-
ع
+

حوار مشروع التقريب بين المذاهب(25102010)

 في حوار مع موقع تواصل أون لاين اعتبر المفكر الإسلامي يحيى محمد أن مشروع التقريب بين المذاهب هو مشروع قاصر ولا ينبني على أسس معرفية راسخة، وإنما على ظواهر سطحية لا تخدم المذهبيْن، معتقداً أنّ المشكلة الأساس فيما يتعلق بنزعاتنا الفكرية والمذهبية هي مشكلة الفهم، وأن المشكلات الأخرى تعتبر هامشية لهذه المشكلة، وأنه بمشروعه الممتدّ منذ ما يقرب من الثلاثين عاماً يطرح الفكر الديني بمنهجية جديدة، قاطعاً مع  الدوائر المعرفية التاريخية التقليدية، ومتجاوزاً بصيغته العلمية كل المذاهب والأطر الإسلامية، معتمداً على ما يسمّيه بعلم الطريقة الذي يصرّح بأنه منهج جديد لبناء أسس وقيم إسلامية جديدة.

في هذا الحوار يشرح لنا يحيى محمد مشروعه الفكري كاملاً مرسّخاً لفكرة إعادة قراءة النص الديني على أساس الواقع الجديد المتغيّر، ومتطرقاً في حديثه إلى "مشكلتين" هما: مشكلة الحديث النبوي كمصدر أساسي من مصادر العقيدة الدينية، ومشكلة الغلو.

نص الحوار:

المشكلة الأساس: مشكلة الفهم

س: في مشروعكم الفكري الذي لا ما زال مستمراً منذ أكثر من عشرين عاماً، ما هي أبرز الإشكالات التي حددتها لواقعنا العربي والإسلامي؟

ج: المشكلة الأساس والتي أعتقد أنها مشكلة المشاكل في عالمنا العربي والإسلامي تلك التي أعبّر عنها بمشكلة الفهم: فهم الإسلام، فهم الدين، فهم النص، فهم الخطاب.

س: لماذا هذا التركيز على أن مشكلة الفهم هي المشكلة الوحيدة في عالمنا الإسلامي؟

ج: تعتبر هذه المشكلة قديمة حديثة، ولها مفرزات ونتائج كثيرة تظهر في اوساط مجتمعاتنا، والعديد من هذه النتائج سلبية، كمظاهر الانغلاق الطائفي والتعصب والتطرف والتكفير والقتل المجاني. فلهذه المفرزات جذور تتعلق بالفهم الديني، وهي امور خارجة عن السيطرة لحد الآن وتعود الى الواقع المفروض. فرغم ان الكثير منا يراها بعيدة عن مقاصد الاسلام وروحه باعتبارها مظاهر سلبية ومضرة للغاية، او على الاقل أنها متخلفة وغير حضارية، لكنها تظل – مع ذلك - مرتبطة بفهم الكثير من الجماعات المسلمة التي تفهم الاسلام بهذه الصورة او تلك. وهي مشكلة ليست جديدة علينا، بل لها من القدم ما يفوق غيرها من المشاكل. وعندما اشخصها كمشكل رئيسي لا أُلغي في الوقت ذاته سائر المشاكل المعروفة التي تعاني منها مجتمعاتنا، وعلى رأسها المشكلة السياسية، رغم ان هذه الاخيرة مرتبطة هي الاخرى بجذور الفهم المذكور. وعلى العموم فهناك مشاكل مختلفة كثيرة، لكن ما يميز مشكلة الفهم هو انها ظلت ثابتة دون ان يجري عليها شيء من التغيير الجذري، ولا زالت هذه المشكلة تدفع بالمزيد من المظاهر المربكة والخطيرة يوماً بعد آخر كتلك المتعلقة بالعنف وقتل الابرياء. والاختلاف بيننا وبين الغرب مثلاً، هو ان اشكالية الفهم تحولت عنده الى الاشكالية العلمية، اذ تحول الموضوع الذي مورس عليه التفكير من الكتاب المقدس وفهمه الى الطبيعة وعلمها. اما في عالمنا الاسلامي فقد بقي الحال ذاته دون تغيير، لا بمعنى انه ينبغي تبديل الموضوع ذاته كما حصل في الغرب، بل بمعنى ان الفهم ذاته لم يجرِ عليه شيء من التغيير الاساس.

وبالتالي نعتبر ‹‹الفهم›› هو المشكل الأساس الذي تميز بالثبات قديماً وحاضراً، ومن هنا كان لا بد من ان يُسلط عليه ضوء من التفكير كشيء في ذاته يحتاج الى المزيد من البحث والدرس قبل الدخول في حيثيات اخرى متفرعة عنه.

وأرى ان من الواجب تكثيف الحوار الذاتي حول ‹‹الفهم›› قبل الحوار مع الاخر. ففي البدء علينا أن نتحاور فيما بيننا حول ‹‹الفهم›› ذاته قبل حوارنا مع الاخرين، اذ كيف يمكن حل مشكلتنا مع الاخرين في حين ان مشكلتنا الذاتية مازالت لم تُحل بعد؟ فاذا كنّا ننتمي الى الدائرة الاسلامية علينا ان نكثف الحوار الداخلي قبل حوارنا مع الغرب مثلاً. واذا كنّا ننتمي الى مذهب معين فعلينا ايضاً تكثيف حوارنا المذهبي قبل ملاقاتنا للمذاهب الاسلامية الاخرى. فاذا كان المحاور خارج دائرة الاسلام فسيجد عندنا اسلامات كثيرة جميعها يدعي انه الاسلام الحق دون غيره. واذا كان المحاور داخلياً كمذهب من المذاهب الاسلامية فسيجد نفسه ونفسنا عبارة عن دوائر مذهبية داخلية، كل منها يدعي انه يمثل المذهب الحق. وبالتالي فالقاسم المشترك بين هذه الحوارات انما هو الحوار المتعلق بالفهم ذاته كفهم، فهو الاشكالية المشتركة لمختلف الحوارات، سواء كانت خارجية او داخلية، ومن ثم لا بد من تسليط الضوء عليه.

 

تجاوز الاعتبارات المذهبية

س: اليوم أنت تطرح موضوع الفهم وتعتبر أنّ هناك مشكلة في الفهم – فهم النص الديني – مشروع يحيى محمد يدور حول النص، معظم المشاريع الفكريّة والفلسفيّة كلها تدور حول النص، ما الجديد الذي جاء به يحيى محمد في مشروعه حول فهم النص؟

ج: أهم ما يتميز به المشروع الذي اشتغل عليه هو انه مشروع متعلق بالفهم كفهم دون اعتبارات اخرى، وانه قائم على البحث المنهجي. فمن جهة انه لأول مرة توضع مسألة ‹‹الفهم›› تحت طائلة البحث والتفكير كموضوع في ذاته، ومن جهة ثانية ان تناول هذا الموضوع قد تم طبقاً للمعايير المنهجية، فالبحث الجاري فيه هو بحث منهجي يتجاوز الاعتبارات المذهبية، ذلك انه من جهة يوحد بين المذاهب ليجمعها في مناهج محددة، كما انه يفكك المذهب الواحد الى مناهج متعددة متضاربة، بمعنى ان هذا البحث يفضي الى التعالي عن المذاهب بجمعها تحت طائلة المنهج، كما ويكشف عن الحرب المستعرة بين المناهج داخل المذهب الواحد، فللمذاهب حضور في المنهج الواحد، كما للمناهج المتعددة حضور في المذهب الواحد ايضاً. بل حتى على صعيد المضمون الفكري، لا تجد افكاراً هنا الا وتجد مثلها هناك، سواء اعتبرنا هذه الافكار صحيحة او خاطئة، فما موجود في هذا المذهب له نظيره في المذهب الاخر، والعكس بالعكس، واقصد بذلك دائرتي السنة والشيعة، كل ما في الامر قد تجد الغلبة المعرفية للفكرة في هذا المذهب، في حين تجد الندرة لهذه الفكرة لدى المذهب الاخر. وقد ينعكس الامر تاريخياً، فما يعد غالباً في فترة زمنية قد يصير شاذاً او قليلاً في فترة اخرى، وقد يتناوب الحال بين المذاهب. وبالتالي فهناك تعددية تداخلية تتيح للبحث المنهجي ان يؤدي دوره للعمل دون الوقوع في براثن المذهبية والاسقاطات الايديولوجية. ففي البحث المنهجي تتبين حالات الصراع والتصالح المعرفي التي تختلف جذراً عن تلك التي تجري بين المذاهب. وهذا ما يجعل المشروع مهماً جداً لأنه سيجعلنا نتجاوز التفكير المذهبي والانغلاق الطائفي، والتي ادى بها الامر الى جعل المذهب اساس العلم لا العكس، ومن ثم سقطنا بالفكر الآيديولوجي وضياع الحقيقة. واصبح الاتجاه سائراً نحو الاتجاه (القبَلي او العشائري)!

صحيح ان حل هذه الاشكالية من الناحية العملية او من حيث الواقع يحتاج الى زمن طويل، لكن من الناحية النظرية ان من الممكن حل اشكالية الفهم دون التورط في المأزق المذهبي، فمن خلال التفكير المنهجي يمكننا ابداء تصورات تختلف عن تلك التي ترسمها لنا المذاهب وتقيدنا بها. فرغم ان من ضمن ما يشتغل عليه المشروع هو الافكار المذهبية، الا ان صيغة البحث ونتائجه لا علاقة لها بهذا الحد من الانغلاق. وبالتالي فالنتيجة التي ندعو اليها تتجاوز الصيغ المذهبية لتدخلنا في عصر مختلف طبقاً لعلم جديد اطلقنا عليه (علم الطريقة). فهذا العلم يدخل فيما نسميه بالبحث الطريقي للفهم، وهو يختلف عما يمارس لدى العلماء والذي نطلق عليه (البحث الاستنباطي للفهم).

