-
ع
+

العرفاء والتنزلات الالهية للوجود

يحيى محمد

لا يختلف العرفاء كثيراً عن زملائهم الفلاسفة حول طبيعة التنزيل والصدور لدى المفارقات العلوية. فعندهم ان ما صدر عن المبدأ الحق انما هو جملة العالم بأسره دفعة واحدة، وهو المطلق عليه الوجود المنبسط العام، والذي يفيض على كل موجود من الموجودات الخاصة. لكن مع ذلك فان اول تعين لهذا الصدور ضمن الوجود المنبسط العام هو العقل الاول1. وعليه ذهب صدر المتألهين الى التوفيق بين المذهبين الفلسفي والعرفاني، وذلك لان العرفاء وإن قالوا بالصدور الجملي والكلي للعالم دفعة واحدة عبر ذلك الوجود المنبسط، فانهم لا ينكرون التسلسل والترتيب في التعينات الخاصة، وبالتالي فقد اعتبر ان ما ذكره العرفاء حول الوجود المنبسط هو ذاته عبارة عن العقل الاول من حيث التفصيل، أما من حيث تعينه الخاص فهو ايضاً عبارة عن جميع ما في العالم من موجودات؛ ولكن على نحو الكمال والاجمال. وهنا ان مقالة العرفاء لا تبتعد عن مقالة ابن رشد المشائية، وهي ذاتها التي نحا اليها صدر المتألهين كما هو واضح.

نعم قد ظهر لابن عربي تصورات مختلفة وعديدة ازاء موقفه من نظرية الصدور. فهو احياناً يستدل على خطأ التعميم القائل (الواحد لا يصدر عنه الا واحد) بدليل هندسي مفاده ان النقطة رغم انها تعد واحدة الا ان من الممكن ان ينشأ منها خطوط متعددة، فاذا كانت النقطة مفترضة في مركز الدائرة فان من الجائز ان يرسم عليها خطوط تنتهي الى نقط متعددة في المحيط، بحيث ان جميعها يقابل تلك النقطة وجهاً لوجه2. والواقع انه يمكن انشاء ما لا نهاية له من الخطوط المنبعثة من نقطة المركز والتي تفضي الى رسم ما لا نهاية له من النقط على المحيط. لكن انما يصح ذلك باعتبار ان نقطة المركز لم تعد نقطة بسيطة، بل هي مركبة الى ما لا نهاية له من النقط الجزئية، وهو امر لا يتنافى مع قاعدة الصدور، مثلما اشار الى ذلك صدر المتألهين وهو في معرض ردّه على ذلك الاستدلال الذي نسبه الى بعض الأذكياء.3

وحيث رفض ابن عربي مفاد نظرية (الواحد لا يصدر عنه الا واحد) حاول ان يفسر علة الكثرة من خلال فكرة التثليث التي اناط بها الايجاد والتنزيل. فالثلاثة عنده هي ابسط الكثرة4، او انها اول الافراد وعنها وجد العالم. فهي في الحضرة الالهية عبارة عن علم وعالم ومعلوم، وان هذه العلاقة الثلاثية اقتضت العلاقة بين الحق والاعيان الثابتة. فالواحد بمفرده لا ينتج، وكذا الاثنان لا ينتجان ما لم يقم بينهما حركة الجماع وهي الفردية، وبالتالي فبالاحدية ظهرت الاشياء عن الله الواحد من جميع الوجوه، فالموجود الذي صدر انما صدر بثلاثة اعتبارات، هي اصل النتائج كلها، وهي وجود الذات وكونها قادرة وكونها متوجهة. فبهذه الاعتبارات والوجوه ظهرت الاعيان. 5

