يحيى محمد
لقد كان السجال المعرفي الذي شهدته الأدبيات الاسلامية عبر تاريخ الفكر الاسلامي مشغولاً في البحث عن المفاصل الفكرية بعيداً في الغالب عن الأدوات وأواصر التوليد المعرفي، الأمر الذي رماها بالوقوع في مستنقع «حوار الصم» لعجز بعضها عن إدراك البعض الآخر. فلما كان هذا الصراع يعبر في كثير من الأحيان عن شكل خفي من صراع الأدوات والأواصر التي تربطها بالرؤية، لذا كان لا بد من النظر الى تلك المفاصل بما لها من علاقات اتساقية ولزومية مع أدواتها والأواصر التي تعمل على توليدها. فبهذا ـ وبهذا وحده ـ يمكن أن نتخطى النظرة التجزيئية المبتسرة ازاء الفكر الاسلامي، إذ يصبح من الواجب النظر اليه نظرة شمولية وهندسية (اكسيومية) يتعزز فيها الجزء ضمن الكل الذي ينتمي اليه.
فمن الواضح أنه لا توجد رؤية معرفية من غير أداة تعمل على توليدها، فالعلاقة بينهما – في الأساس - هي علاقة انتاج وتوليد. وتتصف وظيفة الأداة والآلية في التوليد المعرفي بأنها لا تقبل الامساك والانتهاء ولا يحدها حد سوى ما تتأطر به من الاطارات العامة التي تتماهى بها. وهي بهذا المعنى تكون أهم من الرؤية التي تتولّد عنها عبر بعض الأواصر المعرفية. فمهما كان حجم الرؤية إلا أنها تعبر عن إدراك محدود بالقياس الى السعة والقابلية اللامتناهية التي تتمتع بها الأداة في ممارساتها لآلية الانتاج والتوليد المعرفي.
ومن وجهة نظر علم الطريقة ليس الجهاز المعرفي تياراً محدداً من التيارات المذهبية، ولا أنه علم ذو موضوع واحد بالضرورة، بل يعبّر عن نسق معرفي قائم على أركان مترابطة خمسة، فلا بد أن يحمل أداة منهجية لتوليد المعرفة، كما لا بد من وجود مصدر للمعرفة تعتمد عليه هذه الأداة، وكذا لا بد من ان يكون هناك تأسيس قبلي من القضايا السابقة على كل فهم وإنتاج معرفي منظم، ومن بين هذه القضايا تلك المتصفة بالتوليد والتوجيه، والتي عبّرنا عنها بالآصرة المعرفية أو الأصل المولّد، يضاف إلى ضرورة وجود الفهم والإنتاج. وقد نعبّر عن الجهاز المعرفي بالدائرة المعرفية، فتكون الدائرة متضمنة للأركان الخمسة الآنفة الذكر. ومن الناحية المنطقية كل فهم لا يسعه أن يكون من غير جهاز معرفي أو دائرة؛ لحاجته لكل من المصدر والأداة والقبليات المعرفية. ولا فرق في ذلك بين الفهم الواعي وغيره من الأفهام والقراءات غير الواعية لهذه الحقيقة.
إذاً يمكن تحديد المفاهيم الخمسة السابقة كالتالي:
1ـ المصدر المعرفي:
وهو المنبع الذي تصدر عنه المعرفة بالنشأة والتكوين والتأسيس، كالنص والعقل والواقع والإلهام الغيبي. وهو ليس بالضرورة يطابق الموضوع الذي يمارس فيه الذهن نشاطه في الفهم الديني، وكذا في سائر نواحي هذا النشاط كعلم الطبيعة وغيره. فرغم أن موضوع الفهم هو النص، إلا أن مصدر الفهم الرئيسي قد يتمثل بنواح أخرى خارجية غير منتزعة من النص ذاته، كالمنظومات العقلية أو الواقع أو غيرها. لكن يظل النص – الموضوع – يحتفظ بنسبة من المصدر، مهما كانت ضئيلة، يضاف إلى غيره من المصادر المعوّل عليها في الفهم. وينطبق الحال على سائر الموضوعات، كالطبيعة مثلاً، فقد يكون المصدر الرئيسي المعتمد في تفسيرها ليس منتزعاً عنها عبر الملاحظات والتجارب، بل من منظومات أخرى، كالنواحي العقلية القبلية أو النص الديني أو الإلهام الكشفي أو غير ذلك من مصادر المعرفة المتنوعة.
2ـ الأداة المنهجية:
وهي آلية أو طريقة تتم فيها عملية تكوين المعرفة وتأسيسها بهيئة مفاهيم مستنبطة تقبل التوظيف؛ إعتماداً على المصدر المعرفي. فهي منهج استكشاف المعرفة وتوظيفها. وهي بالتالي تتوسط؛ إما لتمارس دور الإنتاج والتوليد المعرفي، أو تعمل على فهم الموضوع المراد تسليط الضوء عليه.