 

قصور مشروع الوحدة الإسلامية

س: لنتكلم بواقعيّة هنا، اليوم النزاع المذهبي هو مشكلة من المشكلات، بتقديرك هل طريقة الإسلاميّين الوحدويّين الذين حاولوا معالجة هذا الاشكال من خلال مفردات التقريب التي انطرحت، هي صائبة ؟ وهل هي عاجزة للوصول إلى حل لهذه المشكلة؟ وأنتم كيف تعاطيتم مع هذا الموضوع؟ ونحن نتكلم بموضوع الوحدة لأنه موضوع جوهري وأساسي ومهم.

ج: يعد التفكير في سبيل الوحدة او التقريب بين المذاهب عملاً جليلاً، وقد كنت منذ أول شبابي وبداية تديني تواق لهذا المشروع، ومن الشخصيات البارزة التي استهوتني آنذاك شخصية جمال الدين الافغاني، لكني مع خبرة السنين وطول البحث والتفكير تبيّن لي أنّ هناك قصوراً ذاتياً في المشروع، فاعتقد انه مهما فعل اهل الوحدة والتقريب فلن ينجحوا، فليس من الممكن حل المشكلة القائمة بين السنة والشيعة من دون تنازل احد الطرفين للاخر، او يعترف بالخطأ، او على الاقل يحتمل ذلك صدقاً. وهنا نعود الى المشكلة المركزية المتعلقة بالفهم. اذ يرجع العجز الذاتي لدى الاطراف الداعية للتقريب الى عدم الاقرار باحتمال الخطأ الوارد في فهم الاسلام والعقيدة قبال الاخر. وكل ذلك من تبعيات علم الكلام، حيث المقرر وجوب القطع في اصول الاعتقاد، والا افضى الامر الى الكفر والضلال. وبالتالي فلا يوجد حس نقدي على صعيد الذات ليتقرب احد الطرفين للاخر، فكل طرف يرى نفسه محقاً في كل ما يطرحه من مفردات ورثها عن غيره من الاسلاف، وهذا في حد ذاته لا يدع مجالاً للتقريب، ولو طُرحت المسألة بعنوان المعايشة مع الاخر لكانت اقرب للحل العملي، رغم ان واقعنا الحالي لا يحتمل احياناً صور المعايشة والانفتاح على الاخر. وبالتالي فان مؤتمرات التقريبيين ومشاريعهم ما زالت بعيدة جداً عن الواقع الفعلي، وهي بعيدة وغريبة – احياناً - حتى لدى التقريبيين انفسهم. لذا فما يبقى لا يخرج في الغالب عن حدود المجاملات والتعاطف، دون حل جذري لاصل المشكل. فمثلاً كيف يمكنك التقارب مع طرف يعمل على تضليل وتكفير من تعدهم من الشخصيات المقدسة؟ فالتقريب القائم على هذا النحو من العلاقة هو تقريب مستحيل.

 

الاعتراف بالآخر طريق الوحدة

س: ما هو العنوان الأساس في موضوع الوحدة الإسلاميّة؟

ج: لا شك ان سعي اهل التقريب والوحدة منصب على محاولة ايجاد العناصر المشتركة بين الطرفين، فهذا ما يتمركزون حوله من بحث، ومن ذلك البحث حول العقائد المشتركة واصول الفقه والاحكام المشتركة، وكذلك الروايات المشتركة بين الطرفين، لكن تظل هناك عناصر مستعصية تمثل اساس الافتراق والابتعاد، وليس فيها ما يدعو للاشتراك، ولو تنازل احد الطرفين للاخر بما يعتقده حولها لكان يعني السقوط ضمن دائرة الاخر. واخص بالذكر موضوع كبار الصحابة او الخلفاء الراشدين، والتي اعدها المفصل الذي يتشكل عليه الالتحام او الخصام، فهي النقطة المركزية التي يدور حولها جوهر المشاكل بين السنة والشيعة. اما سائر المشاكل فإما أنها تعتمد على هذه المشكلة، او أنها ثانوية، او مبالغ بها، او كونها قابلة للحل. فلو أن الشيعة استجابت الى ما تقوله السنة بأن الخلافة الراشدة كانت خلافة شرعية، لكان يعني ذلك بطلان المذهب الشيعي القائم على فكرة الامامة الالهية والوصية والنص. لذلك فالشيعة ليست مستعدة للتخلي عن فكرة المؤامرة واغتصاب الخلافة، باعتبارها اقرب الاقوال التي تنسجم مع نظريتها ورواياتها التي تدعمها. كذلك فلو ان السنة استجابت الى ما تقوله الشيعة حول نظريتها بشأن الامامة والوصية والنص، لتحولت هذه الطائفة الى الشيعة، ولإعترفت بأن الخلافة الراشدة لم تكن صحيحة، وان الخلفاء الراشدين سلكوا مسكاً مغايراً لما اراده الله ورسوله، وكل ذلك يعد طعناً بهم ومن بايعهم برضى وطواعية.

هكذا فان التسليم بما يقوله الشيعة حول الامامة الالهية يعني طعناً بالخلفاء الراشدين وهم مقدسون بنظر اهل السنة. كما ان التسليم بما يقوله السنة حول شرعية الخلفاء الراشدين يعني طعناً بفكرة الامامة الالهية، ومن ثم ضرب آلاف الروايات الشيعية التي تدعو لذلك بلا منافس، فلا يبقى للشيعة – بعد ذلك – شيء يمكن الاعتماد عليه. أما إبقاء الامور على ما هي عليه، بمعنى ان على الشيعي ان يعتقد بما يعتقده حول الامامة، وان على السني ان يعتقد بما يعتقده حول الخلافة الراشدة، فذلك يعني إبقاء حالة التوتر قائمة بين الطرفين، لإعتقاد احدهما بضلال او كفر زعماء الاخر المقدسين. فهل يمكن لهذا الحال ان يسفر عن التقريب او تطييب الخواطر بين الطرفين؟ فمثلا هل يمكن لي ان اجالس انساناً اعرف بانه يكفّر أبي او يضلله او يلعنه؟ فكيف الحال عندما يكون الشخص المعني من المقدسين لدي؟ بغض النظر عن حقيقة امر هذا الشخص واقعاً.

طبعاً لست اقصد بذلك ذات الاشخاص الذين يجلسون على طاولة التقريب، اذ قد لا يكون بينهم من يعتقد او يمارس ذلك الفعل، إنما اقصد الطرف الذي يمثله هؤلاء الاشخاص، من حيث نتائج الاعتقاد اللازمة حتى بغض النظر عن الممارسة الفعلية للناس، وإن كانت الممارسة تأتي - عادة - كإنعكاس للاعتقاد، كالذي نلاحظه في الواقع قديماً وحاضراً.

ويمكن ان اصوّر الخلاف بين الطرفين بوجود طرف ثالث يتمثل بالخلفاء الراشدين او كبار الصحابة. اذ يرى احد الطرفين انه لا مشكلة لديه مع الطرف الاخر المنافس، بل مشكلته مع الطرف الثالث، في حين يرى الطرف الثاني ان مشكلته مع الطرف الاول لحمله الموقف السلبي اتجاه الطرف الثالث. وبالتالي فموضع المشكل بين الطرفين الاولين مختلف، حيث ما يراه احدهما بأن له مشكلة مع الاخر، لا يقابله الاخر بذات المنظار طالما ان مشكلته محددة بالاساس مع الطرف الثالث.

وبعبارة اخرى ان الشيعة لا ترى لها مشكلة عند السنة، وهو امر يفسر لماذا يهتم الشيعة اكثر من السنة بالتقريب بين المذاهب. في حين يرى اغلب السنة أن من العسير التعامل مع الشيعة، الى درجة انهم لا يثقون احياناً بدعواتهم نحو التقريب. وعلى ما اتذكر فإن رشيد رضا يعترف في تفسير (المنار) بأن لايران الفضل في الدعوات الخالصة للبدء بالتقريب بين المذاهب رغم اتهامها في الوقت ذاته انها سبب هذا الانشقاق والفتنة بين المسلمين، انتقاماً من العرب الذين قضوا على امبراطوريتهم ايام الخليفة عمر بن الخطاب، وهو الذي يفسر شدة الكراهة لهذه الشخصية الكبيرة.

وقد لمست ما يقوله رشيد رضا عند اقامتي في ايران خلال الثمانينات من القرن الماضي، فوجدت الحس الايراني العلمائي اكثر انفتاحاً من الحس العربي الشيعي، ربما باستثناء لبنان مؤخراً.

وما أود قوله هو ان حل المشكلة المذهبية للمسلمين لا تأتي من خلال مشروع الوحدة والتقريب، باعتباره عاجزاً عن ان يفعل شيئاً، فالحلم الذي يحمله هذا الاتجاه جميل لكنه يحمل العجز معه ايضاً.

