يحيى محمد
رغم أن التشريع مصدره خطاب علوي متنزل من سماء التجرد والإطلاق إلى عالم الطبيعة والتجدد؛ إلا أنه مع ذلك لم يتعال على الواقع ولم يصادره ويسلب حقيقته المتغيرة. ولعلّ أول ما يلاحظ هو أن الخطاب الإلهي نزل منجماً في ظروف خاصة هي ظروف شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت. فمحدودية هذه الظروف لم تمنع الخطاب من أن يتنزّل بلغة وهيئة لا تخرج عن الطابع العام للمجتمع العربي البدوي، حتى أقرّ الكثير من الأعراف والعادات والأحكام والشعائر التي كانت تمارس آنذاك، وقام بتهذيب بعضها.
ومن بين هذه الأحكام والشعائر كما ذكرتها المصادر الإسلامية ـ وبغض النظر عما يمكن أن يناقش في بعضها ـ: شعيرة الحج والعمرة وكسوة الكعبة، وتحريم القتال في الأشهر الحرم، وغسل الجنابة، وغسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم، والمداومة على طهارات الفطرة العشر1، وقطع يد السارق، واشتراط الكفاءة بالخطوبة أو الزواج2، والطلاق والظهار3، وصوم عاشوراء قبل أن يفرض صـيام شـهر رمـضان4، والإجتماع يـوم العـروبة - الجـمعة - للـوعظ والتـذكير، والـدية5، والقراض أو المضاربة6، والـعاقلـة7، والـقسامة8، والـقـصاص، والـشـورى، والـحـدود الخاصة بالزنا وشرب الخمر، وتحريم لحم الخنزير9، والعديد من العقود العقلائية. يضاف إلى بعض الأنظمة التي هذبها الإسلام بشيء من التغيير؛ مثل نظام الخمس في الغنائم بعد ما كان نظام التربيع فيها10. فضلاً عما استبقاه الإسلام من بعض الأنظمة التي كانت مألوفة لدى المجتمعات العالمية آنذاك، مثل نظام الرق والجزية التي كانت مقررة لدى بني اسرائيل واليونان والرومان والبيزنطيين والفرس11.
كما جاء في بعض أشعار الجاهلية أن صلوات النصارى وتعبدهم كانت سجداً وقياماَ، وهم الرهبان والناسكون الذين اعتكفوا في الصوامع والبيع والأديرة النائية ليعبدوا الله تعالى، ومنهم من خلّف في جبهته أثراً للسجود. وقد أطلقوا على هذه العبادة اسم (الصلاة)، وهي من الألفاظ التي أخذها أولئك النصارى من (بني إرم). وعُرفت المواضع التي كانوا يسجدون فيها بالمساجد. وكان الركوع من العادات المعروفة عند الأحناف والنصارى، وسمى عرب الجاهلية الحنيف راكعاً إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله. وتلحق بالصلاة التسابيح، أي ذكر الله وتقديس اسمه، وكان من عادة الرهبان التسبيح بعد الصلاة، ولا سيما في الضحى والعشي12.
إن هذا العرض الخاطف لما استبقاه الإسلام من أحكام وأعراف يثير في نفوسنا تساؤلاً عن معرفة طبيعة العقلية العربية التي خصّها الخطاب الإلهي وجعلها موضع المخاطب المعني. فهل هي عقلية بدوية أم متحضّرة؟
لقد كان من المسلمات التي ثبّتها إبن خلدون في تعليله لعلة تأخر العرب عن العجم هو أن عرب الجاهلية كانوا (بدواً) لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين بإعتبار أن العلوم من جملة الصنائع التي هي منتحل الحضر13. فمن المسلّم به أن العلماء في مختلف المعارف كانوا من الموالي باستثناء القليل، وهو ما يوضحه القول المشهور عن عبد الملك بن مروان، إذ يقارن بين العرب والفرس قائلاً: ‹‹ما رأيت كهذا الحي من الفرس، ملكوا من أول الدهر فلم يحتاجوا الينا، وملكناهم فما إستغنينا عنهم ساعة››14. وهذا ما يوحي بأن العرب لا يملكون العقلية الحضارية التي تمتاز بالإنتاج والإبداع، بخلاف غيرهم من الموالي.
وفي الوقت الحاضر انقسم المفكرون بين مردد لوجهة النظر التي ثبّتها إبن خلدون، وبين معترض عليها. وقد اعتبر المعترضون بأن العرب كانوا في قمة التحضر والمدنية، واستشهدوا على ذلك بآيات التحدي القرآنية، إذ تتضمن الإيحاء بأن العرب يملكون عقلاً رشيداً يصح معه التحدي ذاته، كما استشهدوا أيضاً بالأعراف والأحكام الشرعية السائدة في ذلك الوقت والتي أقرها الإسلام وما زال بعضها حياً حتى يومنا هذا.
والواقع أن كلا الموقفين صادق بدلالة القرآن الكريم، فهو يفرق بين الأعراب وغيرهم، أي بين البدو والحضر، وهو ما يجعل من العرب آنذاك منقسمين على ذاتهم بين عقليتين؛ عقلية بدوية تمتاز بالجهل والعصبية، وعقلية حضرية حُليتها المعرفة والرشد، لكن لا يعني ذلك أن بينهما حدوداً قاطعة.
وما يعنينا فعلاً هو مدار الإهتمام الذي أولاه الخطاب الإلهي للعرب، فهل كان جلّ إهتمامه وعنايته منصباً على العقلية البدوية ذات الجهل والعصبية، أم أنه إنصبّ على العقلية الحضرية المتنورة؟
لعل من الواضح أن قطب الرحى من عناية الخطاب إنما هو هذه الأخيرة، لا الأولى التي ظلت هامشية لما تمثله من جنبة مريضة داخل جسد المجتمع العربي آنذاك.
***
من جانب آخر، إن ما سبق من عرض خاطف لما استصحبه الإسلام من أحكام وأعراف سابقة، مع ما يلاحظ من الطريقة الخاصة للخطاب في العمل على تغيير الأحكام، سواء بالتدرج أو النسأ أو النسخ أو غيرها، كل ذلك يؤكد حقيقة عدم تعالي الخطاب عن الواقع الذي نزل فيه، وهو واقع المجتمع العربي وظروفه الخاصة المحددة بأُطر الزمان والمكان. فمع أن للخطاب علامات ومؤشرات عديدة تؤكد أنه جاء للناس كافة، وأن فيه حقائق علمية مذهلة ظلت خافية حتى انكشف أمرها في العصر الحديث، وأنه يحمل رسالة عظمى فيها من الهدى والأحكام الشمولية والمقاصد الكلية ما يجعله مناسباً لكل زمان ومكان.. إلا أنه رغم كل هذا لم يسلك طريق التحرر من ظروف هذا الواقع، كما لم يكبّل نفسه بقيود مطبقة فيه، بل سعى لإقامة الجدل بين هذا وذاك.
وتأييداً لهذا المعنى اعتبر الشاطبي الشريعة الإسلامية ‹‹أمية لم تخرج عما ألفته العرب›› لكونهم أميين أيضاً، وذلك جرياً للمصلحة، مستدلاً عليه بنصوص اعتبرها متواترة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى: ((هو الذي بعث في الأُميين رسولاً منهم))15، وقوله: ((فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي الذي يؤمن بالله وكلماته))16، وفي الحديث جاء قول النبي (ص): (بُعثت إلى أمة أُمية)، مؤكداً بأن العرب لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين ناكراً ما أقدم عليه الكثير من الناس في إضافة علوم المتقدمين والمتأخرين إلى القرآن؛ كعلوم الطبيعيات والرياضيات والمنطق وعلم الحروف وما إليها. لكن رغم ذلك فالشاطبي لا ينفي المعرفة الخاصة بالعرب بما يجعلهم متحضرين بكل من الحكمة والوعظ والجدل، كما أنه لا ينفي شمولية الشريعة وقابليتها للإمتداد؛ متخطية بذلك الظروف الجغرافية الخاصة والزمان17. وقد أيّد العالم الهندي الشاه ولي الله دهلوي ما ذهب إليه الشاطبي، فأقرّ بأن طريقة الأنبياء لا تعمل على تطبيق الأحكام والشريعة إلا من خلال أخذ إعتبارات الظروف والعادات التي عليها الأمة المختارة للتطبيق، إذ لا يمكن تطبيق ذلك من دون أخذ إعتبار تلك الظروف، كما لا يمكن ترك شعوب هذه الأمم تصنع لنفسها قواعدها الخاصة للسلوك18. وهو المعنى الذي ذهب إليه الكثير من العلماء؛ كإبن خلدون الذي اعتبر ‹‹القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه، وكان ينزل جملاً جملاً وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع››19.
بالفعل إن الخطاب لم يقصد في الإفهام - في بيانه المباشر - غير ذلك المجتمع الذي تنزّل فيه، بكل ما يحمل من مقومات وملابسات حضارية خاصة؛ غالباً ما لا تشترك فيها سائر المجتمعات، سواء تلك التي سادت عصر الخطاب ذاته، أو تلك التي تبعته حتى يومنا الحالي. لهذا اعتقد المتأخرون من الأصوليين أن الخطاب موجّه - أساساً - لإفهام الحاضرين لا الغائبين والمعدومين، طالما كان تنزيله تنزيلاً مشافهاً. فأحكام الكتاب هي نصوص مشافهة تخص الموجودين؛ نحو: ((يا أيها الناس)).. ((يا أيها الذين آمنوا))... الخ. فالعموم الوارد في هذه النصوص لا يشمل بصيغته المتأخرين عن زمن الخطاب، كما هو رأي الإمامية الإثنى عشرية وأكثر أهل السنة، إنما تلقى الحجة على الباقين الغائبين بنصب الدلائل والأمارات فيعرف أن حكمهم هو حكم الذين شافههم الرسول، بدليل الإجماع والضرورة في اشتراك التكليف بين الكل20، أو بإعتبار العرف والعادة بأن الكل مشمول في الحكم21.