وقد تكون الأداة بيانية صرف لغوية أو عرفية أو شرعية أو غيرها. وقد تكون عقلية منطقية أو وجودية أو معيارية أو غيرها. كما قد تكون كشفية إلهامية أو شهودية أو غيرها. كذلك قد تكون واقعية إستقرائية أو تمثيلية أو غيرها... إلخ. وكل ذلك رهين الإعتماد على طبيعة المصدر المعرفي. وقد تكون الأداة منطقية محايدة تناسب التوظيف لأكثر من مصدر معرفي دون خلل وإعتراض، كالأداة الإستقرائية، فهي عندما تطبّق على الواقع كمصدر تتخذ الطابع الواقعي، في حين عند تطبيقها على النص تتخذ الطابع البياني.
وتتمثل حياة الأداة بممارسة دورها في التوليد والفهم، وهي بغير ذلك خاوية جوفاء، وعلاقتها بالرؤى وما ينتج عنها أشبه بعلاقة المقولات بالحدوس الحسية كما يصورها (عمانوئيل كانت) في عبارته الشهيرة: «إن المقولات من دون حدوس حسية جوفاء، كما ان الحدوس الحسية من دون مقولات عمياء»[1]. ففي جميع الأحوال أن الرؤى لا يمكن أن تنتج من غير أداة، لكن عدم الوعي بالأخيرة قد يجعل الرؤى ضالة في علاقتها بها، وهي أنها قد تصدر عن أداة غير مناسبة. فمثلاً أن الرؤى المتعلقة بعلوم الطبيعة يناسبها الأداة الواقعية كما تتمثل بمنهج الإستقراء والتجربة، ولو استبدلنا هذه الأداة بالأداة النقلية مثلاً فإن ذلك سيفضي بضلال هذه الرؤى وعدم دقتها أو الثقة بها. وشبيه بذلك ما يصفه (كانت) في علاقة الحدوس الحسية بالمقولات.
وعلى الصعيد الفلسفي نرى أن الأداة لما كانت منهجاً للتفكير فهي من هذه الناحية عبارة عن «عقل طريقي»، وأن التقسيم الفلسفي للعقل بأنه عقل نظري وعقل عملي هو تقسيم قاصر ما لم يُضف إليه ذلك العقل الطريقي الذي بدونه لا يمكن للعقلين الآنفي الذكر أن يمارسا دورهما كلياً. وعليه يصبح تقسيم العقل ثلاثياً: نظري وعملي وطريقي، وأن العقلين الأوليْن يعبّران عن «العقل المضموني»، في حين يعبّر الثالث عن «العقل الصوري». بل يمكن اختزال هذه العقول الثلاثة إلى عقلين: مضموني (نظري وعملي) وصوري، وأن علاقة العقلين المضوني والصوري هي علاقة عدم استغناء، فأحدهما لا يستغني عن الآخر، مثلما لا يمكن للصورة – في العالم الطبيعي - أن تستغني عن المادة (الهيولى) ولا المادة أن تستغني عن الصورة، كما يرى الفلاسفة القدماء.
3ـ المولّدات والموجهات القبلية:
نعني بالمولّدات الأصول التي تعوّل عليها الأداة المنهجية في الفهم والتوليد، أو الكشف والإستنباط، والتي بواسطتها يتم توليد المعرفة وإنتاجها، لذلك نطلق عليها الأصول المولّدة، وهي أواصر معرفية. وعلى شاكلتها الموجهات، لكن الفارق بين الأخيرة والأولى هو أن الأولى تعمل على إنتاج المعرفة، في حين لا تقوم الموجهات بهذا الدور التوليدي، وإنما يُسترشد بها في تكوين المعرفة أو تفسيرها وفهمها بإتجاه دون آخر، أو توظيفها لأغراض معينة. أي أنها تتخذ دور الإدلاء على الطريق المناسب دون القيام بعملية التوليد والإنتاج. لكن يظل أن كل توجيه لا يخلو من توليد، مثلما أن كل توليد لا يخلو من توجيه. كما قد يجتمع المولّد والموجه في أصل معرفي واحد يمارس دورين من التوليد والتوجيه للقضايا.
وبعبارة أخرى، إن الأصول المولّدة هي قضايا قابلة لتفسير أكبر عدد ممكن من القضايا العائدة إلى ذات المنظومة المعرفية، سواء من حيث التوليد أو التوجيه أو الإتساق. إذ نفترض وجود انتظام تتولّد فيه المعرفة بعضها من بعض، إعتماداً على عدد من القضايا المتصفة بالتوليد والتوجيه والتفسير ضمن اطار المنظومة نفسها. وكأن الأصل المولّد يستبطن سائر المعارف الأخرى، وكأنه الماهية التي تتحدد بها التفاصيل، مثلما يتحدد من إسم افلاطون كل ما نعرفه عن هذا الرجل الحكيم. وكذا الحال في الأصل المولّد، إذ ننتزع منه معارف كثيرة مختلفة، أو نفسرها طبقاً له دون غيره لإمتيازه بالتفوق. ويشترط أن يكون أساس الفهم وليس نتاجاً عنه.