وعموماً ان للمشكلة جذورها المتعلقة بالفهم، فأساليب الفهم المختلفة والنوازع القبلية التي تقف خلفه هي ما جعلت المسلمين فرقاً كثيرة، ويوماً بعد يوم يزداد الافتراق اكثر فأكثر، وبالتالي لا يأتي الحل عبر مشاريع التقريب والوحدة، انما ياتي عبر باب اخر مختلف، وهو ما عالجته في مشروع (المنهج في فهم الاسلام) طبقاً لجعل ‹‹الفهم›› كما في ذاته موضوعاً للبحث المنهجي، مما جعلني اتجاوز الطروحات المذهبية. صحيح اننا اليوم نتحدث على الصعيد النظري، ومشروعنا هو مشروع نظري لا يمكن العمل به ونشره وتطبيقه في وقت قريب، لكن عسى ان يأتي اليوم الذي تجنى من هذا المشروع ثماره وتطبيقاته. فطبقاً لهذا المشروع يمكننا دراسة ما يتضمنه المذهبان السني والشيعي من مناهج مشتركة ومتعددة، فالمناهج الواردة لدى السنة هي ذاتها لدى الشيعة، واذا كان بعضها صحيحاً فمعنى ذلك انه متقاسم عليه لدى الطرفين، فما موجود هنا موجود هناك، وما من حسنة هنا الا وفي قبالها حسنة هناك، وكذا العكس بالعكس. وقد تكون جميع هذه المناهج غير صحيحة، فتراثنا المعرفي غير معصوم من الخطأ، وخطأ التراث لا يعني خطأ الفكر الاسلامي، باعتبار ان الاخير اعم منه وانه قابل للجود عبر الزمان بلا نهاية. وهذا يعني انه عندما ندرك خطأ هذه المناهج جميعاً او قصورها، فالواجب الملقى علينا هو البحث عن منهج جديد مناسب يفي بالغرض من حل اشكالية الفهم الديني، وهو ما نسعى إليه. فعلينا - اذاً - أن نقدم منهجاً جديداً وليس مذهباً في قبال المذاهب المتعارف عليها.

لذا اجد في كثير من الاحيان ان كلامي مقبول لدى الكثير ممن ينتمي الى السنة والشيعة. فمن خلال المحاضرات والدروس التي القيها، كما في عدد من الجامعات للدراسات العليا الاسلامية وبعض الحوزات وغيرها، أجد ان بالاستطاعة توصيل الفكر المنهجي الجديد حتى للبعض المحسوبين على التيار السلفي، فهنا لست بحاجة للعمل بما يطلق عليه التقريب والوحدة، كما ان طرحي لا يمت الى الجانب المذهبي بصلة، رغم انه يتعرض لافكار المذاهب كشواهد متماثلة لدى السنة والشيعة. وكثيراً ما اقول بأن كل حسنة او سيئة تجدها هنا؛ يوجد مثلها هناك، وان في الطرفين رجالاً يجتهدون من دون عصمة، فلا يوجد فكر معصوم او حق مطلق في قبال خطأ وباطل مطلقين، وبالتالي ما الضرورة التي تجبرنا على التمسك بهذا أو بذاك؟ بالحقيقة لا أرى من ضرورة سوى الاعتبارات الاجتماعيّة والبيئيّة التي تربّينا عليها، فكل شخص ولد في بيئة شيعيّة كان شيعيّاً، او ولد في بيئة سنيّة كان سنيّاً. لكن لو كنّا قد تربينا على دراسة المناهج بخلط المذاهب وجعلها متداخلة فيما بينها، فسينقلب الحال، ويتولد رجال يعدون انفسهم من اتباع المنهج الفلاني دون ان يبالوا بالفارق المتعلق بكونهم شيعة او سنة، او ان هذا الفارق سيتضاءل وينمحي بمرور السنين، طالما كان التركيز على الشكل المنهجي لا المذهبي، وان الاساس هو العلم لا المذهب. ويكون الشعار المتبع هو العمل بمبدأ مراجعة الافكار والمسلمات باستمرار لاجل مزيد من العلم والتحقيق بدل التوقف والتقليد. ففي تصوّري ان هذا هو الحل الأمثل للمشكل الذي نعانيه قديماً وحاضراً..

 

الأمة بين الحاضر والمستقبل

س: هل الأمة مختلفة على الموضوع التاريخي أو على حاضرها ومستقبلها؟

ج: في الحقيقة وللأسف ان الأمة مختلفة على ماضيها، وهو ما يجعلها تختلف على حاضرها ومستقبلها. فحالياً تجد دعوات لاستحضار الموتى لخوض حرب مفتعلة بين الاحياء، ويكون ضحيتها الابرياء في الغالب.

 

الفكر الواحد ـ الدين الواحد!

س: كأنك تطرح موضوع الانحصارية الدينية والقول إنّ هناك ديناً واحداً وإنّ هناك مذهباً واحداً فقط، والباقي هو مجرد خلاف علمي كما يختلف الفقيه مع الفقيه الآخر. التعدديّة هي مسألة طبيعيّة وليست مسألة قسريّة وقهريّة، طبيعة الأشياء تفترض أن يكون هناك مذاهب..أنت تقوم بضرب طبيعة إنسانيّة وطبيعة بشريّة. أنت هنا تحاول أن تتجاوز أو ترمي التعدّديّة الطبيعية عبر الحائط لتقول أنا أريد فقط فكرة واحدة، نحن نرتد اليوم إلى الفكرة الواحدة فيما تطرحه.

ج: لست من دعاة الانحصارية الدينية، كما لست ممن يدعو الى الافكار النهائية المطلقة. لكني ممن يذهب الى تغيير طريقة البحث والنظر للامور، وارى ان من الممكن تحويل البحث المذهبي الى البحث المنهجي، فبدل ان نساعد على المزيد من الصراع الطائفي لنجني من ورائه العنف والاحقاد؛ علينا ان نحول ذلك الى صراع منهجي ابستيمي نجني من ورائه ثماراً علمية، وحتى حينما تتحول الأخيرة الى مدارس ومذاهب متعددة فإنها سوف لا تتصف بالتعصب والدوغمائية والانغلاق لخلوها من القداسة، خلافاً لما هو الحال في المذاهب التي اضفت على نفسها شيئاً من القداسة ورأت ذاتها ممثلة وناطقة عن الحق او الدين، وبالتالي كان الصراع فيما بينها خطيراً ومضراً. ومن حيث تشخيص الواقع نحن لا ننكر التعدد الطبيعي للمذاهب، فالتعدد وارد في كل شيء من حياتنا، لكن ذلك لا يلغي نقدنا عندما نجد هذا التعدد ضاراً ويحتاج الى اصلاح او تبديل، لا بمعنى انحيازنا الى الوحدوية، بل بمعنى العمل على تحويل التعدد المذهبي الدوغمائي الى تعدد اخر مختلف، كالتعدد المنهجي، او التعدد المذهبي المنفتح الذي يتجه صوب العلم دون تقليد وانغلاق. فلو اننا ربّينا الاجيال الناشئة – في المدارس مثلاً - على غير التقليد، وزرعنا في نفوسهم قداسة التفكير والتحقيق العلمي بغض النظر عن النتائج، وثبّتنا فيهم روح الحياد والنظر الى الادلة بدل الرجال والفئات، وعودناهم على المراجعة الدائمة للنتائج للتأكد منها، ودربناهم على حسن الاستماع للاخر عندما يكون جاداً في قول شيء يراه صحيحاً، وحذّرناهم من آفات التعصب والهوى والاغترار، ودعوناهم الى النقد الذاتي باستمرار.. فلو اننا ربيناهم على هكذا ثقافة واعتبرنا هذا الفعل من اعظم الاعمال باعتباره مرتبطاً بالبحث عن الحقيقة كحقيقة، وهو بذلك عمل مقدس لا يدانيه عمل اخر، لأضحينا في عالم من الرقي والحضارة يختلف عما نحن فيه من مهازل واوضاع مزرية.

وبطبيعة الحال لا توجد مشكلة عندما يسود الخلاف المعرفي، فهو امر طبيعي، لكن المشكلة حينما يتحول هذا الخلاف الى خلاف عقائدي، فقد كثرت العقائد المتحولة عن الاراء، ومنها ما يتعلق بالنواحي التاريخية التي تم تصويرها كعقائد دينية. والحال ان علينا ان نعيد الامور الى نصابها بتحويل العقائد إلى آراء بدل الامر المعكوس كما يجري، وهو كارثة، اذ حينما يتحول الرأي الى عقيدة فان النقاش سيضحى بين المقدسات، وهو نقاش مستعصٍ، والعلاقة فيه تكون خطيرة وصعبة للغاية. لهذا فإن العمل بالبحث المنهجي عمل مبرر ومهم.

 

معالم المشروع ـ البداية

س: حدّثْنا عن أبرز معالم هذا المشروع وبداية انطلاقته.