هكذا إذا اعتبرنا أن مهمة الخطاب الأساسية هي إفهام الحاضرين؛ فلا بد من الأخذ بعين الإعتبار - أيضاً – ما تقتضيه هذه المهمة من مراعاة الخطاب لملابسات الظروف والأحوال المحيطة بهم، حيث لا يمكن إنشاء الفعل الخاص بالإفهام من غير أخذ تلك الخصوصية من الملابسات الظرفية بعين الإعتبار. وبالتالي فلو كان الخطاب عالقاً بواقع آخر مختلف؛ لتوقعنا بأنه سيحاكي ما يناسب هذا الواقع، ولكانت هناك أحكام تختلف تماماً عن هذه الأحكام التي ألفناها والتي هي نتاج البيئة العربية في ذلك الوقت. وكل ذلك يدل على أن المجتمعات الأخرى معنية بالغرض الديني أكثر مما تُعنى بالنص الديني وأحكامه المعهودة. فالغرض الديني ثابت لا يتغير، وهو على الدوام يعبّر عن ضرورة الإيمان بالله – واليوم الآخر – مع العمل الصالح. فهذا هو مجمل ما تضمّنه القرآن الكريم وأغلب ما دلت عليه آياته الكريمة بالحث والتأكيد. وعليه فلو كان الدين لا يحمل غير هذا المعنى من الإيمان والعمل الصالح لأوفى بالغرض دون نقصان، كالذي عليه الديانة النصرانية. في حين لو أنه حمل ما حمل من الأحكام الشرعية والعلوم المختلفة الغنية دون الغرض المذكور لكان ناقصاً من دون وفاء. وقد يفسّر هذا الأمر عدم إهتمام المشرِّع بجمع القرآن الكريم وضبطه، أو حفظه كما هو من دون نقص، طالما أن المهمة الملقاة على عاتقه - من الغرض الديني - قد تم تأديتها تماماً. لهذا فمن وجهة النظر الدينية أن موت النبي أو قتله قبل إتمام تنزيل القرآن وإنهاء التشريع لا يضر بالغرض المؤدى، كما يدل على ذلك ما جاء من عتاب الله تعالى لصحابة النبي على خلفية غزوة أحد: ((وما محمد إلا رسول قد خلتْ من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرَّ اللهَ شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)) 22.
وبعبارة أخرى يمثل الغرض الديني رسالة السماء الخالدة لكل الأديان، وهو مقدّم على النص مثلما هو مقدّم على التشريع، فلا يمكن إنتقاص هذه الرسالة عقلاً وشرعاً، في حين ليس الأمر كذلك مع النص والتشريع، مثلما دلّت عليه الآية السابقة. وبدلالة أن الأحكام غير قابلة للحصر لعدم تناهي الوقائع، ومثل ذلك فإن المعطيات الواردة حول ملابسات جمع القرآن تفيد بأنه لم يتم تشكيله وجمعه بالتمام والكمال كما هو. ناهيك عن الحديث الذي لم يلقَ إهتماماً لتدوينه من قبل المشرِّع ذاته، وما وردنا من الأحاديث فأقل ما يقال فيها أنها ليست جامعة ولا مانعة23.
ونشير إلى أنه في حالات كثيرة نجد النصوص الحرفية للخطاب الديني تبدو كأنها نظام مغلق من المعنى تضيق بأن يمتد إليها أي جديد معرفي، أو يجعلها مخصوصة وعالقة بالظروف الملابسة لعصر النص، فيتصورها المتصور ـ كما هو واضح لدى الطريقة التقليدية للنظام المعياري ـ أنها بحدودها الحرفية تنطبق وتحيط بكافة المجتمعات والأطوار الحضارية على مدى التاريخ (كالشمس أينما تذهب تجدها أمامك)، وهو أمر لم يقصده الخطاب، بل لا يمكن أن يفعل ذلك أبداً بإعتباره يتضارب مع حقيقة الواقع المتغير.
رغم ذلك نعتقد أننا لو كنّا نعيش في ذلك الطور الحضاري كما عاصرته الطريقة التقليدية للنظام المعياري لكان من المتوقع أن لا نفهم من الخطاب أو نصوصه الحرفية إلا هذا النظام المغلق، لكنّ دخولنا في عصر حضاري آخر يختلف عن ذلك الطور من الحضارة أحالنا إلى فهم جديد لمتعلق الخطاب، فالتغيرات الجذرية في الواقع الحديث وصدامها مع الفهم التقليدي قد اضطرنا إلى إعادة النظر في هذا الفهم. فهناك حالة فهم متباين بين العهدين الحديث والقديم، الحديث وهو ما زال في طور التشكل البدائي، والقديم وهو بكامل ثقله وتمامه، وما زالت سلطته تتحكم في عقولنا طولاً وعرضاً حتى يومنا هذا. أو قل إن تباين الفهم يتجسّد بالإختلاف الحاصل؛ بين ما يعمل الواقع على إبرازه من حقائق، وبين ما يبديه الخطاب من مظاهر حرفية إطلاقية أوهمت رجال الطريقة التقليدية فجعلتهم يتحركون ضمن دائرة الإغلاق. وهو تباين يكشف عن تنافس وجدل عالمين كلاهما لا يخرجان عن المشيئة الإلهية، أحدهما ما يطلق عليه الكتاب التكويني المعبّر عنه بخلق الله وسننه الكونية، والآخر ما يسمى بالكتاب التدويني المعبّر عنه بأمر الله وحكمه. وإذا كانت الطريقة التقليدية للنظام المعياري تستند - أساساً - إلى عالم التدوين والأمر لتفسّر من خلاله عالم التكوين والخلق، طبقاً لمقولة: ‹‹إنما أُمرنا أن نأخذ العلم من فوق››24؛ فإن المنهج الجديد الذي ما زال في طور التشكل والبناء يسير سيراً معاكساً، حيث يجعل من كتاب الله التكويني أساساً للتفسير. مع ما لكل منهما من تأثر وتأثير، في التغيير والتفسير، وهو ما نعنيه بالجدل بين الكتابين.
***
من المفيد أن نأتي بعدد من الشواهد التي تبدي تأثير الواقع على تغيير فهم النصوص، سواء على صعيد الإعتقاد أو الأحكام، ليتبين لنا حجم الفارق بين فهمنا المعاصر والفهم القديم، وهو فارق يمكن أن يعكس التنافس والتضاد بين منهجين؛ أحدهما يستند إلى الواقع، والآخر إلى بيان النص وحرفيته، كالحال مع الطريقة التقليدية التي تشبثت بمسلك التبرير كلما تراءى أمامها أثر من آثار عجز الفهم الحرفي عن مطابقة الواقع أو الموافقة معه. وهو تراجع يعبّر عما منيت به هذه الطريقة من فشل وإنكسار.
وسنبدأ بالشواهد من القرآن الكريم على صعيد الإعتقاد أولاً، ثم على صعيد الأحكام، وبعدها نأتي بشواهد أخرى من الحديث، وذلك وفقاً للفقرات التالية:
أولاً:
على صعيد الإعتقاد نقرأ قوله تعالى: ((وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون))25، وقوله: ((إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظاً من كل شيطان مارد))26، وكذا قوله: ((ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين))27. فحول هذه الآيات نرى من الطبيعي أن تحصر الطريقة التقليدية - للمنهج البياني - رؤيتها في الدلالات اللفظية الظاهرة لتضفي عليها بعداً ‹‹منطقياً›› مغلقاً من الإطلاق على صعيد الواقع، كما هو ظاهر من النص، وتتصور أن الغاية من خلق النجوم لا تعدو كونها لهداية المسافر في طرق البر والبحر، وللزينة، وللحفظ ورجم الشياطين، دون أن يخطر ببالها حالة ما إذا كان السفر جواً، ودون أن يختلج في نفسها إمكانية الإستغناء عن استخدام النجم للهداية. كل ذلك يصعب أن يرد في ذهنية لم ينكشف لها أسرار وتطورات الواقع التكويني كما انكشف لها مفاهيم الكتاب التدويني. وهي لذلك لا تسمح بوجود تصور مضاف إلى ما ورد وحُدّد في النص؛ بتبرير ينساب من النص ذاته بعد إضفاء الطابع المنطقي الإطلاقي عليه. فهي تشعر - مثلاً - أنه لو جاز الإستغناء عن استخدام النجم للهداية؛ لكان يعني أن من الممكن أن يصبح النجم معطلاً عن الغاية التي ذكرها القرآن الكريم كصيغة من صيغ الإطلاق، وهو أمر لا تحتمله أبداً. وكذا هو الحال فيما يتعلق بصيغ الإطلاق الخاصة بخلق النجوم، فهي أيضاً لا تسمح عادة بإضافة أي شيء من الغايات يتجاوز ما ذكره النص بالإطلاق والحصر والإغلاق. لهذا كان بعض السلف لا يجيز القول بوجود فائدة أخرى تتعدى ما هو مذكور من فوائد، فكما نقل المفسرون أن قتادة كان يقول: ‹‹من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه. إن الله جعلها زينة للسماء ورجوماً للشياطين ويُهتدى بها في ظلمات البر والبحر››28.