هذا هو المعيار الذي نبني عليه إجتهادنا لانتخاب الأصول المولّدة كقضايا أساسية عند بحثنا للدوائر والأنظمة المعرفية. وبالتالي فإن الصفة التي نبني عليها هذا الحكم هي صفة (هندسية) أو منطقية، بحيث تندرج فيها سائر القضايا؛ إما كمشتقات نابعة من الأصل المولّد، أو أنها على الأقل تتسق معه بما لا ينافسه عنصر آخر. على ذلك قد تكون الأصول المولدة هرمية، حيث يتربع الأصل المولد على قمة هرم المنظومة المعرفية، كما هو حال الفلسفة والعرفان. كما قد تكون هذه الأصول قاعدية أفقية، حيث أنها داخلة في المساحة العريضة للمنظومة المعرفية، كما هو حال الدائرة البيانية للفكر المعياري، كالذي تعرضنا له خلال الجزء الثاني من سلسلة هذا الكتاب.
إذاً فالأصل المولّد هو بمثابة البداية المنطقية لسائر المعارف، مقارنة بالبداية التاريخية وما ينشأ عنها من تطورات. وان ما يحدد البداية الأخيرة هو البحث البراني، خلافاً للبحث الجواني الكفيل بتحديد البداية الأولى المنطقية. فما يجري من بحث على المنوال التاريخي في الأصول والبدايات هو غير ما يجري من بحث على المنوال المنطقي، إذ كما إتضح بأن منطق كل علم لا يسعه أن يتقدم زماناً على تاريخ هذا العلم. فمنطق كل علم يأتي بعد مراحل تقدم الأخير، وبالتالي فإن البداية التاريخية هي ليست ذات البداية المنطقية للعلم. وبلغة متعالية فإن كل علم هو الذي يحدد شروط ما سيأتي من منطق. والعكس صحيح أيضاً، وهو أن كل منطق يحدد بدوره شروط ما يُعتمَد عليه من علم.
4ـ الفهم:
وهو ممارسة ذهنية تخص النص، وله صور متعددة من الإشارة والتفسير والتأويل وغيرها من الصور والمعاني الممكنة. وبذلك يتميز عن سائر ضروب الإدراك والعلم المتعلقة بالأشياء الخارجية والطبيعة. ونحن نعد هذه الممارسة عنصراً من عناصر تركيب الجهاز المعرفي، ذلك لأن جزءاً من نشاط الجهاز مسخر لفهم النص الديني، خلافاً للأجهزة المعرفية التي لا علاقة لها بالفهم المشار إليه، كالأجهزة الموظفة لمعرفة الواقع العلمي للطبيعة، والتي تخلو من وجود رابطة بينها وبين النص. فطبقاً لذلك الحد يمكن للجهاز أن يضم مذاهب وعلوماً متنوعة، ميزتها أنها تشترك في العناصر الخمسة المشار إليها، وإن اختلفت أحياناً حول طبيعة الفهم وما تولّده من معارف تبعاً لإختلاف الموضوع، أو لمرونة التأسيس القبلي، أو لإعتبارات وأمور عارضة أخرى.
والفهم كممارسة عملية يقتضي وجود موضوع له يمارس عليه هذا النشاط، ويتمثل الموضوع في هذه الحالة بالنص. وبصورة عامة فإن كل نشاط ذهني يقتضي وجود ما يخصه من موضوع، فالنشاط المتعلق بتفسير الطبيعة يقتضي وجود الأخيرة كموضوع لما يُعرف بعلم الطبيعة. وهكذا مع سائر النشاطات المعرفية الأخرى. وجميع هذه الممارسات ينتج عنها نتائج هي حصيلة هذا النشاط المعرفي. فالفهم كممارسة ينتج عنه فهم كحصيلة. والعلم الطبيعي كممارسة ينتج عنه هو الآخر علم كحصيلة... وهكذا. وبالتالي فالفهم هنا مأخوذ بكلا الإعتبارين كممارسة وحصيلة، للتلازم بينهما، لكن يبقى الأساس في ذلك هو الممارسة لا الحصيلة.
وكثيراً ما نسمي فهم النص الديني بفهم الخطاب، إذ يُقصد بالنص اللغوي – في كثير من الأحيان - بأنه كلام مكتوب، أو خطاب مدوّن، وبالخطاب بأنه قول مشافه، كالذي عليه الألسنيات الحديثة، وكما يقول بول ريكور: إن النص خطاب أثبتته الكتابة، أو أن النص مؤسس بواسطة تثبيت الكتابة[2]. وبحسب هذا المعنى يكون الخطاب سابقاً للنص من الناحية الإنثروبية. واستناداً إلى هذين المعنيين فإن النص هو نوع من الخطاب الموجّه، وأن الخطاب هو نوع من النص الموجّه أيضاً، لكن التوجيه لديهما مختلف في الغالب، فالجهة التي يستهدفها الخطاب جهة اجتماعية حاضرة ومشخصة ولها حدود، مما يجعل العلاقة بين المخاطِب والمخاطَب علاقة تواصلية حيث التفاعل والجدل والتعاطي المتبادل، وبالتالي فإنها تعبّر عن المعنى الإجتماعي بحكم هذا التفاعل المباشر. في حين أن النص يستهدف جهة انسانية لا تتصف بالحضور المباشر والتشخيص ولا بالحدود، وهي بالتالي جهة مجهولة، مما يجعل العلاقة بين الكاتب والقارئ علاقة إنفصالية نيابية غير تواصلية، أي على خلاف الحالة التي يتصف بها الخطاب. فما موجود هو الأثر المكتوب المعبّر عنه بالنص، أما صاحبه فقد غاب وانتهى. فعلاقة القارئ المباشرة إنما هي مع النص دون الكاتب، وهي قائمة على التلقي دون التفاعل والجدل، أي خلاف ما يجري في حالة الخطاب[3].