ج: بدأ المشروع لدي منذ سنة 1986، وكنت آنذاك افكر بدراسة مناهج الفكر الاسلامي مع وضع البديل المناسب، وقد صنفتها الى اربعة، هي المنهج النقلي والعقل العملي (الكلامي) والفلسفي والعرفاني. وكان طموحي ان اضع بديلاً لهذه المناهج، وسميته المنهج الواقعي. وكتبت لهذا الغرض اربعة اجزاء صغيرة عن المناهج التراثية وقدمتها الى احدى مؤسسات التحقيق في ايران خلال (1986-1988). وقد دفعني الى البحث عن وضع البديل ما شاهدته من ان علماء الدين وأساتذة الحوزة في مدينة قم لم يراعوا ‹‹الواقع›› أدنى مراعاة، وقد شكّل لي ذلك منذ لحاظه قبل منتصف الثمانينات من القرن المنصرم صدمة واستغراباً دفعاني للخوض في البحث المنهجي، الامر الذي تأكد لي ذلك بشكل اوسع وأدق – علمياً – فيما بعد، لا سيما وانه تهيئت لي فرصة البحث في التراث لأول مرة عندما طرحت الفكرة على الشيخ واعظ زادة الخراساني، وكان يشغل منصب المشرف العلمي على بحوث احدى مؤسسات التحقيق انذاك، فرحّب بها حتى النهاية، وكان المفترض ان اكتب خمسة اجزاء عن هذه المناهج ومن بينها المنهج الواقعي، لكن الامر توقف عند حدود المناهج الاربعة التراثية. ثم عاودت البحث من جديد في السنوات التالية، خصوصاً بعد التسعينات من القرن المنصرم، فتمثلت لدي اربع طرق للتفكير التراثي ضمن نظامين معرفيين، اطلقت على احدهما النظام الوجودي ويشمل الفلسفة والعرفان، كما اطلقت على الاخر النظام المعياري ويشمل المنهج العقلي والبياني، وقد ضمّنت هذه الطرق المعرفية في كتابي (مدخل الى فهم الاسلام) الذي انتهيت منه سنة 1994، ووضعته كمدخل لنظم التراث المعرفي، وكنت في ذلك الوقت افكر بوضع مشروع متكامل بخمسة اجزاء سميته (المنهج في فهم الاسلام)، وصدّرته بمدخل متعلق بعلم الطريقة، اذ شعرت بحاجة الى علم خاص يغطيها منطقياً، لذلك كتبت بعض المداخل لهذا العلم الجديد الذي سميته ‹‹علم الطريقة›› او علم مناهج الفهم، وهو يبحث في البنى التحتية للفهم دون الفوقية منه. وفي كتاب (مدخل الى فهم الاسلام) عملت على حصر المناهج التراثية بغية دراستها ونقدها، ثم بعد ذلك قمت بتفصيل هذه المناهج او النظم المعرفية ضمن كتابين مستقلين، هما: (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية) و(العقل والبيان والاشكاليات الدينية). وطرحت في قبال هذه النظم نظاماً جديداً للفهم اطلقت عليه ‹‹النظام الواقعي››. وقد صدر حوله كتابان هما (جدلية الخطاب والواقع) و(فهم الدين والواقع). وكنت طيلة سنوات افكر بتوسعة ما بدأت البحث فيه حول علم الطريقة، فتم لي ان وضعت كتاباً جديداً بهذا المضمار سميته (منطق فهم النص)، فهو يضاف الى ما سبق طرحه لدى القسم الاول من كتاب (مدخل الى فهم الاسلام). وما زالت هناك بقية لهذا العلم بصدد اكمالها. واليوم ارى ان المشروع يكاد ينتهي، ومن ثم سأجمع ما نشرته مع القليل الباقي لأضع كل ذلك ضمن مجلدات خمسة كالتالي:

المجلد الاول: مقدمة في علم الطريقة

المجلد الثاني: مدخل الى نظم التراث الاسلامي

المجلد الثالث: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية

المجلد الرابع: العقل والبيان والاشكاليات الدينية

المجلد الخامس: النظام الواقعي والاشكاليات الدينية

وهناك ملاحق لبعض من هذه المجلدات او المشروع، وهي كتب مستقلة مثل كتاب (الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر) و(القطيعة بين المثقف والفقيه) و(مشكلة الحديث).

ويمكن القول ان المشروع ينقسم الى مشروعين متكاملين، احدهما يتعلق بعلم الطريقة كعلم منطقي جديد يتعالى على مناهج الفهم، بل يضعها موضع البحث والدراسة الابستيمية النقدية. أما الاخر فيتعلق بذات المناهج وقبولنا لبعضها دون البعض الاخر، او استبدالها بما هو جديد مناسب.

على اني استطعت بهذا المشروع، وطبقاً لعلم الطريقة، أن أحوّل البحث من الدراسة المذهبية الى المنهجية، وقد استهدفت من ذلك ‹‹القطيعة›› مع كل ما ألِفْناه من الدراسات الدينية المذهبية والايديولوجية، شبيه بالذي جرى في العلم، حيث قطيعة العلم الحديث مع القديم، كالذي اشرت اليه في مقدمة كتابي الجديد (منطق فهم النص).

والذي يطلع على مشروعي هذا لا يجد الطرح المذهبي وارداً فيه، وعموم كتاباتي لا تتضمن الانعكاسات الشيعية كما هي نشأتي، كما لا تجدني بعيداً عن الشيعة ولا عن السنّة، بل أدرس هذا وذاك، وأنقض هذا وأنقض ذاك، وأعتبر أنّ هذا جزء من شخصيّتي دون افتعال. لا أعتبر نفسي شيعياً ولا سنياً، بل انسان مسلم فحسب، فاحترم الانسان كإنسان، بل اعشقه عندما يحافظ على هوية الفطرة التي فطر الناس عليها، دون حجبها بدين او عرق او مذهب. وأعتبر جميع المذاهب الاسلامية طارئة، فعلى الأقل انها لم تكن في عصر النبي ولا في عصر الخلافة الراشدة، بل حدثت فيما بعد لاسباب اغلبها يتعلق بالفهم والسياسة. وبالتالي اعتبر نفسي ممن يدعو الى (نظرية التجاوز المذهبي) بالمعنى القائم على الدين والقداسة، ولي دراسة حول ذلك ما زلت بصدد اتمامها.

 

مشكلة الغلو

س: هذا الكلام مهم جداً على المستوى النظري، وقد قدمت علاجاً مختلفاً من خلال تقديم طريقة التغيير، لو أردنا أخذ مثلاً لمشكلة محددة وحاولنا استخدام كل المفاهيم التي استحضرتها في مشروعك الفكري من أجل معالجة هذه المشلكة، وذلك بهدف تبسيط النقاش للقارىء، الغلو مثلاً: الذي هو من المشكلات الكبيرة، حبذا لو تقدم لنا طريقة مقاربتك لهذه المسألة، وكيف أننا نشعر بأننا اقتربنا بخطوة كبيرة من الناحية الإسلاميّة لمعالجة هذه المشكلة.

ج: ظاهرة الغلو طُرحت تارة لدى بعض النظم التراثية لكونها منسجمة معه كالعرفان والباطنية، وطُرحت تارة اخرى على الصعيد المذهبي لكثرة الروايات الداعمة لها من هنا وهناك، سيما لدى الشيعة، رغم انها جاءت مخالفة للقرآن الكريم، بمعنى ان المخالفة واردة بين ما هو قطعي الصدور، وهو القرآن، وغيره مما لم يثبت القطع فيه ولا الظن. فالمشكلة اذاً محددة بالرواية، وفيها ما فيها من المشاكل التي تُضعف مضمونها ودلالاتها، فضلاً عن حجيتها. وسبق لي ان طرحت في كتاب (مشكلة الحديث) الاخطار الجسيمة التي تتضمنها مثل هذه الروايات، والمشاكل التي تعانيها، سواء من حيث الدلالة او السند او التوثيق وعلم الرجال. وقديماً كان عدد من القدماء يدركون المشاكل المنبعثة من الروايات التي بلغتهم. وبعضهم مارس ضدها النقد الجذري كما هو الحال مع الشريف المرتضى وغيره. حتى ان الكليني كان يشير في مقدمة كتابه (الكافي) الى ان الحقيقة المتضمنة في الروايات التي جمعها ليست واضحة، او ان الحقيقة فيها ضائعة، وبالتالي فهو يدعو الى العمل بما وسع له الاختيار.

أما الجديد الذي نطرحه حول ظاهرة الغلو، فحتى لو انها لا تتنافى مع القرآن الكريم صراحة، وكونها مجردة لا تمتد اليها يد التحقيق المباشر، فان من الممكن اخضاعها الى التحقيق غير المباشر كالذي فصلنا الحديث عنه في (منطق فهم النص)، او ما اشرنا اليه في نهاية كتابنا (مشكلة الحديث).

 

مشكلة الحديث

س: توجد نقطة رئيسيّة وصلنا إليها: من العناصر التي تشدنا إلى الخلف وتخلق مشاكل هي مشكلة الحديث الذي يلزم إعادة قراءته من جديد، وفي هذا العالم تشعر أنّ هناك قنابل موقوتة، وأنتم عملتم على هذا الموضوع وقدمتم قراءة نقديّة للحديث الموجود، كما قدمتم منهجاً جديداً في قراءة الحديث..

ج: في مقدمة (مشكلة الحديث) اشرت الى ان اكثر القضايا التي نحسبها ديناً في وجداننا كعقيدة وشريعة يكون مصدرها الحديث، وقد تبلغ أكثر من 90 بالمائة من مجموع تلك القضايا. فإذا كان لدينا إشكال جوهري على الحديث، فمعنى ذلك انه لا يمكن التسليم بأكثر من 90 بالمائة - تقريباً – بأنه من الدين. وهو امر ينطبق على الشيعة كما ينطبق على السنة، سواء بسواء. فالمشاكل التي يواجهها الطرفان متشابهة ومتقاربة رغم اختلاف سياق احدهما عن الاخر، وتظل مشكلة الحديث قائمة في حد ذاتها، اذ لا نجد تشجيعاً على تدوينه من قبل المشرع الديني، بل تجد في الروايات المصححة ما ينهى عن تدوينه كما لدى السنة. أما لدى الشيعة فلا يوجد لدى ائمة اهل البيت المتقدمين حث ايضاً على التدوين بالمعنى الذي يراد له التدويل العام، فقد ظهر هذا الحث - كما في الروايات الشيعية - خلال الفترة التي بدأ فيها التدوين يأخذ طريقه بين المسلمين عموماً، اذ كانت الحاجة اليه عامة.

 

س: بتقديرك لماذا لا يوجد تشجيع للحديث؟

ج: في تصوري لا يعتبر الحديث (القولي) جزءً أصيلاً من الدين، فأصل الدين يتمثل بالقرآن الكريم. مع لحاظ ان الفروض الدينية التي امر بها القرآن الكريم كانت تمارس عملياً باستمرار عبر السيرة النبويّة، كالصلاة والصوم والحج وما الى ذلك. فقد كانت الصلاة تُؤدى يومياً وحفظت طبقاً لهذه الممارسة ايام الصحابة والتابعين، لكن لما طال الزمن وخيف عليها من التغير فقد قام الحديث بحفظها للاجيال اللاحقة. أما قبل ذلك فان الناس كانوا يتعلمونها من الاباء والمعلمين دون الاعتماد على الحديث ذاته، ومع انه يحتمل طروء بعض التغير فيها بدلالة اختلاف المذاهب والروايات حولها، لكن أهم ما فيها قد تم حفظه ونقله.