ويبدو أن لغة القائل كانت تستهدف الرد على الفلاسفة الذين جعلوا للنجم شأناً عظيماً في الوجود غير ما ذكره القرآن الكريم. وعلى هذه الشاكلة ذكر الشوكاني - رغم أنه من علماء القرن الثالث عشر الهجري - بأن ‹‹من زعم غير هذه الفوائد فقد أعظم على الله الفرية››29.
لكن حديثاً أخذت هذه الآراء آيلة إلى الزوال، وأصبح التعامل مع الآيات السابقة قائماً على التأويل، كالذي فعله الطباطبائي في (الميزان)30، وناصر مكارم الشيرازي في (الأمثل)31، وغيرهما.
وعلينا الإعتراف بأنه إذا كان إضفاء ‹‹المنطق الإطلاقي المغلق›› على النص السابق وغيره من النصوص هو الحالة السائدة في الفكر الإسلامي المعياري؛ فذلك لم يمنع البعض من أن يشق عصا هذه السيادة ويفكر خارج حدود النص؛ بالإرتماء في الواقع والتفكر في خلق الرحمن، لا سيما عندما ينتمي إلى الدائرة العقلية في الفهم والتفكير. فعلى ما نقله الشيخ أبو جعفر الطوسي أن البلخي كان يقول حول النجوم في الآيات السابقة: ‹‹.. بل يشهد أنه ـ تعالى ـ خلقها لأمور جليلة عظيمة. ومن فكّر في صغر الصغير منها وكبر الكبير، وإختلاف مواقعها ومجاريها وسيرها، وظهور منافع الشمس والقمر في نشوء الحيوان والنبات علِمَ أن الأمر كذلك، ولو لم يخلقها إلا للإهتداء لما كان لخلقها صغاراً وكباراً ولا إختلاف سيرها معنى››، مسنداً دقيق نظره هذا إلى الإيحاء المشار إليه في تمام آية الإهتداء ‹‹قد فصلنا الآيات لقومٍ يعلمون››32. وقد أصبح من المعروف اليوم أنه لولا النجوم لما ظهرت الحياة اطلاقاً باعتبارها المصنع الذي تتصنع فيها العناصر الكيميائية، ومنها عنصر الكاربون الضروري للحياة.
ثانياً:
كذلك نقرأ قوله تعالى: ((إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير))33. فالآية بحسب فهم الطريقة التقليدية تتضمن خمسة علوم استأثر بها الباري تعالى على العباد، حتى نُقل عن إبن عباس أنه كان يقول: ‹‹هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن ادعى أنه يعلم شيئاً من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه››34. كما روى البخاري وغيره بهذا الصدد بأن النبي (ص) فسّر مفاتح الغيب الوارد ذكرها في قوله تعالى: ((وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو))35؛ بأنها عبارة عن العلوم الخمسة المشار إليها36.
ويهمنا من الآية علم ما في الأرحام المدعى أنه من ضمن العلوم المستأثر بها على العباد، حيث أصبحت معرفة حالة الجنين وتمييزه إن كان ذكراً أو أُنثى من الحقائق العلمية المؤكدة، وذلك عبر عدد من الطرق والإختبارات؛ مثل التصوير الداخلي، والكشف عن عناصر الحامض النووي حول الجنين وهو في مراحله الأولى. لكن بحسب الطريقة التقليدية يكون هذا العلم من العلوم المستأثرة وفقاً لنص الآية أو مما ورد حولها من الأحاديث، إذ جاء في بعضها أن من ضمن ما لا يعلمه إلا الله تشخيص الذكورة والانوثة37. وجاء عن سبب نزول الآية أنه أتى النبي (ص) رجل فقال: أن إمرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت، وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ماذا أعمل غداً، وأخبرني متى تقوم الساعة، فأنزل الله الآية38. وروي مثل هذا المعنى عن أئمة أهل البيت (ع)، إذ ورد أن تلك الأشياء لا يعلمها على التفصيل والتحقيق غيره تعالى39. لذلك جاء عن بعض السلف، كما هو الحال مع قتادة، قوله: ‹‹.. فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أُنثى، أحمر أو أسود، أو ما هو؟..››40.
مع ذلك فسّر الماوردي (المتوفى سنة 450هـ) علم ما في الأرحام بأن فيه وجهين: الأول من ذكر وأُنثى، سليم وسقيم. والثاني من مؤمن وكافر وشقي وسعيد41.
لكن أغلب العلماء ذهبوا إلى أن معرفة نوع الجنين هو من ضمن العلوم المستأثرة، وكما قال أبو بكر بن العربي: ‹‹مقامات الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله لا أمارة عليها، ولا علامة عليها؛ إلا ما أخبر به الصادق المجتبى لاطلاع الغيب من أمارات الساعة، والأربعة سواها لا أمارة عليها، فكل من قال أنه ينزل الغيث غداً فهو كافر، أخبر عنه بأمارات ادّعاها، أو بقول مطلق. ومن قال أنه يعلم ما في الرحم فهو كافر. فأما الأمارة على هذا فتختلف، فمنها كفر، ومنها تجربة، والتجربة منها أن يقول الطبيب: إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإذا كان ذلك في الثدي الأيسر فهو أُنثى. وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فهو ذكر، وإن وجدت الجنب الأشأم أثقل فالولد أُنثى. فمن ادعى ذلك عادة لا واجباً في الخلقة لم نكفّره، ولم نفسّقه››42.
كما نقل القرطبي قول العلماء بأن ‹‹من قال أنه ينزل الغيث غداً وجزم فهو كافر أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: أنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم.. لم يكفر››43. وبيّن في محل آخر إمكانية العلم ولكن ليس على نحو الجزم والتأكيد، فقال: ‹‹ثم أن الأنبياء يعلمون كثيراً من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقى بالأنواء، وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وانوثته إلى غير ذلك... وقد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده››44.
بل حتى في العصر الحديث وقبل تبيّن التطبيقات الأخيرة لعلم الأجنة؛ استصحب البعض الإعتقاد التقليدي بالإستئثار، بل وتحدى أن تكون هناك قدرة للعلماء في معرفة شكل الجنين ونوعه، كما هو الحال مع الاستاذ محمد عبد الله دراز (المتوفى سنة 1958م) إذ قال: ‹‹مهما نجحوا في اكتشاف أشعة أكس سيظل العلماء عاجزين عن الكشف عن يقين عن شكل الجنين ولونه ونوعه وهو داخل رحم أمه. ومهما أُقيم من محطات الإرصاد الجوية فإن التنبؤات ستظل إحتمالية...››45. وقبله علّق السيد محمد رشيد رضا على قوله تعالى: ((الله يعلم ما تحمل كل أُنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال))46، فاعتقد أن الله وحده الذي يعلم حمل كل أُنثى أذكر هو أم أُنثى، وما تغيض الأرحام من نقص الحمل أو فساده بعد العلوق، وما تزداد من الحمل كالحمل بالتوأمين أو أكثر47. وكل ذلك أصبح اليوم مما يمكن تشخيصه ومعرفته بدقة في الغالب.
وعلى هذه الشاكلة نرى العلامة الطباطبائي يكاد يسير على نفس النهج التقليدي وإن خفف الأمر بتشطير التفسير للآية على درجات، فاعتبر الله تعالى عد أموراً ثلاثة هي:
1ـ ما تعلق به علم الله، وهو العلم بالساعة الذي استأثره لنفسه لا يعلمه إلا هو، بدلالة القصر في قوله تعالى: ((ان الله عنده علم الساعة)).
2ـ ما اختص به تعالى ما لم يُعلمه غيره، وهما تنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام.
3ـ وهناك أمران آخران يجهل بهما الإنسان: ((ولا تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت..))48.
مهما يكن فنحن نعلم اليوم أنه مع ظهور الحقيقة العلمية فإن الفهم التقليدي للآية قد فقد مبرراته. فمن جانب ليس للآية دلالة صريحة على الإستئثار، أما الروايات الواردة حولها فلا يمكن التعويل عليها لمخالفتها للواقع العلمي.
ويرتكب الفهم البياني خطأً عند مسارعته للإنكار والتكفير والتخطئة الدوغمائية لكل افتراض يقابل مسلماته الإجتهادية والنقلية رغم أنها لم تصل إلى حد القطع واليقين، فأقل ما يقال فيها إنها قائمة على الرواية، والرواية فيها ما فيها، كما بيّنّا ذلك في (مشكلة الحديث). وبلا شك إن أقل خسارة يمنى بها هذا الفهم هو أنه يخسر ثقة الناس عند كل فشل يرتكبه بفعل ممارساته المضادة لحقائق الواقع ومصالحه العامة، لكن حيث ان أغلب الناس لا يميزون بين الفهم المشار إليه وبين الإسلام كدين؛ لذا يصبح الأخير هو من يتحمل تلك الجريرة المؤسفة.
وقد يكون هذا السلوك على عكس السلوك الذي أشار إليه برتراند رسل من أن الإفتقار إلى المنطق لدى المدافعين عن التقدم خلال القرن التاسع عشر قد سهّل من تقدم العلم كثيراً، إذ مكّنهم من التعوّد على التغيّر قبل أن يتعين عليهم قبول التغيرات الأخرى التالية، فعندما تظهر كل النتائج المنطقية المترتبة على أي تجديد فإن هذا قمين بأن يصدم العادات صدمة كبيرة فتجعل الناس يرفضون التجديد في مجمله49. فكذلك أن ما يحتاجه الفهم التقليدي هو التخفيف من صنعته ‹‹الممنطقة›› لأنها ليست معصومة، وكذا التخفيف من دوغمائياته، وذلك إذا ما أراد أن يجنّب الناس من الإصابة بالصدمة مع كل جديد يهزّ هذا الفهم، والذي بدوره يجرّ إلى عدم الثقة بالإسلام كدين.