كذلك فإن الخطاب هو قول يتصف بسياقين: دلالي وظرفي، وهو من هذه الناحية يختلف عن النص الناجز الذي يختص بسياق واحد فقط هو السياق الدلالي، بإعتباره يتجرد من السياق الظرفي وإن دلّ عليه أحياناً. ومن هذه الناحية يكون الخطاب متضمناً للنص، وأن النص يشكل جزءاً من الخطاب. كما من هذه الناحية جاز للخطاب أن يتحول إلى نص من دون عكس. والخطاب ما أن ينتهي إلا ويفقد سياقه الظرفي، فوجوده ملازم لهذا السياق، وهو ما يهبه حيوية ودلالة أعظم من تلك التي للنص، فهو الأصل الحامل للحقيقة. لكن ما يعوّض النص عن هذا الضعف من الحيوية والدلالة هو إنفتاحه على التأويل أو (الهرمنوطيقا) بما لا يقارن مع الخطاب، وهو ما يفتح عليه باب ما يسمى «فائض المعنى». وبعبارة مجملة، يتميز الخطاب عن النص بشموليته وحمله لدلالة الحقيقة بضبط وإتقان، خلافاً للنص ذي البعد الضيق، لهذا إحتاج إلى دلالة التأويل والهرمنوطيقا.
يضاف إلى ذلك، أنه من حيث التكوين النفسي أو الذاتي فإن الخطاب هو أصل للنص وسابق عليه، لأن كل أثر مكتوب لا بد أن يكون نتاج قول أو كلام، وهو ما نعبّر عنه بلغة الأشاعرة بالكلام النفسي. فمن حيث التكوين الذاتي يكون الفكر سابقاً للكلام، والكلام سابقاً للنص، خلافاً لأدبيات ما بعد الحداثة كما تتمثل في إتجاه جاك دريدا. أو لنقل أن الفكر هو علة الخطاب، والخطاب علة النص أو الأثر المكتوب. ومن هذه الناحية فإن وصف الكتابات والموضوعات العلمية والأدبية والمذهبية بأنها (خطابات) هو وصف لائق ومبرر، كقولنا: الخطاب العلمي والأدبي والفلسفي والديني والإجتماعي والإقتصادي، أو قولنا: الخطاب الأشعري والمعتزلي والإسلامي والسني والشيعي، أو قولنا خطاب الصدر والقرضاوي وعلي شريعتي والجابري وحسن حنفي. وكذا أن وصف هذه الكتابات والموضوعات بأنها (مقالات) هو وصف صحيح إستناداً إلى مصدر (قول)، حيث الخطاب والمقال هما أثر ذاتي مباشر للفكر، فهما يحملان هذا الفكر المنضبط ومن ثم ينقلانه إلى الأثر المكتوب (النص) بهيئة ما نصفه من مذاهب وموضوعات مختلفة.
وعليه فنحن نسمي النص الديني بالخطاب لعدد من الإعتبارات، منها ما سبق أن عرفنا بأن الخطاب هو أصل النص وسابق عليه، سواء من الناحية الإنثروبية، أو من حيث التكوين النفسي. يضاف إلى أن النص الديني كوثيقة مدوّنة (المصحف القرآني مثلاً) مسبوق زمنياً بالخطاب الذي يُطلق على الكلام المشافه كما عرفنا. فأصل النص مستمد من الخطاب لا العكس. كما أن من هذه الإعتبارات هو أن الخطاب الديني باعتباره مشافهاً فإنه يشتمل على النص ويتضمن من المعاني الحقيقية ما يفتقر إليها الأثر المدوّن. إذ لا يتجرد الخطاب عن ملابساته الظرفية ومقتضياته الحالية تبعاً لتفاعله مع الواقع الذي تنزّل فيه، مما يجعله أقرب لحمل الحقيقة، خلافاً للأثر المدوّن الذي غاب عنه الواقع أو انتهى، وكل ذلك له انعكاساته السلبية على الفهم. فالفهم القائم على النص هو فهم ضعيف مقارنة بذلك القائم على الخطاب، وإن كان في القبال أن النص يتمتع بالإنفتاح على القرّاء والأجيال بلا حدود، حيث لم يعاصروا تلقياته وتجلياته المباشرة عبر الخطاب، وهو ما يرضي أصحاب النزعات التأويلية والرمزية، كما ويرضي أصحاب النزعات الأدبية وفن القراءة والتلقي والتفكيك. أما الذين يبحثون عن المعنى المطابق والقصد الموضوعي عبر اللغة وسياقاتها وقرائنها الداخلية والخارجية فإنهم يدركون بأن النص في هذه الحالة لا يفي بالمطلوب كما يفيه الخطاب، وبالتالي كان الأخير مفضلاً عندهم قياساً بالنص.