ويستعين ابن عربي في ايضاح العلاقة الثلاثية للايجاد والتنزيل ببعض النصوص الدينية، فيعتبر ان العلاقة بين الحق والاعيان كانت من الطرفين عبارة عن ثلاثيتين لولاهما ما وجد العالم، فمن حيث طرف الحق ان الايجاد لا بد ان يتضمن شروطاً ثلاثة تضمنها قوله تعالى: {انما قولنا لشيء اذا اردناه ان نقول له كن فيكون} النحل/40، حيث لا بد من ذات وإرادة وقول (كن). كما لا غنى عن ان تكون هناك شروط ثلاثة في العين التي يراد لها الايجاد، وهي ان تكون لها شيئية، وان تسمع القول، وكذا تمتثل الامر. فلولا ان هذه العين مستعدة للتكوين ولها قابلية لذلك من نفسها ما تكوّنت عند سماعها القول الالهي. وهذا الاستعداد هو الحاصل لديها بفعل الفيض الاقدس. بل ان الموجد والمكون للشيء انما هو تلك العين للشيء بشرط سماعها الامر، فليس الحق هو من أوجد الشيء، وانما اوجده نفس الشيء او عينه لا غير، بدلالة قوله تعالى: {ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعاً او كرهاً قالتا أتينا طائعين} فصلت/116. وتبعاً لهذه النظرية في التثليث فان هناك ثلاثة انواع من الايجاد التي اوجد الله فيها العالم، فهناك الايجاد بقول (كن) لا غير، حيث تم فيه ايجاد اكثر العالم. كما هناك الايجاد بقول (كن) واليد الواحدة، مثل ايجاد جنة عدن والقلم وكتبة التوراة وغير ذلك. واخيراً هناك الايجاد بقول (كن) وكلتا يديه، وهذا النوع من الايجاد خاص بالانسان، ولذلك فانه خرج على صورة الحق كما في الحديث ‹‹خلق الله ادم على صورته››.7

مع هذا فهناك موقف اخر لابن عربي ازاء قاعدة الصدور الانفة الذكر، حيث عدّها صحيحة تماماً من الناحية العقلية، بل وتنطبق على جميع الموجودات باستثناء احدية الحق، حيث الكثرة تصدر عنها، وذلك لان احديته خارجة عن حكم العقل وطوره ‹‹فأحدية حكم العقل هي التي لا يصدر عنها الا واحد، واحدية الحق لا تدخل تحت الحكم››8. كذلك فلو صدر عن الحق جميع العالم فانه لا يصدر عنه الا واحد، حيث انه مع كل واحد من حيث احديته، لكن الامر يختلف عما يقوله الفلاسفة كما اشار الى ذلك. 9

وهو في محل اخر رأى ان التعدد الصادر عن الواحد ممكن باعتبار القوابل لا باعتبار ذات الواحد. والمسألة عنده مفسرة بحسب ظهور الحقيقة الواحدة في المرايا المتعددة والمختلفة، حيث تتعدد الصور وتختلف في هذه المرايا مع ان الحقيقة واحدة، وكذا في علاقة المبدأ الحق مع تجلياته المختلفة. فهو لا يرى غير الذات الالهية وهي متجلية في كل شيء، كأمر واحد يظهر بمظاهر مختلفة كلها تبدي كونها مرايا لحقيقة واحدة، او انها اسماء وصفات هذه الحقيقة المطلقة، وان تجلي الواحد في المقامات والمراتب تظهر الوحدات المتعددة، تعدد الوجه الواحد في المرايا المتعددة، وليست هناك كثرة دالة على الاختلاف، حيث العدد لا يولد كثرة في العين، فالعالم كله وحدات ينضاف بعضها الى بعض فتسمى مركبات10. وكما قيل في الشعر:11

وما الوجه الا واحد غير انهاذا انت عددت المرايا تعددا

او يمكن القول ان صدور الكثرة او التعدد عن الواحد هو باعتبار ما عليه الاعيان الثابتة التي هي قوابل متعددة وغير متناهية، وعليه صحّ ما يقوله العرفاء بأن المبدأ الحق هو الواحد الكثير فكيف لا تصدر عنه كثرة؟!