ثالثاً:
إن الشواهد التي ذكرناها سابقاً كانت على صعيد الإعتقاد. أما على صعيد الأحكام فنجد أيضاً الكثير من القضايا الإسلامية التي تجدد فهمها بفضل ضغوط الواقع وتطوراته. ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل..))50. فغالباً ما كان الفهم لا يتعدى حدود إمكانات الظرف الحضاري السائد وقيوده، لا سيما عند لحاظ العناية التي أبداها الخطاب إزاء عقلية المجتمع الملابسة لذلك الظرف. فالمذكور بحسب الطريقة التقليدية للإجتهاد أن هناك خمسة أقوال لمعنى القوة في الآية، وهي كالتالي:
1ـ إن القوة هي ذكور الخيل، ورباط الخيل اناثها، وهو قول عكرمة.
2ـ القوة هي السلاح، قاله الكلبي.
3ـ القوة هي التصافي واتفاق الكلمة.
4ـ القوة هي الثقة بالله والرغبة إليه.
5ـ القوة هي الرمي51.
على أن المعنى الأخير هو الذي غلب على غيره من المعاني استناداً إلى بعض الأحاديث، إذ رُوي عن النبي (ص) بأسانيد متعددة أنه قال: ‹‹.. ألا أن القوة الرمي، ألا أن القوة الرمي، ألا أن القوة الرمي››، وذكر عكرمة بأن النبي أراد بذلك الحصون. كما روي عنه (ص) أنه فضّل الرمي على ركوب الخيل. لذا ذهب أكثر العلماء، إتساقاً مع النص، إلى أن الأول أفضل من الآخر، بينما ذهب القليل منهم إلى العكس، كما هو الحال مع الإمام مالك52.
ورأى الطبري أن معنى الآية هو التقوي بكل ما يعد من الآلات التي تشكل قوة، من السلاح والخيل53، كما جاء عن الشيخ أبي جعفر الطوسي (المتوفى سنة 460هـ) أنه فسّر القوة في الآية بكل ما يتقوى به على العدو54. ومثل ذلك ما جاء عن الفخر الرازي؛ ناسباً الرأي إلى أصحاب المعاني، وهو أن القوة عامة في كل ما يتقوى به على حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد، لكنه عاد فاعتبر في الوقت ذاته أن المقصود بآية ((ومن رباط الخيل)) هو الخيل المربوطة في سبيل الله التي من جملة ما أُمرنا باعدادها55. بل جاء عن بعض الصحابة وعلماء السلف ما هو قريب عن مثل هذه المعاني، أو على الأقل أنه لا يخلو من تعميم نسبي لفهم القوة، دون الإقتصار على الرمي أو ما شاكله. فقد ورد عن إبن عباس أن القوة بمعنى الرمي والسيوف والسلاح. كما ورد عن الأوزاعي أنها تعني السهم فما فوقه. وعن سعيد بن المسيب أن القوة هي الفرس إلى السهم فما دونه. وعن مقاتل بن حيان أنها السلاح وما سواه من قوة الجهاد. وعن مجاهد، رغم ما ذُكر عنه القول بأن القوة هي ذكور الخيل؛ فانه نُقل عنه أيضاً قوله لرجل لقيه وهو يتجهز إلى الغزو ومعه جوالق: وهذا من القوة56.
وفهم السيوطي من مثل هذه الأقوال العائدة للصحابة والتابعين وعلماء السلف، أن المقصود بالقوة أعم من الرمي وغيره، ورأى أنه ليس المراد من الحديث الصحيح ‹‹ألا أن القوة الرمي›› حصر مدلول الآية في الرمي، بل ‹‹المراد أنه معظم القوة وأعظم أنواعها تأثيراً ونفعاً؛ على حد قول النبي (ص): (الحج عرفة)، أي معظم أعمال الحج وليس المراد أنه لا ركن للحج سواه كما هو معروف››57.
ومثل ذلك ما ذكره الآلوسي من أن القوة هي ‹‹كل ما يتقوى به في الحرب كائناً ما كان››، وأن علة تخصيص الرمي في الحديث هو لكونه يعتبر أقوى ما يتقوى به، فهو من قبيل قوله (ص) ‹‹الحج عرفة››58. وكذا ما عبّر عنه الشاه ولي الله دهلوي في تفسيره للحديث ‹‹الا أن القوة الرمي›› حيث بنظره أنه ‹‹ليس المراد بذلك الحصر، بل بيان الفرد الكامل من أفراده››59. وأيضاً ما جاء عن بعض العلماء في تفسير القوة بالرمي حسب الحديث النبوي؛ بأنه ‹‹ليس شيء من عدة الحرب وأداتها أحوج إلى المعالجة والإدمان عليها مثل القوس والرمي بها››60.
لكن يظل رأي السيوطي ومن تبعه متأثراً بالظرف الحضاري السائد آنذاك، فالرمي بنظره هو أعظم أنواع القوة وأنفعها، كما في تفسيره للحديث النبوي. وشبيه به ما ورد عن القرطبي، فهو الآخر لم يتعد فهمه الظرف الحضاري السائد، إذ فهم القوة بمعنى السلاح والقِسي (جمع قوس)، لكنه قال: ‹‹فإن قيل: إن قوله تعالى: ((واعدوا لهم ما استطعتم من قوة)) كان يكفي؛ فلِمَ خصّ الرمي والخيل بالذكر؟ قيل له: إن الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها التي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى القوة وأشد العدة وحصون الفرسان.. خصّها بالذكر تشريفاً..››61.
أما حديثاً فقد اتخذ التفسير منعطفاً ملائماً لما عليه الحال من واقع، إذ تحول فهم القوة إلى المعنى الدال على التعميم. فمثلاً علق الآلوسي ـ وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري ـ على الحديث النبوي القائل: ‹‹انتضلوا واركبوا وأن تنتضلوا أحب إلي، إن الله تعالى ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة؛ صانعه محتسباً، والمعين به، والرامي به في سبيل الله تعالى››، فقال في التعليق: ‹‹وأنت تعلم أن الرامي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو لأنهم استعملوا الرمي بالبنادق والمدافع ولا يكاد ينفع معهما نبل. وإذا لم يقابلوا بالمثل عمّ الداء العضال واشتد الوبال والنكال وملك البسيطة أهل الكفر والضلال. فالذي أراه والعلم عند الله تعالى تعيّن تلك المقابلة على أئمة المسلمين وحماة الدين، ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه مقامه في الذب عن بيضة الإسلام ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه.. ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله سبحانه ((واعدوا لهم ما استطعتم من قوة))››62.
وعلى هذا المنوال فسّر محمد صدّيق حسن (المتوفى سنة 1889م) الآية فقال: ‹‹ومن فسّر القوة بكل ما يتقوى به في الحرب جعل عطف الخيل عليها من عطف الخاص على العام››63. ولا شك أن التخصيص الذي تحدّث عنه يختلف كلياً عن التخصيص المذكور لدى القرطبي كما رأينا، فمبرر التخصيص عند القرطبي هو التشريف لإعتبارها أقوى القوى، مما يتناسب مع الظرف الحضاري الذي عاش فيه هذا المفسر، خلافاً للعصر الذي عاش فيه محمد صديق حسن، فلم يعين سبب هذا التخصيص. وهو التفسير المقبول حالياً لأنه ينسجم مع ما عليه التطور الحضاري.
وإتساقاً مع هذا التطور أُعتبرت الروايات التي ترفع من شأن الرمي وركوب الخيل، كالروايات التي تنظر إلى هاتين القوتين أنها من الحق من تركها كان كافراً بالنعمة، اعتبرت ‹‹من باب عدّ المصاديق›› كالذي صرح به العلامة الطباطبائي64. مع أن عدّ المصاديق لا يفي بشيء ما لم يؤخذ الظرف القائم بنظر الإعتبار، وإلا فمن الواضح أنه ليس لهاتين القوتين فائدة حربية في عصرنا، والواجب يحتم تركهما، الأمر الذي لا يتسق مع صيغة التبرير الآنفة الذكر.