إذاً الخطاب هو الأصل، سواء من حيث السبق التاريخي، أو من حيث الإعتبارات الإنثروبية والتكوينية، وكذا بإعتبار المعنى الإبستيمي بحمله للحقيقة، أما النص فهو التابع والظل الذي ليس بمقدوره الكشف عن كافة تجليات الحقيقة التي يتمتع بها الأول.
5ـ الإنتاج والتوليد:
وهو كل ما ينتج من معرفة، سواء كان سابقاً لعملية الفهم أو بعدها، أي سواء كان معبّراً عن القبليات المعرفية الناتجة – مباشرة وغير مباشرة - عن المولّدات والموجهات، أو هو نتاج عملية الفهم ذاتها. مع الأخذ بعين الإعتبار تعذّر فصل التوليد الأخير عن تأثير القبليات المعرفية، كالأصول المولّدة وما ينتج عنها. وبالتالي ففي جميع الأحوال أن الإنتاج أو التوليد مدين في وجوده إلى القبليات المعرفية. فمثلاً إن القياسات الفقهية تتعلق بقضايا جديدة لا نص فيها، لكن نتائجها تعتمد على فهم النص مثلما تعتمد على بعض القبليات.
الجهاز المعرفي والأصل المولّد
تلك كانت عناصر الجهاز المعرفي، وتعد الثلاثة الأولى منها مرتكزات أساسية بعضها يتوقف على البعض الآخر ويستكمل به. فلولا المصدر المعرفي ما كان للمولّدات والموجهات أن تقوم بدورها من التوليد والفهم والإنتاج، ولا كان للأداة المنهجية أن تتكفل بتحديد النهج الذي تتم فيه عملية التوليد والاستكشاف. وكذا لولا الأداة المنهجية ما كان للمصدر المعرفي أن يكون مصدراً يُعتمد عليه في الفهم والتوليد، ولا كان للمولّدات أن تقوم بدورها كمولّدات لغيرها. كذلك فإنه لولا المولّدات والموجهات ما كان للفهم والتوليد أن يتم، فلا آلية معرفية ولا مصدر للتوليد. وفي جميع الأحوال لا تخلو أي ممارسة معرفية من أن تشترك في صنعها وتركيبها تلك المرتكزات الثلاثة، سواء عبّرت هذه الممارسة عن إستكشاف جديد للمعرفة، أو قامت بفهمها أو تفسيرها، أي سواء كانت توليدية أو توجيهية.
وبعبارة أخرى، هناك ترابط محكم بين تلك المرتكزات أو العناصر، فلما كانت الأداة عبارة عن منهج صوري، فستكون وظيفتها تحديد طريق الحركة ومنها الحركة الاستدلالية التي ينشط فيها التأسيس القبلي للتوليد والفهم، إعتماداً على المصدر المعرفي. فرغم أن الأداة قد تكون عقلية أو بيانية أو كشفية أو واقعية..الخ، إلا أن كونها صورية يجعلها غير قادرة على تحديد المضمون الحقيقي للإنتاج، ومن ثم الفهم، ما لم يتم ذلك عبر التأسيس المشار إليه كآصرة معرفية تربط بينهما، بإعتباره يحمل آثارهما معاً. فهو منهج ورؤية في الوقت نفسه، إعتماداً على المصدر المعرفي. فهو منهج تبعاً لقدرته العامة على التوليد والإنتاج الذاتي، وهو رؤية بإعتباره مفرزاً افرازاً معرفياً كقضية ما من القضايا التي يتضمنها المصدر المعرفي. ومع هذا فإننا لا نعدّه منطوياً ضمن لائحة الإنتاج المعرفي الخاص، لكونه أصل هذا الإنتاج وعلة نشوئه وتولّده. فهو أصل مولّد وفعّال يعمل كآصرة لربط الأداة المنهجية بالرؤية الخاصة للمعارف المنتجة. وهو بالتالي عبارة عن >دينامو< التفكير الذي يتحدد به الطابع النظامي الهندسي (الأكسيومي) للفهم والإنتاج، ويجعل من ذلك نسقاً بنيوياً يتعالى على الإعتبارات التاريخية والقراءات البرانية التي تعمل على تشتيت نسيجه الذاتي وأجزائه الداخلية، كما ويجعل من علاقة الكل بالأجزاء علاقة قائمة على أسبقية الكل على الأجزاء من دون عكس. وهو بذلك يقع موقع الروح والجوهر بالنسبة للجهاز، إذ لولاه لكان من غير الممكن توليد معرفة هندسية (أكسيومية) اشتقاقية، فضلاً عن أن طاقته التوليدية الكامنة لا تنضب ولا تقبل النفاد.