مع هذا فان رؤية ابن عربي في علاقة المبدأ الحق بالكائنات هي رؤية مبتنية الى حد بعيد على تلك القاعدة. فاستناداً الى تصويره الرمزي تبعاً للالفاظ الدينية، اعتبر ان للتجلي مراتب، وان اول هذه المراتب هي الروح الكلي او العقل الاول الموصوف بالقلم، ومنه تشتق سائر العقول، ثم النفس الكلية الموصوفة باللوح المحفوظ12، حيث انها اول موجود انبعاثي، فقد طلب القلم موضع اثر لكتابته فانبعث من هذا الطلب اللوح، كانبعاث حواء من ادم، اي كان بين القلم واللوح اول نكاح معنوي معقول وله اثر حسي مشهود، ومنه عملنا بالحروف المرقومة عندنا13. ومن عملية النكاح بينهما ولد توأمان، حيث اول ما القت النفس علم الطبيعة الكلية، والتي ظهرت عنها العناصر الاربعة، ثم بعدها الهباء او الهيولى الكلية، ومن نكاح هذين التوأمين ولدت صورة الجسم الكلي، وهكذا استمر التوالد ونزل الى العالم السفلي. وفي محل اخر اشار ابن عربي الى ان الله اوجد بعد تكون علم الطبيعة - وهي من عالم النور - الظلمة المحضة14، ومن ثم فاض عليها النور فظهر الجسم المعبر عنه بالعرش، وهو اول ما ظهر من عالم الخلق، ثم اوجد الكرسي في جوف العرش وجعل فيه الملائكة من جنس طبيعته، ثم خلق في جوف الكرسي فلكاً في جوف فلك، وخلق في كل فلك عالماً يعمرونه هم الملائكة، الى ان خلق المولدات الطبيعية15، حيث تصدر عن حركات السماوات والارض اعيان المولدات والتكوينات.16

هكذا فلدى ابن عربي ان اصل النكاح والتوليد هو ذلك الذي حدث بين العقل الاول والنفس الكلية، او بين القلم واللوح، ومنه سرى النكاح في عالم التوليد الكوني وغيره من العوالم17. فهو في العالم الطبيعي يطلق عليه النكاح، ويسانخه في عالم الارواح النورية فيطلق عليه الهّمة18. ومن مترتبات ذلك النكاح الوجودي ما ظهر من انواع اخرى للنكاح والتوليد لا تمتّ الى العالم الوجودي بصلة، مثل النكاح الذي يتم بين المقدمتين المنطقيتين لانتاج النتيجة19، وانه لا بد في الدليل من ثلاثة حدود20، وكذلك النكاح الخاص في التوليد الكوني ومقدمات الاستدلال.21

على ان المراتب التنزيلية، كما يتحدث عنها العرفاء ومنهم ابن عربي، هي مراتب تتصف بالنظام القائم حسب نظرية الامكان الاشرف والمشاكلة، مثلما سبق لدى زملائهم الفلاسفة. فالعوالم الوجودية لدى العرفاء هي عوالم قائمة على المشاكلة والسنخية. فتبدأ المضاهاة بين الذات الالهية والقلم او العقل الاول، من جهة الاجمال والكلية، ثم بعد ذلك بين القلم واللوح المحفوظ او النفس، وذلك من حيث التفصيل. كذلك هناك مضاهاة بين العرش والقلم من جهة الاجمال، وكون الاشياء فيهما على الوجه الكلي، وكذا هناك مناسبة بين الكرسي واللوح من جهة مظهريهما. فالعرش في المرتبة الحسية هو مرآة القلم، وما في القلم من اشياء مجملة وكلية مندرج في العرش بشكل كلي ومجمل ايضاً، والكرسي في المرتبة الحسية هو مرآة اللوح، فما في اللوح فهو في الكرسي، والقلم انموذج الذات ومرآتها ومظهرها ومنصتها ومجلاها، واللوح انموذج القلم ومرآته ومظهره ومنصته ومجلاه. والقلم نسخة الذات، واللوح نسخة القلم، والعرش نسخة القلم، والكرسي نسخة اللوح. وأما الانسان الكامل فهو نسخة جامعة لجميع النسخ، وهو الجامع بين العالمين الالهي والكوني، وبين هذا الانسان وبين الحق مضاهاة في الجمع بين العوالم، وان كلاً منهما عبارة عن مرآة لذاته، فعلمه لذاته هو مرآة لذاته، وبين علم الحق وعلم الانسان الكامل مضاهاة من حيث مظهريته لتفصيل ما اجمل، ومن ثم فان علم الانسان الكامل هو مرآة لعلم الحق، وان علم الحق متجل عليه وظاهر به.22