ولدى رشيد رضا أن الرمي الوارد في الحديث النبوي يعم الرمي الحديث، بدلالة عموم اللفظ أو إطلاقه65. وهو من هذه الناحية لا يرى لزوم الأخذ بمفاهيم أدوات الرمي القديمة، كالقوس وما على شاكلته. لكن يشكل على هذا التفسير أمران: الأول أنه لا يفسر علة تخصيص القوة بالرمي دون غيره من الأسلحة الأخرى طبقاً للأحاديث الكثيرة. أما الثاني فهو أن الإعتماد على الجانب اللغوي الذي ارتكن إليه هذا المفسر لا يوضح في حد ذاته الداعي من وجوب التخلي عن أساليب الرمي القديمة واستبدالها بالأساليب الحديثة، حيث أن إطلاق اللفظ وعمومه يجعل - من الناحية اللغوية - العمل بالأساليب القديمة والحديثة سيّان. لذلك لا مخرج في هذه الحالة إلا الإستعانة بالواقع، فهو ذاته الذي فرض مثل هذه التوجيهات التي لم تعرف من قبل. مع هذا فقد تمسك رشيد رضا بوجوب رباط الخيل، وهو الذي شهد الأسلحة الحديثة بما فيها الطائرات والمدافع، بل واعتبره قاعدة من أهم القواعد والقوى الحربية، معتبراً أن تخصيص القرآن له بالذكر ‹‹إنما للحاجة إليه وعدم الإستغناء عنه حتى في هذا العصر الذي كثرت فيه مراكب النقل البخارية والكهربائية بأنواعها››66. ورغم أنه ما زالت هناك حاجة في زمن رشيد رضا لمثل ذلك النوع من الرباط، لكن الإشكال الذي يرد على هذا المفكر هو إتخاذه الفهم الإطلاقي لذلك الوجوب، رغم شهادته للتطورات المتسارعة الجارية في كل من المجالات العلمية والتكنلوجية، ومنها العسكرية. ومن الغرابة أن يظهر في العصر الحديث من يفتي بتحريم الحرب بالمدافع، بل ويفتي بقتل من يرى جواز ذلك. فكما نقل الشيخ طنطاوي جوهري بأن جماعة من علماء تركستان أفتوا بقتل تاجر حضر من الروس وقال بأن لهم مدافع فلنقلدهم في الحرب، فقتله أمير بخارى بعد هذا الإستفتاء، لكن الروس دخلوا البلاد بعد خمس سنين، لعدم اعتماد الأهالي على المدافع في الحرب تبعاً لفتوى التحريم الآنفة الذكر67.
كما اعتبر السيد محمد تقي الحكيم آية القوة ((واعدوا لهم ما استطعتم من قوة)) مسايرة لمختلف الأزمنة والأمكنة بما تنطوي عليه من حكم كلي، وأن تأثير الزمان والمكان والأحوال إنما في تبدل مصاديق مفهوم النص أو الحكم الكلي. فمفهوم النص دال على وجوب الاستعداد بما يستطاع دون أن يتغير شيء في النص، بل تغيرت مصاديقه، أي أن ‹‹التبدل في الحقيقة لم يقع في المفاهيم الكلية وإنما وقع في أفرادها ومصاديقها››68. مع هذا فإنه لم يفسّر شأن بقية الآية المذكور فيها ‹‹رباط الخيل››، مما يجعل غرض النص في الأساس هو إفهام ذلك المجتمع في طوره الحضاري الخاص؛ بدلالة ما ورد حول النص من أحاديث تفسّره كما عرفنا.
واتجه المفكر مرتضى مطهري في كتابه (نظام حقوق المرأة في الإسلام) إلى ما يقرب من رأي الحكيم الآنف الذكر. لكنه بحث الموضوع من زاوية أخرى محكمة، عبر الكشف عن حاجات الناس الثابتة والمتغيرة تبعاً لنظام الخلقة أو الواقع، فصرح بأن ‹‹شرط القوة أمام العدو قانون ثابت ينبع من حاجة ثابتة ودائمة. أما شرط المهارة في الرماية وركوب الخيل فمظهر لحاجة مؤقتة ومتغيرة تتغير من عصر إلى عصر، وبتغير ظروف الحضارة تحل محلها أمور أخرى من قبيل الأسلحة النارية المتداولة هذه الأيام والمهارة والتخصص في إستعمالها››.
ومطهري - كما هو دأبه - يستعين بنظام الخلقة والواقع في الكشف عن التشريع. وهو أمر سليم، لكنه لا يفي بفهم القوة وإعدادها في الآية إن كانت تُحمل على الإطلاق الظاهر أم لا؟ فنحن وإن سلّمنا معه بأن إعداد القوة أمام العدو هو حاجة ثابتة ودائمة، إلا أن هذا الأمر لا يشير إلى شيء سوى إبراز القوة بغض النظر عن حدودها، أي أنه لا يقدّم لنا تصوراً محدداً عن هذه الحدود. فهل أن إعداد كل ما يستطاع من قوة هو حاجة ثابتة؟! وهل تفهم آية القوة بهذا النحو من الإطلاق بلا حدود يتوقف عندها؟ وبشكل عام: هل يتبنى الإسلام هذا الموقف من الإطلاق؟ لعلنا نجد في ظاهر كلام مطهري ما يفيد هذا المعنى، كما في قوله: ‹‹الأصالة أن يصبح المسلمون في كل عصر وزمان أصحاب قوة في النواحي العسكرية والدفاعية أمام الأعداء وإلى أقصى حد ممكن››69.
ولدى الخياط أن مفهوم لفظ القوة في الآية مستمد مما كان عليه العرف، وحيث ‹‹أن العرف قد تبدل وازداد مشمول القوة بأمور مستحدثة كإستعمال الأسلحة الحديثة لذلك فإن اللفظ يحمل على الأمور المستحدثة المتعارف عليها››70.
ومثل ذلك ما رآه عبد الكريم زيدان، وهو أن إعداد القوة يختلف بإختلاف درجة الإستطاعة في كل زمان ومكان.. ‹‹فما كان يكفي في الزمن القديم من الأسلحة لم يعد كافياً في الوقت الحاضر.. فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن الكريم وبحكمه القاطع الصريح أن يأخذوا بإعداد القوة بمقاييسها في العصر الحديث››71. وكذا ذكر أبو شريعة بأن ‹‹المراد بالقوة ما يناسب كل عصر بحسبه، والرمي بأي نوع من السلاح غير المبيد››72.
هكذا يتضح أنه بفضل التطور الحديث للواقع أدرك العلماء المعنى الجديد لمفهوم الآية بالشكل الذي أخرجها عن الفهم التقليدي وإغلاقه، إذ تمّ التعويل على المعنى اللغوي للفظة ‹‹القوة›› والابتعاد عن المعنى الظاهر المتلبّس ببيان الأحاديث، مثل تلك التي ترفع من شأن الرمي وركوب الخيل وإعتبارهما من الحق من تركهما كان كافراً. مع أن أصل المخاطب الذي قصده الخطاب بالعناية والإهتمام هو ذلك المجتمع الذي كانت صحاريه وبواديه تجول فيه الخيول. فقرينة ((ومن رباط الخيل)) فضلاً عن الأحاديث الخاصة بمعنى القوة؛ تقصّر من المد الذي يرفع المدلول إلى ما يتجاوز المكان والزمان إلى غير حدود. فمن الطبيعي - على هذا - أن يغلب على عقلية المجتمع القديم تحديد القوة بالرمي، لا سيما أن الإنسان كان لا يفكر عادة إلا ضمن هذه العلاقات البدائية، في حين أصبح الحكم الحالي أمراً مغايراً، لتغير الواقع.
مع هذا فنحن لا نسلّم بما قدّره المحدثون من معنى فرضته ضغوط الحاجة الزمنية. فلو صحّ الإطلاق في معنى القوة الذي عوّل عليه هؤلاء - باستثناء ما نصّ عليه أبو شريعة - لكان من الجائز إعداد ما يستطاع إليه من قوة مهما كانت ضخمة وفتاكة، كالقوة التي تهدد البشرية بالفناء مثل السلاح النووي والبايولوجي والكيميائي وغيرها من الأسلحة المدمرة. الأمر الذي يتنافى مع مقاصد الإسلام وروحه العامة. نعم قد يُضطر إلى ذلك الأمر إضطراراً أو ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها لا أكثر.
وفي جميع الأحوال كان يمكن الخروج عن الفهم المغلق للقوة كما عند الطريقة التقليدية للنظام المعياري، بتحويل النص إلى صورة إرشاد، لا إلى نظام ‹‹منطقي إطلاقي مغلق››. فإذا كان منهج الأخير يعمل على إضفاء صفة الإطلاق على النص وإستصحاب الظرف المحدود إلى ما يتجاوز التاريخ وحدود الزمان والمكان أو العمل بقاعدة القياس؛ فإن منهج الإرشاد رغم أنه يجعل من النص مرتبطاً أساساً بظرفه المحدود ما لم تدل دلالة صارفة عن ذلك؛ يتيح لمراد الخطاب أن يكون قادراً على تجاوز تلك الحدود من الزمان والمكان، وذلك شرط العمل بمقاصد الشريعة الكلية.
رابعاً:
وعلى هذه الشاكلة يمكن النظر إلى التفسير المتعلق بآية الجلباب من سورة الأحزاب، إذ يقول الله تعالى: ((يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذَين وكان الله غفوراً رحيماً))73. فقد صُورت الآية عند الكثير بأنها تفرض حكماً لازماً في وجوب لبس ثوب أكبر من الخمار، كالملحفة أو العباءة أو الملاءة وما شاكلها74؛ مما يوضع فوق الخمار ويغطي الوجه75. وذكر إبن كثير في تفسيره لهذه الآية: بأن الله أوجب على رسوله (ص) أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء، والجلباب هو الرداء فوق الخمار، كما قاله إبن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وابراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغيرهم، وهو بمنزلة الأزار. وجاء عن إبن عباس أن الله أمر نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة. وقال محمد بن سيرين سألت عبيدة السلماني عن معنى الآية، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى. وقال عكرمة تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها. كما جاء عن أم سلمة أنها قالت لما نزلت هذه الآية خرجت نساء الأنصار وكان على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها. كما سُئل الزهري ذات يوم: هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة؟ قال: عليها إن كانت متزوجة وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات وقد قال الله تعالى ((يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن)). وروي عن سفيان الثوري أنه قال: كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة فيعرضون للنساء وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرة فكفوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها. وقال مجاهد يتجلببن فيُعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة76.