وهنا بودي ان اشير الى ان تعريف السنة النبوية الذي اشتهر على ألسنة الاصوليين المتأخرين يختلف عن الاصل الوارد في هذه السنّة، فهم يعرفونها بأنها قول المعصوم وفعله وتقريره، وهو تعريف مستحدث ويواجه عدداً من الاشكالات، فهو من جانب يتضمن الاعتقاد بالعصمة الشمولية المطلقة، وهي مورد خلاف بين المسلمين، بل وداخل المذهب الواحد منهم. كما انه من جانب اخر يضفي على جميع تصرفات المعصوم الصبغة الدينية، وهو امر غير معقول، اذ بعض تصرفاته بشرية تماماً، مثل اكله وشربه ورغباته الشخصية في الاطعمة والنكاح وما اليها. كذلك فان هذا التعريف يبرر الجمود على العادات التي سادت لدى العرب القدماء وكان المعصوم يمارسها، مثل طريقة لبسه وكيفية اكله للطعام وركوبه الخيل وما الى ذلك.

 

س: هناك إيحاء وكأنك تريد نسف الحديث وإخراجه من دائرة الحجية؟

ج: ترد في الموضوع مشكلتان، تتعلق احداهما بحجية الحديث علينا، والاخرى بحجية ما وصلنا منه على فرض ثبوت حجيته. وفي كلا المسألتين اثبتنا عدم حجية الحديث القولي، فمن حيث الاصل لا يوجد دليل يثبت هذه الحجية، اما من حيث ما وصلنا فهو يفتقر للدقة والاطمئنان لكثرة العنعنة والتعارض والنقل بالمعنى والتساهل بالتوثيق، مع كثرة الدس والخرافة والتعارض مع القرآن الكريم وغير ذلك من المشاكل التي اثرناها في (مشكلة الحديث). وهو امر يختلف فيه الحال عما وردنا من السنة النبوية المتعلقة بالموارد الدينية، كالصلاة وغيرها، باعتبارها مورست من جيل الى اخر دون الاعتماد على الاحاديث، ومن ثم تم حفظها ضمن الاحاديث المدونة، فاذا ما حصل فيها شيء من التغيير فلا يعد تغييراً كبيراً، وقد يكون التسامح في مضامين ادائها وارداً بحيث يسع جميع الصور المعتمدة لدى المدارس الفقهية. ولا بأس ان يُعتمد على الحديث احياناً إما بعنوان التأييد لغيره كالقرآن الكريم، او الوجدان العقلي، او غير ذلك، او يُعتمد عليه في موارد التفسير عندما نجد اتساقاً قريباً للمعنى المراد مقارنة بغيره، كالذي يستخدم احياناً في معرفة اسباب النزول مثلاً.

ويكفي ان نلاحظ موقف كبار الصحابة من الاحاديث التي وردتهم، فقد كانوا حريصين على عدم تدويل الحديث خلافاً للقرآن الكريم. اذ ظهر التحفظ في النقل والتدوين واستمر الى عصر التابعين. وعادة ما تنطلق كلماتهم بشأن هذا التحفظ من موقع الورع لا الاستخفاف. ومن ذلك مثلاً ما يُنقل عن السيدة عائشة بان اباها قد جمع الحديث عن رسول الله (ص) وكانت خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلب كثيراً، فغمها ذلك وقالت له: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك، فجاءته بالاحاديث فدعا بها فحرقها، فقالت عائشة: لِمَ أحرقتها؟ قال خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذلك.

ويلاحظ بحسب هذه الرواية ان الامر بحرق الاحاديث الخمسمائة، سواء كان فعلاً صحيحاً او خاطئاً، يتضمن سياق الورع لا الاستخفاف. فقد كان ابو بكر (رض) يخشى من ان يكون قد اضاف وغيّر شيئاً في الحديث دون قصد ثم ينقل ذلك الى غيره فتكون عاقبة الامر في عنقه. بمعنى انه قد خشي الكذب على النبي دون قصد.

وعموماً ان جميع ما روي عن الصحابة في تحفظهم من الحديث رواية وتدويناً كان ضمن هذا السياق من الورع، بغض النظر إن كنّا نتفق على صواب هذا الفعل ام لا؟ ومن ذلك ما نُقل عن الكثير من الصحابة والتابعين بانهم كانوا يدونون الحديث للحفظ والاغراض الشخصية، وبعد ذلك يقومون بمحوها، خصوصاً عند دنو الأجل، حيث يوصون بحرقها واتلافها خشية ان تصل الى غيرهم ويضعها في غير موضعها على حد تعبير البعض.

 

الحديث ونظرية المؤامرة

س: الشيعة يقولون إنّ هذه الأحاديث فيها  كلام إيجابي عن الإمام علي (ع) لهذا السبب حرقها ابو بكر كما في الرواية الاولى التي اشرت اليها؟!

ج: على المدعي ان يثبت ذلك بالدليل، فالسياق المذكور هو ذلك الذي نقلته، وهو دال على الورع كما قلت، بل لو كان حرق الحديث للغرض المتعلق بالامام علي (ع) لما دعا ذلك الى نقل حادثة الحرق من الجماعة المفترض انها مشتركة في الجريمة، اذ كيف يعقل ان تنقل السيدة عائشة حادثة لها دلالة على تجريم ابيها؟ بل كان ينبغي التكتيم وغلق الملفات دون فتحها ونشرها، مع ان من المعلوم ان هذه الحادثة وما اليها كانت عادية يمارسها الكثير، حتى اولئك الذين لم يكن لهم علاقة بالسلطة الحاكمة، وقد استمر العمل بذلك الى عهد التابعين.

ويلاحظ في هذا السياق ان كبار الصحابة لم يمارسوا النهي عن الحديث باطلاق، بل جرى النهي عن الاكثار منه، وكذا تدويله، خشية الكذب على النبي (ص) او الانشغال بغير كتاب الله، وكل ذلك نابع من سياق الورع لا الاستخفاف.

ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أنه أراد أن يكتب السنن، فتردد في ذلك مدة بعد استشارته للصحابة، ثم قرر بعد ذلك عدم كتابتها؛ خشية الانكباب عليها وترك القرآن مثلما فعل اهل الكتاب من قبل، ومن ذلك قوله: إني والله لا ألبس كتاب الله كتباً. كما روي عن عمر بانه كان يمنع الاكثار من الرواية خشية الانشغال بغير القرآن، او للخوف من الكذب على النبي، ومن ذلك انه حبس كلاً من ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي مسعود الأنصاري لكونهم اكثروا الحديث عن رسول الله (ص). ومما يروى عنه بهذا الصدد قوله لجماعة من اصحاب النبي (ص): إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم؛ جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله (ص).

وهذا ما قصدته من الورع في الفعل بغض النظر عن صوابه وخطئه. ولو لاحظنا ما جرى فيما بعد لعرفنا بأن ما توقعه الخليفة الراشد كان في محله تماماً، حيث الانكباب على كتب الحديث واستنباط منها اغلب ما يتعلق بديننا.

فالاهتمام بكتب الحديث يفوق اضعاف اضعاف ما يتعلق بالقرآن، الى الدرجة التي وصلت فيها منظومتنا الدينية المستمدة من الحديث الى ما قد يتجاوز التسعين في المائة من مجمل القضايا، رغم المشاكل الجسيمة التي تعترضه. وهو امر يتعلق بالسنة والشيعة على السواء.

وعموماً ان القول بان هناك مؤامرة على الحديث النبوي أجرتها سلطة الخلفاء الراشدين هو امر لا يعقل اطلاقاً، فكما ذكرنا في (مشكلة الحديث) انه لو صح هذا لكان على الاقل ان يقوم الخلفاء بمنع الحديث كتابة ورواية باطلاق، ولكان ذلك يعني إما القول بجهل عموم الصحابة بما يجري حولهم من دسائس، او اتهامهم بالتواطؤ على الجريمة، او القول بخوفهم من السلطة الحاكمة، حيث لم يظهر منهم اي رد فعل مناهض؛ لا قولاً ولا فعلاً. وجميع هذه اللوازم المفترضة غير معقولة. فبحسب الفرض الاول انه اذا كان عموم الصحابة يجهلون ما يدور حولهم، كيف تسنى لنا معرفة ما كانوا يجهلون؟ أما الفرض الثاني وهو اتهامهم بالتواطؤ على الجريمة فهو غير معقول لأكثر من سبب، حيث انهم كثيرون فكيف امكن ان تجتمع دوافعهم ومصالحهم على هذا الغرض المشين؟ ناهيك عن ان هذا الافتراض يتناقض ومضمون الايات الصريحة في مدح عموم المهاجرين والانصار ومن اتبعهم باحسان. يبقى الافتراض الاخير وهو القول بخوف الصحابة من السلطة الحاكمة، وهو افتراض متهافت، ليس فقط انه من غير المعقول ان يخاف الجميع دون ان يظهر منهم من له الشجاعة الكافية لمناهضة ما تفعله تلك السلطة، ولم يحدثنا التاريخ عن مثل هذه الحالة من الاستسلام المطلق حتى في اشد الانظمة الاستبدادية عتواً وشراسة، بل كذلك لأن حالة الخوف لا تدوم؛ حيث تزول بزوال مسبباتها، فعند موت الزعماء تتكشف الحقيقة بالقول والفعل.