هكذا فبمعرفة الأصل المولّد يمكننا إدراك روح الجهاز وطبيعة ممارساته الاستدلالية وربما مضامينه الكامنة أو المستنتجة عنه، فغالباً ما يكون الاستدلال موجهاً بصورة صريحة أو خفية بإتجاه ما يتسق مع هذا الأصل. كما ويمكننا إدراك شروطه المعرفية، فهو لا يعرّفنا على طبيعة توليده اللزومي أو الإتساقي، بل ويعرفنا – أيضاً - على ما هو شرط معرفي لتأسيسه البنيوي. فمع أن الشرط لا يصح إستنتاجه منه لأنه يفضي إلى الدور، لكنه للمدرك الناظر يكون كالمستنتج تماماً. يضاف إلى أن بمعرفته نتمكن من إدراك روح النظام العام الذي ينتمي إليه الجهاز المعرفي.
وميزة الشروط المعرفية أنها تكون أساس تكوين المعرفة دون إنتاجها، خلافاً للأصول المولّدة. فمبدأ عدم التناقض – مثلاً - هو من شروط المعرفة الإخبارية التي بدونه تسقط المعرفة، لكنه ليس موضوعاً للتوليد المعرفي الإخباري. وتتجسد فائدة هذا المبدأ في جعل التعامل مع النص متسقاً لا يتضمن التناقض أو يستلزمه، سواء تعلّق الأمر بالفهم أو النص. فمن المفترض أن لا يسفر الفهم إلى مقالات متناقضة، وأن لا يعرّض النص إلى التناقض، مثلما لا يصح تعريض الواقع إلى التناقض أيضاً.
وعليه فهناك مسلمتان أوليتان حول شروط فهم النص أو الخطاب، كالتالي:
الأولى: وتشترط أن لا يكون الفهم متأسساً على التشكيك بحقية الخطاب الديني أو جعله متناقضاً. وهي أهم مسلمة ينبغي الارتكاز عليها أو مصادرتها. بل هي أولى مسلمات الفهم. فكل فهم يدعو إلى التشكيك في النص أو جعله متناقضاً هو فهم لا يعنينا، لأن طرحه يتجاوز حدود الدائرة الدينية أو الفكر الإسلامي. وبالتالي فالتعامل معه ينبغي أن يكون مختلفاً وخارج مجال إهتمامنا.
الثانية: وتشترط أن لا يكون الفهم متناقضاً مع ذاته ولا مع الأصل المولّد الذي إستند إليه، وكذا أن لا يكون متناقضاً مع الحقائق الأصلية للموضوعات المسلم بها، كالبديهات العقلية وحقائق النص الأصلية، ومثل ذلك الحقائق الواقعية.
ورغم أن الشروط المعرفية والمولّدات، وكذا الموجهات، تنتمي إلى القبليات، إلا أن وظائف بعضها يختلف عن البعض الاخر. فالشروط المعرفية هي شروط للعمل التوليدي والتوجيهي فحسب، في حين تقوم المولّدات والموجهات المعرفية بتحديد النظام الهندسي للتوليد.
وهناك نقطتان مهمتان تتعلقان بتحديدنا للجهاز المعرفي كما يلي:
إذ يتعين علينا أولاً، عند تحديدنا للجهاز المعرفي بالشكل الهندسي الآنف الذكر، أن نهمل القضايا المعرفية التي تتخذ صفة الحياد من الجهاز، وهي التي لا تظهر فيها علاقة واضحة مع الآصرة المعرفية المناطة بربط الأداة بالفهم والإنتاج، أي تلك التي أطلقنا عليها >الأصل المولّد<. فمن وجهة نظر >طريقية< قد يتخذ المذهب المعرفي أنواعاً متعددة من الأصول المولّدة الفعالة. وقد يبرز بعض منها على حساب البعض الآخر، فيصبح المذهب مميزاً به، بينما يجري الاهمال النسبي لسائر الأصول أو الأجهزة الأخرى التي لا تمتلك سلطة إبستيمية قوية في التحكم بالمصير المعرفي للمذهب. فإذا كان الجهاز المعرفي لا يتحدد بمذهب معين، فإن الاخير في المقابل لا يخضع بالضرورة تحت سلطة فردية من الجهاز المعرفي. وهذا ما يبرر دراسة الفكر الإسلامي بصورة تكون فيها المذاهب غير مستقلة عن بعضها البعض، بل يجري التعامل معها بحسب ما تحمله من قنوات وأجهزة معرفية مشتركة هي ميدان الصلة بين المذاهب من جانب، والتقسيم والتجزئة في المذهب الواحد من جانب آخر.
أما ثانياً فهو أن تحديدنا للجهاز المعرفي بالشكل الآنف الذكر يفرض علينا إعتبار القضايا غير المتسقة مع الأصل المولّد؛ قضايا «كاذبة» في المنظومة المعرفية. فإذا لم نتمكن من حملها على نحو >المجاز< الإبستيمي داخل الجهاز المعرفي، فستُحمل على التضاد مع روحه العامة، مما يجعلنا نعتبرها وليدة جهاز معرفي مضاد. وبالتالي فمن المفترض طبقاً لعلم الطريقة أن يقام كشف هو بمثابة >الإختبار الشاق< للمنظومات المعرفية، بتعريض الخزين الإبستيمي للفحص والمساءلة عما إذا كان واقعاً في ذلك الداء من وجود القضايا الكاذبة، أم لا؟ إذ تفضي هذه القضايا بالمنظومة إلى عدم الإتساق الذاتي، تبعاً للمنطق الهندسي (الأكسيومي) في النظام المعرفي.