مع ذلك فإن التوجيهات الحديثة اعتبرت تلك الزيادة في الآية هي مما يناسب ظروف شبه الجزيرة العربية وقت نزول النص، فهي وسيلة تتلائم مع ما كان عليه الأمر من أحوال، وبالتالي أنها ليست مؤبدة بهذا الإعتبار، كالذي جرى مع توجيه حكم آية ‹‹رباط الخيل››، إذ أُعتبر وسيلة تناسب الأحوال القديمة، لكنه لا يناسب ظروفنا الحالية. وعليه فكل ما يحقق الهدف من اللباس الذي أشار إليه تعالى في الآية: ((ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)) يعد صحيحاً وإن خالف ما نصّت عليه الآية من ذكر الوسيلة77.
***
وهناك العديد من الآيات الكريمة التي توهم بأنها مطلقة مغلقة بحكم ظاهرها، بينما هي دالة بحكم التطور الحضاري والزمان على إنشدادها إلى الظرف. فللواقع أثر بارز على تغيير فهم النص، كما له الفضل في الكشف عن فشل الطريقة التقليدية وقصورها. وينطبق هذا الحكم على آيات كثيرة، ومن ذلك ما جاء في آية حب الشهوات: ((زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب))78. فبعض الشهوات فطرية أو غريزية متأصلة في الناس بغض النظر عن ظروفهم الخاصة، لكن منها ما هو مكتسب تبعاً للظروف والأحوال القائمة. وعند العودة إلى الآية السابقة نرى أن ظاهرها يفيد الإطلاق والشمول، في حين يدلنا الواقع على أن بعض ما ذكرته الآية لا يمكن أن ينطبق عليه الشمول أو العموم، كالخيل مثلاً، إذ الشهوة المناطة بها ليست منفصلة عن الظرف. وبالتالي فإن مفهوم الآية دالّ على الإنشداد للظرف دون الإطلاق. والأمر ذاته ينطبق على آيتي المصابرة وآيات الرق والجزية وغيرها.
خامساً:
ونفس الشيء يمكن قوله مع نصوص الحديث، مثل الحديث النبوي: ‹‹لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر››79. حيث يدخل في النصل السيف والسهم والحراب، وفي الخف الإبل، وبعضهم أضاف الفيلة، وفي الحافر الخيل، وبعضهم أضاف البغال والحمير. لكن بعض الفقهاء لم يحصر السبق على عوض في الأصناف الثلاثة الآنفة الذكر؛ استناداً إلى بعض الأخبار والروايات الدالة على جواز السبق في أصناف غيرها، كالمصارعة والطيور والسفن والزيارق80. كما زيد على الأصناف الثلاثة الأولى السبق بالقدَم طبقاً لحديث عائشة81، ويقصد بالأخير السبق بالأقدام مثلما أجازته الشافعية. وفي جميع الأحوال يعلم أن حديث السبق في الأصناف المذكورة هو مما يناسب المجتمع الإسلامي في العصور السابقة، لا سيما والقصد منه الحث والتشجيع على التمرن والإستعداد الحربي، كما هو منظور بعض المعاصرين. وقد كان جمال الدين الأفغاني يقول في هذا الصدد : ‹‹ ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق والرماية، انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها››82.
ومثل ذلك ما روي عن النبي (ص) قوله: ‹‹حريم العين خمسمائة ذراع وحريم بئر الناضح ستون ذراعاً وحريم بئر العطن أربعون ذراعاً، عطناً للماشية››83. ومثله قوله (ص): ‹‹إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع››. كما روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: ‹‹حريم البئر العادية أربعون ذراعاً حولها، وحريم المسجد أربعون..››84. لكن جميع هذه الأبعاد أصبحت اليوم غير لازمة لتغير الظروف. وقد اعتبر الشيخ محمد جواد مغنية ‹‹أن الحريم يقدّر بحسب الحاجة والمصلحة، وهي تختلف بإختلاف البلدان والأزمان. أما النص الوارد في تحديد الطريق وما إليه فيحمل على ما دعت إليه الحاجة والمصلحة في ذلك العهد... ومهما شككت فإني لا أشك أن الإمام لو كان حاضراً وأراد أن ينشئ قرية أو مدينة لأوكل إلى أهل الفن والاختصاص في تحديد المرافق بكاملها››. وهو بذلك قد اختلف عمن سبقه من الفقهاء85، فهم وإن اعتبروا الأملاك المتلاصقة فعلياً لا حريم لأحد فيها على غيره، لكنهم أقروا تحديد الحريم لتلك الأشياء فيما إذا أُريد انشاؤها في الأرض الموات86.
كما جاء عن الإمام الصادق (ع) قوله : ‹‹لا يحل للرجل أن يبيع بصاع غير صاع أهل المصر››87. ومع ذلك لا يمكن التعويل على مثل هذا الحديث بمعزل عن الظرف السائد آنذاك. وقد قام الشيخ مغنية بتوجيه الحديث فاعتبر القصد منه الإرشاد ‹‹إلى رفع الغرر ـ المخاطرة ـ، لأن صاع أهل المصر معروف، وصاع غيرهم مجهول، ولو عرف صاع الغير لصح البيع به..›› 88.
وعلى هذه الشاكلة ما ورد عن النبي (ص) قوله: ‹‹كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته، فانهن من الحق››89، ومثله الحديث القائل: ‹‹ كل شيء ليس من ذكر الله تعالى فهو لغو وسهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين - أي المشي للرمي - وتأديب فرسه، وملاعبته أهله، وتعليم السباحة››90. حيث يعلم اليوم أن العديد من وسائل اللهو الحديثة لم يحكم عليها بالبطلان، أما الرمي بالقوس وتأديب الفرس فهما معنيان - كما هو واضح - بالظروف الخاصة للمجتمع الإسلامي في العصور التي كان لمثل هذه الأشياء دور في الحياة الإجتماعية، والحربية منها على وجه الخصوص.
كما جاء في كتاب (الخراج) لأبي يوسف ما رواه عن النبي (ص) قوله: ‹‹ من منع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ منعه الله فضله يوم القيامة››، وقوله: ‹‹لا تمنعوا كلأً ولا ماءً ولا ناراً، فإنه متاع للمقوين، وقوة للمستضعفين››، وقوله: ‹‹المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار››91. لكن في الوقت الحاضر وبحكم تغيّر الظروف ووجود الحدود الدولية وتعدد الأوطان أصبح العمل بإطلاق الحديث غير ممكن، كما أن الحاجة فرضت نفسها على ولي الأمر بأن يأخذ بعض الضرائب ويتحكم بتقييد ايصال تلك الأشياء للناس، وبالتالي فما ورد فيها من حديث لا يتجاوز السياق التاريخي والظروف القائمة آنذاك.
وبهذا يتضح أن فهم النصوص السابقة لا يمكن فصله عن فهم الواقع، الأمر الذي يكشف عن قصور الطريقة التقليدية التي اتخذت ـ في الغالب ـ مواقف شبه محددة وثابتة من الفهم البياني والحرفي للنص، تأثراً بما إكتنفها من ظروف تاريخية ضيقة. لهذا كانت آراؤها حول العديد من الأنظمة الإجتماعية على خلاف تصوراتنا الحالية، ويصدق هذا الأمر مع نظام الرق والجزية وتوزيع غنائم الحرب والموقف من التعامل مع الأراضي المفتوحة عنوة وبعض ما يتعلق بنظام الخلافة كعدم تعدد ولي الأمر وشرط النسب القرشي عند البعض، والعصمة عند البعض الآخر... الخ.
***
هكذا كان من المحتم أن تفهم أمثال الآيات الكريمة السابقة وبعض القضايا التي أشرنا إليها بما يتناسب ويتسق مع ظروف الحضارة في ذلك الوقت. فحيث أن تلك الظروف لم تتطور بالسرعة والحجم كما هو الحال مع ظروفنا الحديثة؛ لذا كان من الطبيعي أن تستلهم العقلية السائدة - آنذاك - النظام التوقيفي (التعبدي) من الخطاب، وتجعله يجري مجرى الواقع ذاته. فهي لم تستعن إلا بإشكالية النص والعقل، إذ كانت خطوات الواقع أشبه بالسكنات الدائرة على بعضها البعض، إذا ما قارناها بالخطوات الحديثة المتصاعدة والمتسارعة الإمتداد. بينما كان شغل العقل دائراً - في الغالب - حول الدلالات المعيارية والميتافيزيقية المتعالية. وبالتالي فلم يبق إلا ‹‹النص››، وهذا ما جعل الطريقة التقليدية تعمل على زجّه واقحامه في ‹‹النظام المنطيقي المغلق››. فليس هناك من منافس، لا من ‹‹العقل›› الذي يعترف بإنسحابه من الميدان، ولا من ‹‹الواقع›› الذي كان يحبو آنذاك حبو الطفل الصغير مقارنة بما عليه اليوم.
والحقيقة أن ما قامت به هذه الطريقة من إضفاء الطابع المنطقي الإطلاقي على النص؛ يتسق فعلاً مع وضع الخطاب. إذ استهدف الأخير مشافهة المجتمع الأول بالصورة التي تتمظهر بمظهر ذلك ‹‹المنطق›› من النظام المغلق للمعنى، وقد أراد من ذلك محاكاة ما يناسب فهم هذا المجتمع استناداً إلى ظروفه الخاصة بدل القفز على الواقع المعاش أو التجرد عنه، رغم أن دلالاته التي تتمظهر خارج حدود النص الخاص؛ لم تكن قاصدة ذلك النظام المغلق أبداً. لذلك نقول بأن الخطاب كان يريد شيئاً آخر غير ما يظهره من الصيغ اللغوية.