وبطبيعة الحال لو كانت هناك ارادة حقيقية ضد الحديث النبوي، لصدق ما يقوله الاخباريون من الشيعة بأن الخلفاء عمدوا الى تحريف القرآن لذات السبب، ونحن نعرف انه ليس هناك مصحف اخر متداول ومتفق عليه لدى السنة والشيعة غير مصحف عثمان الذي كان بأيدي الخلفاء الراشدين. فكيف يتأتى لنا الثقة بأن هذا القرآن هو ذاته دون ان تلعب به الايادي العابثة تبعاً للفرض السابق.

بل نقول لو كانت هناك مؤامرة تتعلق بالخلافة السياسية لكان المتهم الاول هم الانصار، فهم اول من تداول موضوع الخلافة في سقيفة بني ساعدة، وقد تحرك عدد قليل من المهاجرين بعد ان سمعوا بذلك كرد فعل عما قام به الانصار، وبالتالي كان من المفترض ان نتهم الانصار باعتبارهم اول من شعل فتيل الفتنة وخالف النص الالهي رغم عظمة اهميته على فرض وجوده، ومن ثم تمت مبايعة الجميع لأبي بكر (رض) سوى عدد قليل جداً وعلى رأسهم الامام علي (ع). لكن في قبال ذلك نجد القرآن الكريم يكيل على الانصار - فضلاً عن المهاجرين – مدحاً وثناءاً في مواقف عديدة ومنها ما عُرف ببيعة الرضوان تحت الشجرة كما في قوله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)). فهذا الرضا عنهم وعن المهاجرين فضلاً عمن اتبع الأولين منهم باحسان؛ كما في قوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)).. كل ذلك يجعل اتهامهم بأنه شبهة قبال دراية، سيما ان الآية الاخيرة هي من سورة التوبة، وهي من أواخر السور القرآنية التي نزلت إن لم تكن آخرها. فالأصل في القرآن الكريم هو الرضا، كما ان الثابت فيه هو مرضاته عن الأولين منهم بدلالة مدحه التابعين لهم باحسان، وان على رأس من بايع أبا بكر هم المهاجرون والانصار، ومنهم الأولون، باستثناء عدد محدود جداً من المعارضين الذين ما لبثوا أن بايعوا فيما بعد، سوى من شذّ منهم كسعد بن عبادة الانصاري.

ويجب ان نعرف بان مصدر الشبهة نابع من الرواية، وعلى خلافها تلك الدراية التي مصدها القرآن الكريم، حتى اننا لا نجد ولا اية واحدة تقدح في المهاجرين او الانصار صراحة. وفي قبال ذلك نجد العديد من الايات تكيل لهم بالمدح والثناء. ونحن هنا انما نتحدث بعنوان العموم لا الخصوص، فقد يظهر ما يخصص العام، فلا يعني ان كل من نصر النبي او كان مهاجراً هو مما يصدق عليه المدح والثناء الثابت، لكن العموم يصدق عليه هذا الوصف، في حين ان نظرية المؤامرة تجر الى اتهام وتجريم عامة الانصار والمهاجرين على السواء، وهو ما لا يتفق مع روح القرآن ومنطقه. وبالتالي فالمشكلة التي نواجهها بهذا الصدد تتعلق بالحديث الذي سلك وادياً مخالفاً لما عليه القرآن لكثرة الدس والتزييف.

طبعاً هناك من علماء الشيعة من يعد الخلفاء الراشدين من كبار المؤمنين الذين خدموا الاسلام بتضحياتهم واعمالهم الجليلة، لكن بعضهم يخشى ذكر ذلك بالمحافل العامة لاسباب معروفة، بمعنى انه يمارس التقية على اهل التقية، وقد تعرفت على عدد من هؤلاء أيام كنت في ايران خلال الثمانينات من القرن المنصرم. وكان من ابرز العلماء المتجهين الى هذا النحو المرحوم آية الله البروجردي كما نقل لي ذلك الشيخ واعظ زادة الخراساني، وكان يخشى ان يصرح برأيه أمام الناس ورجال الحوزة، ويمارس معهم ذات السلاح الذي صدّروه وهو التقية. ويعد موقف البروجردي وغيره من الايرانيين خلاف السائد المعلوم لدى الشيعة حول الخلفاء، حيث انقسموا الى رأيين سلبيين، كالذي يذكره العلامة الحلي.

وأتوقع بأن ايران ستتجه نحو هذا الاتجاه الشاذ وسط الشيعة، وستتخذ من الاطروحة الزيدية المعتدلة منهجاً لها، لكونها تقف موقفاً وسطاً لاعتقادها بالنص الالهي على الامامة من جهة، واعترافها بفضائل الخلفاء الراشدين وجهادهم من جهة ثانية. فهي تذهب الى ان تشخيص الامام لم يتم صراحة، بل تم تحديد صفته ونعته لا اسمه ونسبه، مما يعني تقديم العذر للصحابة في جهلهم للامام. وهو موقف قريب من الرأي الذي اتخذه الشريف المرتضى  في كتابه (الشافي في الامامة) وبعض الرسائل، حيث اعترف بأن حديث الغدير ليس جلياً في دلالته على التعيين، لكنه عوّل على حديث آخر اعتبره جلياً وهو قول النبي (ص): ‹‹هذا خليفتي من بعدي››، مع أنه عدّ السامعين له قليلين، الأمر الذي يعني جهل غالبية الصحابة له، لهذا فقد احتمل ورود الشبهة على بعض القوم الذين خالفوا الامام جهلاً بالنص والوصية، لكن الغريب انه اعتبر هذه النتيجة تضاعف الوزر على الصحابة، فوزر يتعلق بجهلهم، ووزر اخر يخص عدم اتباعهم الحق. وهو إلزام ما لا يلزم، كما هو واضح وجداناً.

مع هذا فالمشكلة التي يواجهها الشيعة الاثنى عشرية، هي الروايات الكثيرة الداعمة لنظرية المؤامرة، خلافاً للزيدية، الامر الذي يجعل مهمة التوفيق عملية صعبة للغاية، او انها مستحيلة ما لم تكن على حساب الروايات الشيعية. وفيه ما فيه!

 

س: أنت أضأت على نقطة مهمة في التاريخ الإسلامي: الأنصار هم بادروا للبيعة، لكن الذين اختلفوا حول السقيفة فيما بعد هم الشيعة، الشيعة بشكل عام يعتبرون أنّها مؤامرة حصلت ويتحمل المسؤولية أبو بكر وعمر، لماذا بقي الموقف على أبي بكر وعمر ولم يشمل الأنصار كافة؟ هل جموع الشيعة نسوا موقف الأنصار في السقيفة ورأوا ما كتب في القرآن عن مدح الأنصار وما إلى ذلك؟؟

ج: المشكلة روائيّة، فآلاف الروايات الشيعية تدعم فكرة المؤامرة والخيانة. لا شك ان الدس والتزوير في الروايات كثير جداً، وان فرقاً دخلت الاسلام بدافع حب اهل البيت للنيل من الاسلام وتعميق الشرخ بين الفرق الاسلامية، ولم يجدوا طريقة اعظم من دس الروايات وتزويرها. فكان التركيز على اتهام الخليفتين الصالحين ابي بكر وعمر، ولم يكن هناك تركيز على الانصار باعتبارهم لم يحكموا، والا فالكثير من الروايات تبدي ان الخيانة والكفر والنفاق عام باستثناء القليل جداً ممن بقي على الاسلام الصحيح كالذي تبشر به الاخبارية تعويلاً على الروايات ذاتها. فالجميع باستثناء عدد محدود جداً متواطئ مع المؤامرة ضد اهل البيت.

مما يؤسف له ان هذه الافكار الرائجة لم تُعرض على القرآن الكريم ليُعرف مدى اتساقها او انحرافها. نعم ان اغلب الاخباريين صريحون بتحريف القرآن، وبالتالي فانه لا يعد حجة لديهم، بل يعتبرونه احد ضحايا المؤامرة المذكورة. وبالتالي فهم يعرضون القرآن على الرواية لا العكس، ومنه يستنتجون التحريف والمؤامرة العظمى وسائر الجرائم الاخرى المفترضة. لكن مع القول بسلامة القرآن الكريم كما يذهب الى ذلك الاصوليون فالامر يختلف، اذ نرى التعويل على الرواية يكون على حساب القرآن، بدعوى التواتر وغير ذلك من الوهم النابع من كثرة الرواية ولاسباب تقليدية تمس قبلياتهم المعرفية غير المنضبطة.

فللاسف لم يُفعّل الاستقراء القرآني للوصول الى النتائج المرجوة، فمثلا هناك اكثر من خمسين اية قرآنية ظاهرها يدل على نفي العصمة الشاملة لدى الانبياء، ومع ذلك يقوم الاصوليون او ذوي الاتجاه العقلي في علم الكلام بتأويلها بحجة معارضتها للعقل المفترض؛ ليثبتوا عصمة الانبياء عصمة شاملة ومن ثم ليصلوا الى عصمة الائمة ايضاً. ومع ان بعض الايات تصرح بان النبي لا يعلم الغيب، كما في قوله تعالى: ((قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))، لكنهم مع ذلك يؤكدون على علم الأئمة للغيب، استناداً للروايات الكثيرة كالتي يتضمنها كتاب (الكافي) للكليني و(بحار الانوار) للمجلسي وغيرهما من الكتب الروائية. وبالتالي فان القرآن يقول شيئاً والروايات تقول شيئاً اخر، ويقف العلماء بجانب هذه الروايات بحجة كثرتها او ما يدعى تواترها، او بحجة ان تفسير القرآن يأتي من خلال الائمة وبالتالي يجب عرض القرآن على الرواية لا العكس، وهو ما يدعو اليه الاخباريون. وينطبق هذا الحال على الروايات المتعلقة بالفقه، فمع ان النص القرآني يشير الى حلية الزواج من الكتابية صراحة، لكن الكثير من الروايات والاراء الفقهية تذهب الى نجاسة اهل الكتاب، فتخيل كيف يمكن ان تحصل المعاشرة الزوجية والود والرحمة بين الزوجين مع وجود النجاسة لدى الزوجة؟! ومثل ذلك ما يتعلق بالموقف من ولد الزنا وولد الكافر، فمع ان القرآن الكريم يضع قاعدة عدم الوزر كما في قوله تعالى: ((مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)) الا ان الروايات تخالفه، ومنها يستنتج الفقهاء أقوالاً تخالف القرآن الكريم، فيذهب الكثير من الفقهاء الى كفر ولد الزنا ونجاسة وكفر ولد الكافر، والبعض يرى في الاخير اجماع المذهب، في حين ينفي بعض اخر وجود خلاف بين الاصحاب على الاول.