هكذا لكي نتعرف على الجهاز المعرفي طبقاً لـ >علم الطريقة< لا بد من ملاحظة عدة أمور تساعد على الكشف المعرفي، منها ما يلي:
1ـ معرفة الأداة، حيث تتحدد بها طريقة الجهاز المعرفي كمنهج صوري عام. ومثل ذلك معرفة المصدر الذي يستقي منه الجهاز معارفه.
2ـ معرفة الأصل المولّد الفعال كتأسيس قبلي للنظر، حيث تتحدد به خصوصية المنهج في الإنتاج وكذلك فهم الخطاب، كما به يحصل إدراك الروح العامة للجهاز المعرفي.
3ـ تحديد الموضوع والحقل الأساس الذي يُخضعه الجهاز المعرفي للبحث والقراءة. فقد يكون عبارة عن نفس الخطاب الديني أو الوجود أو الواقع أو العقل..الخ.
4ـ ملاحظة درجة النظام الهندسي في الجهاز المعرفي، بإدراك حجم القوة التي تربط الأصل المولّد بقضايا الإنتاج والمعرفة، فبعضها مما يلزم عن هذا الأصل بالضرورة، وبعض آخر مما يتسق معه، كما قد تكون هناك معارف أخرى موظفة لغرض ما في الجهاز دون أن يكون لها علاقة توليدية بذلك الأصل. وعليه فكلما كانت هناك صلات محكمة وثيقة بين ثنايا المعرفة في الجهاز، لا سيما تلك التي لها علاقة بالأصل المولّد، كلما دلّ ذلك على قوة النظام الهندسي (الأكسيومي)، وكذا العكس بالعكس.
5ـ ملاحظة درجة الإتساق في المنظومات الإبستيمية للمذاهب الفكرية التي تتخللها الأجهزة المعرفية، عبر التفتيش عما إذا كانت تحمل قضايا كاذبة لا تتسق مع الأصول المولّدة التي تتبناها؟
6ـ التعرف على طريقة الاستدلال التي تتبعها المنظومات المعرفية ومدى تعبيرها عن العلاقة بالأصل المولّد.
7ـ التعرف على روح الحقل أو النظام الذي ينتمي إليه الجهاز المعرفي، فالأجهزة المعرفية التي عرفها تاريخ الفكر الإسلامي تنضوي تحت نظامين معرفيين، ينافس أحدهما الآخر. مما يستدعي معرفة روحهما والعلاقات التي تربط بعضهما بالبعض الآخر.
8ـ التعرف على الأغراض التي تجعل المنظومات المعرفية تؤسس وتوظف قضايا جهاز أو نظام آخر لا تنتمي إليه.
***
ومبدئياً لسنا نعوّل على الطرق المنطقية للإستدلال للتمييز بين النظم والأجهزة المعرفية، فغالباً ما تكون هذه الطرق صورية وليست مورداً للتمييز بدقة، وادعاء القطع والبرهان لدى بعضها لا يعني أنها قطعية وبرهانية حقاً، لكونها ليست محايدة، بل موجهة من قبل الأصول المولّدة. فالطريقة البرهانية في الاستدلال والوصول إلى النتائج القطعية قد تدعيها أحياناً حتى العلوم التي يكثر فيها الظن، كما هو الحال مع علم الفقه المتمثل بممارسات كل من إبن حزم الاندلسي والشريف المرتضى وإبن ادريس الحلي ومحمد أمين الاسترابادي وغيرهم، فكيف الحال مع علم الكلام الذي ينافس الفلسفة في ادعائه بكشف الحقائق، أو حتى استخدام طريقتها المنطقية للبرهان، كما فعل المتأخرون من أصحاب النظام المعياري؟! مما يعني أن هناك شروطاً موجهة غير محايدة تكمن خلف ما يُدعى من طرق برهانية؛ هي التي تضفي على السلوك المعرفي نهجه البرهاني. فالشروط المشار إليها هي مصادرات قبلية تحقق للجهاز المعرفي ما يطلبه من قطع وبرهان، وهو ينطبق على النظام الفلسفي (البرهاني)، إذ لولا ما يحمله من مصادرات قبلية خاصة لا يتفق عليها الجميع؛ لما تمكّن من الوصول إلى نتائج هي بمثابة المقطوع بها والمبرهن عليها مع أخذ إعتبار شروطها من المصادرات القبلية. وهذا الحال نفسه ينطبق على طريقة أهل الكلام، فهي أيضاً تُعدّ برهانية أو مفضية إلى القطع مع أخذ إعتبار شروطها من المصادرات القبلية، حتى مع إعتمادها على الاستدلال بقياس الغائب على الشاهد.
