يحيى محمد
من وجهة نظر الدكتور نصر حامد أبو زيد إن جوهر النص القرآني وحقيقته لا يتعدى كونه منتجاً ثقافياً؛ باعتباره لغة يحال عليها أن تكون مفارقة للثقافة والواقع، وقد تشكّلَ في ظرف يزيد على عشرين عاماً. ومع ذلك فإن هذا المفكر لا ينكر إلوهية مصدر النص القرآني، ويرى أن هذه الإلوهية لا تنفي واقعية محتواه، ومن ثم لا تنفي إنتماءه إلى ثقافة البشر. كما أن النص في هذه الحالة لا يعكس الثقافة والواقع عكساً آلياً، بل أنه يعيد بناء معطياتهما في نسق جديد. الأمر الذي يعني وجود علاقة جدلية بين النص والواقع أو الثقافة.
على ذلك اعتبر أبو زيد أن اختيار منهج التحليل اللغوي في فهم النص هو الوحيد الذي يلائم موضوع البحث ومادته، فإذا كان النص حاملاً للثقافة التي ظهر فيها دون أن يكون هناك ما يفارق الواقع؛ فلا بد حينئذ من أن يكون التحليل اللغوي هو الوحيد الذي يلبي – فعلاً - حاجة الفهم الخاصة بالنص. وهنا يصبح الأخير كاشفاً عن واقع الثقافة التي ظهر فيها، كما يكون هذا الواقع مساعداً على فهم النص. لهذا كان لا بد من البدء بدراسة ذلك الواقع، إذ لا يمكن فهم النص من غير البدء بدراسة طبيعة الواقع القائم بتشكيل النص، أي دراسة الأبنية الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية، كذلك دراسة المتلقي الأول للنص والمخاطبين به.
ومن تطبيقات هذا المنهج الإنعكاسي والانثروبي اعتبر أبو زيد أن ارتباط ظاهرتي الشعر والكهانة بالجن في العقل العربي، وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية الإتصال بين البشر والجن، هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها. وعلى رأيه انه لو تصورنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحي أمراً مستحيلاً من الوجهة الثقافية، فكيف كان يمكن للعربي أن يتقبل فكرة نزول ملَك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التصور جذور في تكوينه العقلي والفكري. وبالتالي فظاهرة الوحي أو القرآن كانت جزءاً من مفاهيم الثقافة العربية آنذاك، فالعربي كان يدرك أن الجني يخاطب الشاعر ويلهمه شعره، ويدرك أن العراف والكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجن، لذلك فإنه لا يستحيل عليه أن يصدّق بملك ينزل بكلام على بشر. وعليه نفى أبو زيد أن يكون للعرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراض على ظاهرة الوحي ذاتها، وإنما انصب الاعتراض إما على مضمون كلام الوحي أو على شخص الموحى إليه. ولذلك أيضاً يمكن أن نفهم حرص أهل مكة على رد النص الجديد – القرآن – إلى آفاق النصوص المألوفة في الثقافة سواء كانت شعراً أم كهانة[1].
ومع أن اللغة تستبطن الثقافة، وأن النص بالتالي هو تعبير عن هذه الثقافة، لكن قابلية اللغة للتعبير عن مراد التفكير يجعل لها القدرة على تجاوز متبنيات الثقافة ومضامينها القائمة، وبالتالي فبوسعها أن تطرح ما هو بديل، وبالأحرى أن لها دوراً مزدوجاً، فهي من جانب يستحيل عليها مفارقة الثقافة كلياً، لكنها من جانب ثان يمكنها طرح البديل الثقافي عبر صياغتها للمعاني والمفاهيم الجديدة، وهذا ما يخولها أن تكون أداة للعقل لطرح النظريات الجديدة. فهي بهذا العمل المزدوج تحمل عقلاً مكوَّناً ومكوِّناً، حسب تعبير (لالاند) عن الفكر والثقافة عموماً. فمن حيث تضمنها للثقافة المطروحة تكون حاملة للعقل المكوَّن، لكن حيث يمكنها تجاوز هذه الثقافة بتمرير ثقافة بديلة فانها تحمل العقل المكوِّن.