لذلك اقول وللاسف فان ما يقارب تسعين بالمائة او اكثر من ديننا قد تم ترسيمه عبر الروايات ذاتها، ولو كان ذلك على حساب القرآن الكريم.

 

القراءة النقدية للحديث

س: الخلاصة: القراءة النقدية للحديث ممكن أن توصلنا للتخلص من مطبّات كثيرة وألغام كثيرة وذكرتم أنّ هناك رجالات على مر التاريخ الإسلامي سواء من الشيعة أو السنة وضعوا علامات استفهام على الروايات. كما بالسنة أيضاً.

ج: برز خلال القرنين الاول والثاني للهجرة جو عام كاره للانشغال بالحديث او الاشتغال فيه، وقد ظهرت شخصيات كبيرة ناقدة لهذا الفعل المستحدث، وكانوا يعدونه من الشر المتزايد، فبعضهم يعلل هذه الكراهة بكثرة الكذب في الحديث، واخر يعللها بانها تأتي على حساب الانشغال بالقرآن وذكر الله. لذلك ظهر لدى الكثير منهم الندم والرغبة في سد باب هذا ‹‹الشر المستطير››. وكان من ابرز النصوص حول ذلك ما قاله سفيان الثوري: لو كان في هذا الحديث خير لنقص كما ينقص الخير، ولكنه شر فأراه يزيد كما يزيد الشر. ومما جاء في الشعر حول ذلك ما انشده بكر بن حماد (المتوفى سنة 296) :

أرى الخير في الدنيا يقل كثيره       وينقص نقصاً والحديث يزيد

فلو كان خيراً قل كالخير كله               ولكن شيطان الحديث مريد

ولابن معين في الرجال مقالة               سيسأل عنها والمليك شهيد

فإن تك حقاً فهي في الحكم غيبة            وإن تك زوراً فالقصاص شديد

طبعاً عندما بدأ تدوين الحديث خلال القرن الثاني للهجرة كان بسيطاً، لكنه مع الايام زاد وكثر، ثم توسع جداً خلال القرن الثالث، وهو قرن الموسوعات والصحاح. ولم يصلنا من كتب الحديث خلال القرن الثاني سوى كتاب (الموطأ) للامام مالك بن انس. ورغم تحريه فانه لم يكن لديه من الحديث اعشار اعشار ما ذكر من اكداس الحديث فيما بعد، وحتى ان الحديث الذي اعتمده كان حافلاً بكثرة المراسيل والمنقطعات، وكان مع ذلك متشككاً فيه غاية الشك، وكان ينقص منه شيئاً فشيئاً طوال حياته. كما يلاحظ ان الحديث ما إن دخل التدوين والتبويب في ارض الحجاز حتى بدت فيه علامات الشك والتردد من قبل مدونيه. فرغم ان منبته اصح منبت باعتراف العلماء، ورغم قرب العهد بالصحابة مقارنة بما بعده من العهود؛ فمع ذلك كانت الشكوك تراود اولئك الذين نذروا انفسهم لنقله وتدوينه، معترفين بالجهل وقلة البضاعة، حتى جعلوا من لفظة (لا ادري) اصلاً يفزعون اليه.

 

جدلية النص والواقع

س: نلاحظ أنّ لديك مفهومين تستخدمهما في موضوع النص الديني: النص، وهو العنصر الأول من عناصر الفهم لأنه الموضوع، والاخر هو الواقع الذي دائماً تذكره خصوصاً في كتاب جدلية الخطاب والواقع. ما هو الواقع الذي تفترض أنه الدليل أو السبيل إلى فهم النص؟

ج: لا ندخل بالتعريف الدقيق الجامع المانع لأنه عمليّة معقّدة، ليس فقط بخصوص الواقع ولكن مع أي مفهوم كان. فما نقصده من الواقع هو الموضوع الخارجي الشهودي، سواء كان يعبّر عن امر محسوس او غير محسوس كعالم الفيزياء الذرية وعوالم الكون الفضائية، كذلك ما يتعلق بالعلاقات القائمة في هذه العوالم مما يطلق عليه القوانين الطبيعية، ومثل ذلك السنن الاجتماعية والنفسية، وكل ما لا يدخل ضمن ما يطلق عليه عالم الغيب. ونضيف الى ذلك ما نسميه بالواقع الاعتباري كما يتعلق بالمصالح والمفاسد، حيث تتضمن فوائد او مضار واقعية وليست خيالية رغم انها ليست مادية او محسوسة، لذلك ادرجناها ضمن الواقع الاعتباري. فهذا هو الواقع او عالم الشهود الذي يقف في قبال عالم الغيب. وعليه نعتبر ان الواقع او عالم الشهود هو الاساس الذي لا بد من الاعتماد عليه في عملية الفهم. فمن جانب ليس باستطاعتنا فهم النص بمعزل كلي عن الواقع، حيث يولد الانسان وينشأ نشأة واقعية قبل تفاعله مع النص، فهو في الاساس يحمل لغة وثقافة عصرية، فاللغة في حد ذاتها تحمل ثقافة العصر، او هي تضمر هذه الثقافة المكتسبة دون ان تكون محايدة، ناهيك عن اهتماماته الثقافية المباشرة وما يكسبه من معارف بيئية، فكل ذلك له انعكاساته على الفهم عند الاحتكاك به. فليس بامكان القارئ ان يخلع ثوب الثقافة هذه ليتصل بالنص مباشرة، بل كل ما يمكنه القيام به هو عملية التهذيب عندما يحقق في معاني النص التاريخية واغراضه، فعند ذلك يمكنه القيام بإلقاء لباسه بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومع ذلك يستحيل عملياً طرح جميع ما تم لبسه من قبل.

هذا من جانب، اما من جانب اخر فهو اننا لو رجعنا الى النص لرأينا انه قد نزل على هيئة خطاب مشافه، ولم ينزل مدوناً، كما انه نزل بالتدريج، وفي كثير من الاحيان كان ينزل كرد فعل على ما يستجد من احداث، وكل ذلك له علاقة ماسة بالواقع الذي نزل فيه، كذلك فانه قد راعى الكثير من الاحكام والعادات السائدة في ذلك الوقت، إما بابقائها كما هي، او بتهذيبها كالذي تشير اليه المصادر الاسلامية. بمعنى انه راعى ما عليه الواقع من قبل، ولو فرضنا انه نزل في واقع اخر مختلف لتوقعنا بأنه سيحاكي ما يناسب هذا الواقع، ولكانت هناك أحكام تختلف تماماً عن هذه الأحكام التي ألفناها والتي هي نتاج البيئة العربية في ذلك الوقت.

كذلك فان النص او الخطاب الديني قد تفاعل مع الواقع الذي نزل فيه، واخذ الجدل بينهما الى تغيير العديد من الاحكام، فكان للواقع تأثير على النص بهذا المعنى مثلما ان للنص تأثيراً على الواقع، ومن ذلك انه غيّر واقع الكفر الى الايمان، وما زال النص مؤثراً فينا الى يومنا هذا.

ومما يلفت النظر اليه هو ان النص كثيراً ما يظهر التعارض في منطوقاته، وليس من الممكن تفسير هذا التعارض الا من حيث تعارض الواقع وتأثيره على النص. فالنص كان يستجيب للواقع ضمن سياق تاريخي معين، لكن عندما يتغير هذا السياق فان ذلك يبعث على تغيير النص او حكمه، وهو ما كان يحدث، كالذي يلاحظ بالنسبة الى موقف النص من أهل الكتاب والمشركين. كذلك فيما يتعلق بحالات النسخ، فهي تعبر عن احكام مختلفة او متعارضة، وليس لها من تفسير سوى ما للواقع من صور مختلفة ومؤثرة على النص.

وفي جميع الأحوال فان الواقع يتقدم على النص في الفهم والحجية والتأثير، مع اخذ اعتبار ما يحدثه النص من تغيير للواقع ضمن حالات الجدل بينهما، سواء عند نزول النص، او بعد ذلك الى يومنا هذا.

 

س: أمام اعتراض الواقع، النص كان يتغيّر؟ هناك أمثلة: الواقع لم يستجب للنص، عُدّل النص كي يستجيب له الواقع وقلت هناك أمثلة؟

ج: هناك آية النجوى على سبيل المثال والتي جاءت تطالب المؤمنين بتقديم صدقة فيما لو ناجى بعضهم النبي (ص)، ثم تلاها ما ينسخها مباشرة، بسبب اشفاق المؤمنين من تقديم الصدقات. كذلك هناك الايتان المتعلقتان بالمصابرة في الحرب، اذ كانت الاولى تطالب بالتحريض على القتال ما لم يكن العدو يفوق المؤمنين بأكثر من عشرة اضعاف، وبعدها خففت الاية الحكم الى الضعف فقط؛ لضعف المؤمنين، وهو قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ. الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)).

