الناحية فان نقدي للعقل الاسلامي لم يأتِ بعنوان تقديم بديل في قباله، بل من حيث اعادة النظر فيه واصلاحه ليكون ذا كفاءة لحل المشاكل المطروحة.
س: ما هو رأيك بالنقد المسمى نقد العقل الاسلامي الذي يقوم بتفكيك وقراءة النص المقدس حسب المناهج العلمية الحديثة؟
في واقع الأمر لا مانع من ان يكون هناك نقد للعقل الاسلامي بما يعبر عن اجتهادات لفهم الاسلام أو فهم النص المقدس، وأعني بذلك القرآن الكريم، باعتباره قطعي الصدور، فاذا كان النقد يتوقف عند حدود الفهم فلا مانع منه، ولا مانع من استخدام المناهج والمعايير العلمية الحديثة المناسبة، لكن اذا كان النقد يمس قدسية النص أساساً فهو غير مقبول باعتباره ينطلق من منطلقات خارجية، أي ينطلق من منطلقات لا تمت إلى العقل الاسلامي بصلة، والذي علينا هو ان نعمل على نقد العقل الاسلامي من داخله لا من خارجه.
س: نجد حالياً استعادة ندوات فكرية في كل الأقطار العربية حول ابن رشد، على شكل مهرجاني واستعراضي في كثير من الأحيان، هل تعتقد ان اللحظة الرشدية تستحق كل هذا الاهتمام بها، أليس في ذلك نوع من الاصطفاء والاقصاء ضمن الفكر العربي الاسلامي، ولأهداف سياسية أكثر منها فكرية؟
ج: الذي أتصوره انه يمكن ان يكون هناك أكثر من سبب لهذا الاهتمام، باعتبار ان الذي ساد في الفكر العربي الاسلامي هو الغزالي أو فكر الغزالي، وليس فكر ابن رشد المخاصم له، كذلك باعتبار ان من ضمن ما اعتمدت عليه النهضة الغربية هو فكر ابن رشد بما يعبر عن أفضل شارح لأرسطو. أتصور ان هذين السببين هما اللذان حركا الساحة العربية تجاه ابن رشد. وبعبارة اخرى ان سبب التعويل على ابن رشد هو لأنه كان ضد الاتجاه الاشعري والعرفاني كما يتمثل لدى الغزالي من جانب، وكتقليد لما لجأت اليه النهضة الغربية طمعاً في تحقيق شيء من النهضة اعتماداً على ما يسمى (العقلانية) من جانب اخر.
حاوره حسام الدين محمد