قد يتصور المتصور أن ذلك عين التناقض، فكيف يريد الخطاب مراداً خلاف ما يظهره النص، فهل كان النص غامضاً أو مشكلاً يحتاج إلى عملية توجيه وتأويل ليتطابق مع حقيقة ما يريده الخطاب؟ وهل أننا نعود ونكرر ما كان يمارسه النشاط العقلي من النظام المعياري التقليدي في توجيه دلالات النص بما يرضي تصوراتنا نحن التي نفرضها على النص ذاته؟ وإلا فكيف يمكن تصور الوصول إلى مراد الخطاب من دون فهم النص ذاته؟
بالفعل كان من الصعب أن يخطر فرض متناقض كهذا الفرض على عقلية تعيش نظاماً متسقاً من التفكير كما تحدده العلاقة بين الواقع المحدود والنص. إذ يتعذّر على الفهم أن يكون معزولاً عن السياق التاريخي وروح العصر. ورغم أن الفهم جرى بشكل ‹‹ممنطق›› يتناسب مع ما يظهره النص من هذا النظام المنطيقي، لكن مراد الخطاب أمر آخر بعيد عن هذا الشكل من الإغلاق. فقد جاء مرشداً دون أن يفرض نفسه كمنطق منظّر. فهو حمال ذو وجوه كما يروى عن الإمام علي، وهو بحاجة إلى ان يفسره الزمان كما يروى عن ابن عباس (دعوا القرآن يفسّره الزمان)92.
ولو عقدنا مقارنة بين الروحين الحضاريتين القديمة والحديثة حول علاقة الإنسان بالنص والواقع؛ لرأينا أن الروح الأولى ميالة إلى جعل النص مفسراً للواقع ومقوماً له في الوقت نفسه، بينما التطور الحضاري الحالي قد دمغ روح العصر الجديدة لأن تميل وبخطى حثيثة إلى السير بالإتجاه المعاكس. فللظرف الحضاري تأثيره على الفهم وتحويل الإتجاه من النص إلى الواقع أو العكس. فإذا كان مجتمع عصر النص يفهم الخطاب مباشرة عبر أداة اللغة ولسان الحال وظروفه الخاصة؛ فإن المجتمعات التالية لم يكن بوسعها الإقتصار على الفهم اللغوي للنص بمعزل عن روح العصر. لذا فكلّما ابتعدنا عن زمن النص كلما اشتدت تطورات روح العصر لتراكم الأحداث وبالتالي تراكم المعلومات والثقافة؛ مما له إنعكاس على كيفية فهم الخطاب أو النص، إلى الدرجة التي تصبح فيها الروح العصرية حاملة لرسالة هي كرسالة ‹‹الخطاب››، خاصة عندما تقوم بتوجيه الأخير، كما يشهد عليه عصرنا الحاضر بما يزخر من تفاسير علمية للنص، وما يتضمنه من فهم لقضايا الإسلام تبعاً لما يفرزه الواقع من أحداث وتطورات؛ لا سيما مفرزات الواقع الغربي بإعتباره يمتلك ناصية الضغط والتراكم العلمي الثقافي.
ومع ذلك لا بد من التذكير بأن ما تأثر بالواقع من قضايا الخطاب هي تلك التي لها مساس بالجانب الحضاري للإنسان، أما تلك التي تنعزل نسبياً عن هذا الجانب، كالعبادات الخالصة، فتكاد لم تتأثر بذلك، إذ ظلت حيادية تُستقى من منابع الخطاب ذاته.
وبعبارة أخرى، إن أصل الأحكام في العبادات عائد إلى حق الله، وهو يميل إلى الثبات، لعدم معقولية معناه كلاً أو جزءاً عادة، وهو الأصل المطلق عليه (التعبديات) والتي لا يطلب فيها إلا الإنقياد من غير زيادة ولا نقصان، وبالتالي لا يصح فيها القياس كما يقول الشاطبي. وعلى العكس من ذلك فيما أطلق عليه (أصل العادات)، إذ يتعلق بأحكام الجانب الحضاري أو الدنيوي93، وهي ما يرد فيها التجدد والتغير طبقاً للتحول الحضاري أو العادات. ويُعنى هذا الأصل بحقوق الناس والعباد، وهو معقول المعنى، وفيه يصحّ تشريع الإنسان وإجتهاده، استناداً إلى لحاظ ما عليه الخطاب الديني من جانب، والواقع من جانب آخر.
***
إن تنزيل الخطاب على مدى أكثر من عشرين سنة شملت أحداثاً وظروفاً كثيرة عبّرت عن ظاهرة ‹‹إنشداد الخطاب›› نحو هذه الظروف، كما وعبّرت عن ظاهرة أخرى نطلق عليها ظاهرة ‹‹الفصل أو المَفْصلية›› ضمن الخطاب ذاته، وذلك لكون الأحداث التي جرت خلال تلك الفترة هي أحداث بعضها منفصل عن البعض الآخر، سواء كانت عائدة إلى موضوع واحد، أو إلى موضوعات متعددة، مما أوجد حاجة لتكوين علم خاص أطلق عليه ‹‹علم أسباب النزول››94. وهو علم كان بإمكانه أن يُحدِث نقلة في الفهم غير ما تعارف لدى الطريقة التقليدية للنظام المعياري؛ لولا أنه لم يلق الإهتمام الكافي فولد فقيراً جدباً من غير أن يعرف النهوض والتطور أو يصل إلى مستوى العلم المستقل بالمعنى المصطلح عليه، حتى زعم البعض أن هذا الفن لا طائل ورائه لجريانه مجرى التاريخ95. وقد صيغت لذلك قاعدة أصولية مفادها: العبرة في عموم اللفظ لا في خصوص السبب. وهي قاعدة تتسق مع الطابع البياني الإطلاقي الذي امتازت به الطريقة التقليدية وإهمالها لخصوصية الواقع الذي تنزّل فيه الخطاب. مع أن الصحيح أن يقال بأن العبرة في بيان القصد واستكشافه لا في عموم اللفظ ولا في خصوص السبب.
ورغم أن الخطاب الديني يتصف بظاهرتي المفصلية والإنشداد، إلا أن الفواصل فيه لا تعني التشتت وغياب الأواصر الجامعة والأسس الحاكمة. كما أن إنشداد الخطاب إلى الظرف وتعلّقه به لا يعني عدم إمتداده خارج هذا الحد وانبساطه على مختلف الظروف والأحوال. فالخطاب ليس مغلقاً، ولو كان كذلك لكان متعالياً على الواقع؛ لإجحافه لأغلب ما تبقى من الظروف والسياقات التاريخية التي تجلّت بعد مرحلة التنزيل. فالترابط المؤلَّف بين ظاهرتي ‹‹المفصلية والإنشداد›› من جهة، وبين ‹‹الإطلاق›› اللفظي الذي تميز به النص الديني من جهة ثانية، يجعل من حقيقة الخطاب ليست إطلاقية، ولا مغلقة أو متعالية على الواقع العام.
فهناك جدل بين ‹‹الإطلاق›› الذي يبديه النص من جهة، وبين ‹‹الإنشداد›› إلى الظرف المتعلق به من جهة ثانية، وهو الجدل الذي يتمظهر بين الإطلاقات ذاتها والذي لا يُحل ويكشف عما يستبطنه من حقيقة إلا من خلال ‹‹مفصلية›› الخطاب. فظاهرة الإنشداد التي تدعو إلى الإغلاق تتحول إلى صورة إنفتاح وتجدد وشمول بفعل الجدل مع الإطلاق وعبر المفصلية التي تحوّل صيغة الإطلاق إلى نسبية كما يستهدفها الخطاب. وتتم هذه العملية بحل الإطلاق وتفكيكه من خلال ضرب الإطلاقات المتقابلة بعضها بالبعض الآخر، وهي السمة البارزة في الخطاب والتي تميزه عن غيره من الخطابات الأخرى، إذ بعضه لا يفسر إلا بالبعض الآخر، مما يجعله نافذ الشمول والحيوية. فإثراء هذه العملية من الجدل هو ما يبعث على الهداية والإرشاد كما يتيمز بها الخطاب الإلهي عن غيره من الخطابات، إذ يصبح النص متحولاً - في هذه الحالة - مما ظاهره نظام إطلاقي ومنطقي مغلق إلى حقيقة أخرى ‹‹نسبية›› يدل عليها الخطاب ذاته بذاته.
تلك هي طبيعة الخطاب ومنبع قوته وديمومته، فهو مشعل يشعّ بالنور ويهدي للرشاد، إذ لا يجعل من الظرف القائم حقيقة مطلقة تقاس عليها الظروف الأخرى، كما لا يجعل من ذاته مصدر التعالي على الواقع السائد، ولا يمحو شخصيته بالذوبان والإنصهار فيه، بل يتخذ من هذه المنافذ والممرات ناصية ‹‹النسبية›› كي يكون مع الواقع على وفاق واتفاق، لذلك فهو نافذ الشمول والحيوية بامتلاكه المرونة إزاء التفاعل مع مجريات الحياة دون أن يحدّه زمان أو مكان.
هكذا فهذه الطريقة من التعامل الإرشادي تجعل من الظرف نموذجاً أو ‹‹مثالاً›› من الأمثال التي يضربها الخطاب للناس ((لعلهم يتفكرون.. وما يعقلها إلا العالمون))، وفيها من الذكرى ما ينفع المؤمنين. لا سيما أن أحكام هذا الظرف وغيره من الظروف محكومة بمقاصد كلية ثابتة تؤطر كل زمان ومكان، كالذي أكد عليه الخطاب ذاته. فالمقاصد هي جوهر التشريع الديني وروحه الثابتة، وبدونها يفقد التشريع معناه، بل أنها كانت وما زالت مصدر إلهام لمختلف التشريعات البشرية على طول التاريخ، وهي من فضل الله تعالى على عباده.