 

س: عدم مقاربة الزوجة في الليل في شهر رمضان أيضاً، كان الحكم هو الحرمة، ثم أصبح حلالاً.

ج: نعم هذا صحيح. وهناك آيات عديدة خضعت الى عنوان النسخ، بعضهم بالغ واوصلها إلى اكثر من مائتين، وهو خطأ، والبعض كالسيد الخوئي لم يعترف الا بآية النجوى وحكم التوجه في الصلاة إلى القبلة الأولى، في حين توسط البعض واوصلها الى ما يقارب العشرين اية، كما هو الحال مع جلال الدين السيوطي خلال القرن التاسع الهجري. واذا قلنا بأن الرسالة الاسلامية كان عمرها يقارب هذا العدد، فمعنى ذلك ان معدل النسخ للاحكام القرآنية هو واحد لكل سنة. لكن ذلك في ظرف ضيّق كما هو حال شبه الجزيرة العربية، وفي لحظة تاريخية ضيقة لا تتجاوز ثلاثاً وعشرين سنة، فكيف نتصور مصير الاحكام بعد مرور اكثر من الف واربعمائة سنة، ومع توسع رقعة المسلمين في العالم؟ فلو اخذنا باعتبار البعد الزمني دون الجغرافي لكان يفترض ان يتغير ما يزيد على الف واربعمائة حكم. هذا فيما لو لم نلتفت الى ما جرى لدى السنة النبوية من تغيير للاحكام والى ما طرأ على الواقع الحديث من تغيرات كبيرة، والا فالتقدير سوف يتضاعف كثيراً. وهنا نثير التساؤل الكبير وهو ان القرآن الكريم قد راعى الواقع الذي نزل فيه، فلماذا لا نراعي نحن واقعنا بدل جعله وعاءاً للاسقاط فحسب؟

فحينما يتغير الواقع ينبغي الالتفات الى الأحكام إن كانت تقتضي التغير ام لا؟ والمقياس الذي نعول عليه في هذا الصدد هو المقاصد، فحينما يصل الحكم الى التضارب مع المقاصد عند تغير الواقع فان ذلك يعني ايذاناً بضرورة تغيير الحكم ليتفق معها. فقد نشأت الاحكام الشرعية – في البدء - متفقة مع المقاصد، لكن تغير الواقع جعل الكثير من هذه الاحكام لا تتناسب مع الاخيرة، وبالتالي كان لا بد من تغيير الاولى.. لأن الامر لا يخلو من صورتين: فإما ان تتغير الاحكام لصالح المقاصد، او يبقى الاقرار بثبات الاحكام على حساب الاخيرة لتنافيها معها، لكن حيث ان المقاصد غايات، والاحكام وسائل لها، وان الغايات اهم من الوسائل، لذا كان لا بد من المحافظة على المقاصد بتبديل الاحكام. وهو الامر الذي فعله القرآن الكريم طيلة المدة التي نزل خلالها.

 

س: مع تغيّر الواقع تتغير الأحكام بالتأكيد. في موضوع الميراث بخصوص المرأة أو البنت في هذا الإطار المرأة كانت بالسابق لا تعمل واليوم تعمل، وهي جزء أساسي سواء في منزل والديها أو في منزل زوجها. الحكمة من الميراث في النص الإسلامي وكأنّ المرأة لا تعمل.

هناك رأي يقول أنّها حالة عارضة والأصل أن لا تعمل المرأة الا في حالات يحتاجها فيها المجتمع، وهذا في بعض المفاصل ولأنها في أسرتها، فبالتالي لا تقتربوا من النص، ما هو تعليقكم في هذا الموضوع؟

ج: بطبيعة الحال لسنا مسؤولين عن إحداث النظام الاجتماعي الحديث الذي يشجع على عمل المرأة، ولا يمكن تحميل جهة معينة بالخصوص عن مسؤولية إحداث هذا النظام، كما ان الفقهاء ليسوا معنيين بخلق الانظمة الاجتماعية او الحفاظ عليها، وعندما يكون النظام الاجتماعي قائماً فعلى الفقيه أن يفتي بحسب ما يتناسب معه إن أراد مراعاة ‹‹العدل›› كمقصد أساس، ولا يفتي بنفس الفتوى القديمة إن أصبحت تتعارض مع هذا المقصد، بل لا بد من اخذ اعتباره واعطاء التغيرات المؤثرة في الواقع ما يناسبه كالذي راعاه القرآن الكريم لمثل هذه التغيرات فأصدر احكاماً مختلفة تبعاً للمقاصد العامة.

 

س: هذا النص عالج ظروفاً وأوقاتاً معيّنة، الآن الواقع له سمات وصفات مختلفة ونريد أن نراعي المقصد؟

ج: لا شك ان المقصد هو المهم، لأنه غاية الحكم، والاخير وسيلة له، والغاية مقدمة على الوسيلة، والمقصد ثابت والحكم متغير. واهم المقاصد العدل، فهو ثابت مع تغير الوسائل والاحكام التي تستهدفه. فعندما تقترض مالاً لتسترجعه، فقد تسترجع ذات المال عندما لا تتغير القيمة الشرائية بشيء، وهو عين العدل، لكن عندما تتغير القيمة الشرائية للمال المقترض فانك لو استرددته عينه لكان في الاسترداد ظلم، ولكي تتقيد بالعدل فعليك ان تسترد ما يعادل القيمة الشرائية للمال. وفي هذه الحالة يلاحظ ان العدل هو الثابت والغاية من المعاملة القرضية، وان الاحكام الكفيلة بالاسترداد ينبغي ان تكون متغيرة وفق ما يتطلبه العدل؛ طالما أحدث الواقع على القيمة الشرائية نوعاً من التغيير.

 

الواقع على حساب النص!

س: هناك نقد على اليسار الفكري، وكل التيارات الفكريّة الحديثة تقول بأننا متمسكون بشيء تاريخي ولسنا مختلفين معكم، كل شيء تغير، المفاهيم والعدالة تغيّرت، القيم والدنيا تغيرت، فالنص علينا أن نضعه جانباً.

ج: لست من القائلين بأنّ كل شيء تغيّر او قابل للتغير باطلاق، فهناك المقاصد الكلية وهي من الثوابت، كما هناك المسائل التعبّديّة والتي لا يُفترض فيها التغيير الا نسبياً، فالصلاة التي كانت تصلى من قبل أنا اليوم أصليها، وبعد ألف سنة سيبقى الحال كما هو من قبل..

يضاف الى اننا هنا بصدد الاحكام فحسب. والمشكلة هي ان الكثير يتصور بان الاسلام منحصر في مجال الفقه، وهو خطأ. فالمجال الفقهي في القرآن ضيّق، ومجموع أحكامه قد لا تتجاوز الخمسمائة اية، والبعض يراها اقل من ذلك بكثير، وعلى رأي الكواكبي انها مائة، او مائة وخمسين اية. فالقرآن بذلك يزيد على ما فيه من احكام باكثر من اثني عشر ضعفاً، وبالتالي كان من الخطأ حصر الاسلام في زاوية الفقه. فمجالات القرآن رحبة، واغلبها لا علاقة له بمورد الاحكام. ويلاحظ ان ما اولاه القرآن الكريم من اهتمام كمحور مركزي هو الايمان بالله والعمل الصالح. فقد دعا القرآن الكريم الى الارتباط والتعلق بالله روحياً على صعيد العقيدة والسلوك، وامر بالرجوع اليه دون غيره في العبادة والدعاء وتقديم القرابين، وحارب الشرك دون هوادة، رغم ان المشركين كانوا يعترفون بوجود الله لكنهم اضافوا اليه وسائط وشركاء، وما زال الكثير منا يفعل كما فعل المشركون من قبل في جعل العلاقة مع الله عبر الوسائط والشركاء في الدعاء والنذر وما الى ذلك، رغم ان القرآن الكريم جاء لمحاربة مثل هذه العادات في المجتمع الجاهلي. وتشير بعض الروايات كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس الى ان الاوثان القديمة التي تعبّد بها المشركون كانت تعود لأناس صالحين من قوم نوح (ع)، فلما ماتوا نصب قومهم انصاباً لهم وسموها بأسمائهم، ثم بعد ذلك بمدة قاموا بعبادتها. ولا يختلف هذا الحال كثيراً عما يجري في واقعنا قديماً وحاضراً.

ومع ان مسألة الإيمان بالله والعمل الصالح هما اهم المسائل التي استقطبت اهتمام القرآن الكريم كبنية ثابتة، بل هما المحور الجوهري الذي دار حوله رحا النص القرآني، لكن مع ذلك قلما نجد من اوفاهما حقهما، فالكثير منا إما أنه متعلق بغير الله اعظم من تعلقه بالله في دينه وذكره وجلّ اهتماماته، او انه قليل الاهتمام بالعمل الصالح، فيولي ما للعبادة اضعاف الاهتمام مقارنة بأعمال الخير المتعلقة بمصالح الناس، حتى اذا ما ورد تعارض بين المستحب لبعض التعبديات وفعل الخير مثلاً؛ رجح الاول على الثاني. فالكثير قد يولي الاهتمام ببناء المساجد مع كثرتها دون الاهتمام ببناء المدارس او دور الايتام مثلاً. كما ان الكثير منا يفصل ما بين الدين ونوازع الخير، وهو يندفع بدافع الدين حتى لو كان ذلك مصادماً لفعل الخير والضمير. وهي ازمة كبيرة نعاني منها في مجتمعاتنا، وفي ظلها يستهان بالدماء والارواح واحترام الناس والقيم الاخلاقية.

 

حاوره: علي سمور ـ محمود فخر الدين ـ عباس النابلسي

 

comments powered by Disqus