وطبقاً لهذا المعنى فإن التضييق الذي اتخذه أبو زيد في تعبير النص عن الثقافة ليس ضرورياً، بل يمكن القول أن النص يشهد على خلاف هذا الطرح، فليس من الصحيح القول بأن وجود الكاهن والشاعر هو ‹‹الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها››، ولولا ذلك لاستحال استيعاب ظاهرة الوحي من الوجهة الثقافية. فعلى الأقل أن هذا التقدير لا يتسق مع ما قرره أبو زيد - فيما بعد - من أن أهل مكة كانوا حريصين على رد النص الجديد – القرآن – إلى آفاق النصوص المألوفة في الثقافة سواء كانت شعراً أم كهانة، إذ على هذا الرأي كان الأولى لأهل مكة أن يتقبلوا النبوة أو النص الجديد اعتماداً على ما سبق من الشعر والكهانة، لا أنهم يرفضونه لهذا الإعتبار. وعموماً نعتقد بأنه يمكن تصور استيعاب ظاهرة النبوة حتى مع عدم وجود الكاهن والشاعر، طالما أن هناك نوعاً من الحاجة الإنسانية للإتصال بعالم الغيب. فالعقل البشري، سيما في الأزمان القديمة، يستقرب مثل هذا الإتصال للحاجة إلى تفسير الأشياء ورفع الغموض، أو للخوف والطمع، ولا علاقة لذلك بوجود أشكال من الإلهام، سيما إلهام الشعراء، فهو بعيد عن الإعتبار. وبالتالي فإن لظاهرة النبوة حاجة انسانية لا ثقافية.
ويؤيد هذا المعنى أن القرآن الكريم قد طرح تصورات العرب آنذاك على النقيض مما قاله أبو زيد، فالأخير يعتبر أن العربي كان يتقبل الوحي النبوي باعتباره قد ألِف الشعر والكهانة، في حين أن القرآن يؤكد على أن اعتراض العرب كان من هذه الناحية بالذات، فهم يعدّون ما جاء به محمد لا يختلف عن المجالات المألوفة، لذلك رفضوا ادعاء النبوة، كما يشير إليه قوله تعالى: ((فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))[2]، وقوله: ((وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ))[3]، وقوله: ((بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ))[4]، وقوله: ((وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ))[5]. أيضاً أنهم رفضوا النبوة لإعتقادهم بأنها ينبغي أن تكون خارج المألوف من المعجزات الكونية، على شاكلة ما كان للأنبياء من هذه المعاجز، إذ كان إعتراضهم على محمد بأنه شخص مألوف لا يختلف عن أي رجل منهم، وبالتالي فليس هناك طرح يفيد قبول دعوة النبي إستناداً إلى تقبّل فكرة الشعر والكهانة، وفي ذلك جاء قوله تعالى: ((وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً))[6]. فالإعتراض هنا قد جاء ليس على ظاهرة الوحي ذاتها ولا على المضمون الموحى به، ولا على شخص محمد، بل على الطبيعة النوعية للموحى إليه، بدلالة ما نقله القرآن من أن القوم كانوا يطلبون معجزة كونية تؤيد مدعي النبوة، أو يأتي معه ملَك يؤكد المدعى، وكل ذلك بعيد عن مسألة الشعر والكهانة، فهم يطلبون شيئاً جديداً غير مألوف له طابع غيبي كالمعجزة الكونية او الملَك، وكما ينقل القرآن: ((وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ))[7]، وينقل أيضاً: ((وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ))[8]، كما ينقل: ((وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً))[9]، ويقول: ((فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ))[10].
لذلك فالتلازم الثقافي بين الكهانة والشعر من جهة، وبين النبوة من جهة ثانية معدومة، إنما الأمر قد أخذ شكلاً مخالفاً ومعاكساً، اذ لا نجد شخصاً آمن بالنبي وهو يعول على ما كان مألوفاً من الشعر والكهانة، في حين نجد أن من اعترض على النبي يتمسك بدعوى الشعر والكهانة. وبعبارة أخرى، أن العلاقة التي صورها أبو زيد بين الشعر والكهانة من جهة، والنبوة من جهة ثانية، هي علاقة التزامية، لكننا نراها عكسية، فوجودهما كان داعياً للتكذيب لا التصديق، بشهادة ما نقله القرآن عن مزاعم العرب المعاصرين. وبالتالي فلولا وجود الشعر والكهانة لكان قبول النبوة أقرب إلى نفس العربي، لا العكس.
[1] انظر: نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص، نشر المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1990م، ص24ـ34.
[2] الطور\29ـ30.
[3] الحاقة\41ـ42.
[4] الأنبياء\5.
[5] الصافات\36.
[6] الفرقان\7ـ9.
[7] يونس\20.
[8] العنكبوت\50.
[9] الفرقان\21.
[10] هود\12.