لذا فإختلافنا مع الطريقة التقليدية هو أننا نعتبر شبه الجزيرة العربية منطقة ذات خصوصية مستقلة وقد وردت عليها جملة من الأحكام - الحضارية – المناسبة والمتعلقة بأهلها على نحو الفرض واللزوم. أما سائر المجتمعات الأخرى فأمرها مختلف، ومنها مجتمعنا المعاصر.
لكن لا يعني هذا إنفصالنا عن هذه الأحكام كلياً طالما تعلقت بمجتمع وظروف هي غير مجتمعنا وظروفنا، إذ ما يعنينا منها هو العبرة والإرشاد. فهي نموذج أصيل وسابق لا بد من جعله مصدر إلهام في التشريع، لكن لا بطريقة القياس والإستصحاب التي ما زالت معتمدة لدى الإجتهاد التقليدي، فليس لأن تغيرات الواقع تشير إلى خطأ الإعتماد على هذه الطريقة، بل لأن الخطاب الديني ذاته – أيضاً – يدلّ على الأخذ بمنهج العبرة والإرشاد. فالعبرة ضالة المؤمن، ولطالما دعا القرآن الكريم إلى النظر في الأقوام السالفة وأخذ العبرة مما ابتلوا به في ظل ظروفهم الخاصة. فالعبرة الواردة في القرآن ليس لها دلالة القياس96، إذ الأخير يطالب باللزوم والفرض لا الإرشاد، وحاله في هذه الناحية لا يختلف عن حال الإستصحاب، فكلاهما يطالب باللزوم، وهي صفة التمنطق والإغلاق، خلافاً لمنهج العبرة والإرشاد، إذ لا لزوم فيه ولا تمنطق ولا إغلاق. فهو لا يحدد النتيجة سلفاً ولا يفرض لزوماً ولا يتشرنق على نفسه من غير منافذ، بل يعمل تبعاً لأمرين، أحدهما ثابت نسبياً، وهو ما وردنا من أحكام، والآخر متغير وهو الواقع، ولا يصح العمل بالحكم المنزّل من غير مراعاة الواقع، كما لا يصح الحكم على الواقع من غير لحاظ الأحكام السالفة، بل لا بد من مراعاة الأمرين معاً بطريقة مفتوحة متجددة غرضها الوفاق مع الواقع من غير إضطراب، أو غرضها الحفاظ على مقاصد الخير الكلية التي بشرت بها الرسالات السماوية، مما يحتم عدم الإعتماد على منهج الحرفية والنهج الماهوي كما يمارسه الفقهاء.
***
أخيراً نشير إلى أن مجتمع الجزيرة لم يكن في وضع يؤهله معرفة الحقائق كما هي دفعة واحدة، لذلك أُخضع لتجارب وخبرات مختلفة غايتها تعليمه كيف يتم الربط بين الخطاب والواقع، أو كيف يمكن فهم الخطاب في علاقته بهذا الواقع. الأمر الذي دلّ عليه السلوك المتغاير للتشريع النبوي، وعلى شاكلته سلوك الصحابة وتشريعاتهم المبنية على مراعاة المقاصد العامة وتجاوز الفهم الحرفي أحياناً.
وتقريباً لهذه الفكرة لا بد من إيضاح أنه يتعذّر تفهيم القواعد الأخلاقية لغير البالغين إلا بالمعنى المطلق المغلق، وكما بيّنت بعض الدراسات في التكوين النفسي لعالم النفس السويسري (جان بياجيه) أنه يكاد يستحيل على الطفل حتى حوالي سنته العاشرة أن يتفهم الأحكام الإضافية أو النسبية، إذ سرعان ما يحوّلها إلى أحكام حملية ذات صفات مطلقة97، وحتى الكبار منّا كثيراً ما يستعينون بهذه المعاني المطلقة، سواء كانوا واعين بحقيقتها أم لا؟ وعليه فإن تفهيم الأطفال للقواعد الأخلاقية بغير المعنى المطلق قد يفضي بسهولة إلى إساءة فهمها وتطبيقها في واقع شديد التغير، لكن تجارب الحياة تتيح للإنسان التوصل إلى نسبية تطبيق هذه القواعد، استناداً إلى الواقع وحيثياته المتغايرة، وبذلك نعلم حاجة الإنسان إلى العبرة والإرشاد، فمن خلالهما يمكن فهم القواعد التشريعية والأخلاقية ومن ثم تنفيذها وتطبيقها في المواضع المناسبة أو الصحيحة. وبهذا ندرك معنى الإجابة على السؤال القائل: لمَ لمْ يرد في الخطاب الديني بيان يوضح مطالبه بشكل كاف وواف لجميع الأجيال؟
فالجواب على ذلك من جهتين كالتالي:
فمن جهة أن الخطاب لم يأتِ بيانه مفارقاً للسنن التكوينية القائمة على مراعاة الأسباب والمسببات، وهو بالتالي يتسق مع هذه السنن المجعولة. فالتشريع يتفق مع التكوين في أن كلاً منهما يتبع السنن التدريجية الموضوعة. فمثلما ظل الإنسان آلاف السنين يكابد الكثير من المشاكل الحياتية التي تعترض سبيله؛ كالأمراض الفتاكة مثل السل والطاعون والجدري وغيرها دون التمكن من معرفة هويتها والقضاء عليها، حتى تمكن من ذلك في النهاية، وأنه ما زال ينتظر سنين طويلة ليتعرف على معالجة سائر ما يعترضه من مشاكل وصعوبات.. فكذا الحال في مجال التشريع، إذ على الإنسان أن يكابد ليتفهم ما يتضمنه الوحي من نعمة التشريع الديني، ليتمكن عندها من معالجة الكثير من النقاط التي ظل يعاني منها قروناً طويلة، وذلك عبر دراسة الواقع وعلاقته بالنص والتشريع.
أما من جهة ثانية، فهي أن إيضاح ما يريده الخطاب لا يتحقق وسط مجتمع ناشئ لم يعِ من الواقع شيئاً ذا بال، وبالتالي فقد يساء استخدام ما يكشف عنه، فيأتي الإيضاح بالضرر أكثر مما يجنيه من نفع، طالما أن التجربة البشرية لم تكن عميقة ولم يبلغ الواقع حداً كافياً من التطور. وعليه لم يبق إلا التطبيق والممارسة العملية كمرجع للتفهيم عوض التصريح المباشر، كالذي مارسه الخطاب على مستويات عدة؛ كما في النسخ والنسأ والتدرج في الأحكام، فضلاً عن تطبيقات السيرة النبوية وما تضمنته من تنويع الأحكام وتغييرها، وقد ذكر إبن القيم مسائل كثيرة يقدّر فيها العقل حالات التخصيص لما ورد من أحكام، منصوصة بلفظ العموم والإطلاق وذلك طبقاً لما ‹‹جرى العمل فيه على العرف والعادة، ونزل ذلك منزلة النطق الصريح إكتفاء بشاهد الحال عن صريح المقال››، مؤكداً بأن الشريعة لا تردّ حقاً ولا تكذب دليلاً ولا تبطل أمارة صحيحة98.
هكذا نعرف بأن الجزيرة العربية ليست مركزاً يستقى منها الأحكام لتوزع على سائر دوائر الخليقة مدى الدهر، بل هي نموذج تمّ إختياره ليطبق عليه شطر من الأحكام المناسبة للظروف الخاصة. أما سائر الظروف فأمرها مختلف، إذ لا يشترط أن يُطبق عليها نفس هذه الأحكام، سواء بالقياس أو الإستصحاب، إذ كلاهما لا يتسقان مع طبيعة الواقع المتغير. وبالتالي فإن ما يعنينا من الأحكام هو العبرة والإرشاد.
ولا شك أن هذا التحليل يقترب من فلسفة المصلح محمد اقبال، وهو الذي إستعان بالفقيه المجدد الشاه ولي الله دهلوي (المتوفى سنة 1176هـ)، والذي لا يخلو من تأثره بفهم الشاطبي للشريعة وعلاقتها بظروفها الخاصة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. فقد إستند اقبال إلى فكرة تطبيق مبادئ الشريعة على نموذج معين من صور الحياة الإجتماعية للأمة طبقاً لأحوالها وأعرافها الخاصة، وذلك بتطبيق جملة من الأحكام المناسبة لتلك الحياة تبعاً لعاداتها وأحوالها، وحيث أن الأمم تختلف في هذه العادات والأحوال؛ لذا يتعذّر التطبيق الموحد، رغم أن المبادئ العامة تظل واحدة تقبل التطبيق على مختلف الظروف وصور الحياة. الأمر الذي يجعل للشريعة صفة الشمول والحاكمية على مجريات الواقع رغم إختلاف الزمان والمكان99. ويتسق هذا العرض من بعض الوجوه مع ما أفاده الفقهاء من ربط الأحكام بالعوائد وفقاً للمقاصد الشرعية، كما هو الحال مع القرافي والشاطبي وإبن القيم وغيرهم.
وعليه فالقول بأن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان؛ هو قول صحيح تماماً إذا ما إشترط فيه أن يكون الفهم غير متوقف على الصيغ البيانية الصرفة، بل لا بد من إتّباع المقاصد العامة للتشريع مع أخذ الواقع بعين النظر والإعتبار، كالذي فصّلنا الحديث عنه في (فهم الدين والواقع)100.