وعليه يمكن تقسيم اليقين الى قطع مشروط وآخر غير مشروط، فالاول يتوقف على افتراض مسلّم به لدى البعض، وهو يكتسب صفة القطع بافتراض ان المسلم به صحيح، ولو ثبت بطلان الاخير لانتفت القطعية منه، خلافاً للآخر الذي لا يتوقف التصديق به على اي افتراض، فإما ان يكون من البديهات والوجدانيات، او انه مستدل عليه بما لا يقبل الشك والجدل. ففي علم الطبيعة مثلاً ان للنظرية العلمية لوازم مشتقة عنها، وهي بالتالي قطعية نسبة لها، بمعنى انها تتصف بالقطع فيما لو كانت النظرية صحيحة، لكنها تكون غير قطعية عند ثبوت خطأ النظرية. وهو الحال الذي ينطبق على الفهم الديني. فمثلاً ان ما تقوله الاشاعرة حول جواز تكليف ما لا يطاق، وكذا نظريتها حول العدالة الالهية ولحسن والقبح وما الى ذلك، تعتبر كلها قطعية نسبة لمنطقها في (حق الملكية)، فلو كان هذا المنطق صحيحاً لكانت النتائج المترتبة عليه قطعية تماماً، والعكس بالعكس. وكذا يمكن تطبيق ذلك على الفكر الديني برمته، اذ له لوازم متعلقة بنظرية التكليف، فلا يصح التكليف الشرعي ما لم يكن أصل الدين صحيحاً.
لذا نقول ان طريقة البرهان تبقى صورية ليس بوسعها توليد مادة الدليل أو النتيجة، فمثلما يمكن إجراءها على علوم الطبيعة والميتافيزيقا بحسب الشروط الخاصة، يمكن إجراءها أيضاً على العلوم المعيارية كالفقه والكلام من دون إختلاف. هذا بالإضافة إلى ما أثبتته الدراسات الحديثة، بل والقديمة ايضاً، من أن طريقة البرهان الأرسطية الشائع إستخدامها قديماً هي محل إعتراض جذري؛ لكونها تفضي إلى المصادرة على المطلوب.
وعموماً يتضح بأن هذا المسلك من البحث له أهمية يفوق غيره من المسالك والطرق التي تتناول المضامين المفصلية للإنتاج المعرفي. إذ مهما كانت قيمة هذه المضامين فإنها تظل محصورة العدد من المعرفة، خلافاً للطريقة التي تعمل على توليدها، فكونها تحمل توليداً كامناً غير قابل للحصر أو الإنتهاء يجعل إدراكها ضامناً لإدراك الروح العامة للإنتاج، ناهيك عن إدراك الكثير من المضامين المعرفية التي تتسق معها أو تلزم عنها منطقياً. إضافة إلى أن البحث في علم الطريقة يتحاشى بطبعه السقوط في شبكة الحبال اللاهوتية من التفكير والتقييم، تبعاً لما يفرضه منطق البحث من التقيّد بدراسة آليات الفهم والإنتاج وما يقتضي ذلك من تأسيس قبلي للنظر.
[1] عن: محمد فتحي عبد الله: الجدل بين أرسطو وكنط، المؤسسة الجامعية لدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1415هـ ـ 1995م، ص172.
[2] [2] بول ريكور: من النص الى الفعل، ترجمة محمد برادة - حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، الطبعة الاولى، 2001م، ص106 و105.
[3] يلاحظ أن المعنى اللغوي للخطاب هو أقرب إلى معناه الإصطلاحي ودلالته المعنوية، خلافاً للمعنى اللغوي للنص؛ فهو بعيد عن معناه الإصطلاحي ودلالته المعنوية. فكما ذكر إبن منظور في (لسان العرب) أن معنى النص لغوياً هو رفع الشيء، فنص الحديث ينصّه نصاً هو بمعنى رفعه. كما ذكر بأن أصل النص هو بمعنى أَقصى الشيء وغايتُه، ثم سمي به ضربٌ من السير سريع. قال الأَزهري: النص أَصلُه منتهى الأَشياء ومَبْلغُ أَقْصاها، ومنه قيل: نصَصْتُ الرجلَ إِذا استقصيت مسأَلته عن الشيء حتى تستخرج كل ما عنده. وقال إبن الأعرابي بأن النص هو الإِسناد إِلى الرئيس الأَكبر، والنص هو التوقيف، كما أنه التعيين على شيء ما، ونص الأمر شدته. أما المعنى اللغوي للخطاب فهو مراجعة الكلام، وخاطبه بالكَلام مخاطبة وخِطاباً، وهما يتخاطبان. قال الليث: الخطبة مصدر الخطيب، وخَطَب الخاطِبُ على المنبر، واخْتَطَب يخْطُب خَطابةً، واسمُ الكلام: الخُطْبة (إبن منظور: لسان العرب، انظر مادة: نصص، ومادة: خطب، موقع الباحث العربي الإلكتروني http://www.baheth.info). وهذا هو المعنى الذي شهدت عليه آيات قرآنية عديدة، مثلما جاء في سورة (ص)، فكما قال الله تعالى: ((وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)) سورة ص \20، وقال: ((إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)) سورة ص \23.