بل العالم لدى ابن عربي له تماثل وتوازي مع الحروف، فهو مشتق من كلمة (كن)، تبعاً لقوله تعالى: {انما امره اذا راد شيئاً ان يقول له كن فيكون} ياسين/82، وحيث ان هناك ثمانية وعشرين حرفاً، فان العالم بدوره عبارة عن هذا العدد في المراتب لا يزيد ولا ينقص، ويقف العقل كأول مخلوق23، اذ كان العقل او القلم هو اول خلق خلقه الله من النفس المسماة بالعماء او الحق المخلوق به، والتي تتصف بقابلية فتح الله صور العالم فيها24، ثم النفس الكلية او اللوح، ثم الطبيعة، ثم الهباء، ثم الجسم، ثم الشكل، ثم العرش، ثم الكرسي، ثم الاطلس، ثم فلك الكواكب الثابتة، ثم السماء الاولى، ثم السماء الثانية فالثالثة فالرابعة فالخامسة فالسادسة فالسابعة، ثم كرة النار فكرة الهواء فكرة الماء فكرة التراب، ثم المعدن فالنبات فالحيوان فالملك فالجن فالبشر، ثم المرتبة، وهي الغاية في كل موجود، مثلما ان الواو هي غاية حروف النفس25. ومثلما هناك كلمات العالم، فانها تسمى في الانسان حروفاً من حيث احادها وكلمات من حيث تركيبها، وكذا فان اعيان الموجودات حروف من حيث احادها، وكلمات من حيث امتزاجاتها26، فما الانسان الا عالم صغير، وما العالم الا انسان كبير.

هكذا يتضح انه لا يوجد اختلاف جذري بين الرؤية العرفانية والرؤية الفلسفية حول طبيعة التنزيل تبعاً لنظرية الصدور وما يترتب عليها من المشاكلة والنظام التسلسلي.

 

1 نقد النقود، مصدر سابق، ص686-687.

2 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج1، ص329. كذلك: حيدر الآملي: المقدمات من كتاب نص النصوص، تصحيح وتحقيق هنري كربين وعثمان يحيى، طبعة طهران، 1975م، ص115-116.

3 الأسفار، ج2، ص 206.

4 اسين بلاثيوس: ابن عربي حياته ومذهبه، ترجمه عن الاسبانية عبد الرحمن بدوي، دار القلم، بيروت ـ وكالة المطبوعات، الكويت، 1979م، ص268.

5 كتاب الحروف الثلاثة التي انعطفت اواخرها على اوائلها، ضمن رسائل ابن عربي (1)، مصدر سابق، ص135.

6 مطلع خصوص الكلم، ج2، ص51-52 و52.

7 كتاب نسخة الحق، ضمن رسائل ابن عربي (1)، ص268.

8 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج2، ص33.

9 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج2، ص427.

10 كشف الغايات، ص354-355. وترجمان الاشواق، مصدر سابق، ص46.

11 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص345. وجامع الاسرار، ص203.

12 يعبر ابن عربي عن اللوح المحفوظ احيانا بالعقل، كما هو الحال في كتاب (شق الجيب بعلم الغيب، ضمن رسائل ابن عربي (1)، ص288).

13 ذكر ابن عربي بهذا الصدد ما ورد في الشرع بان اول ما خلق الله القلم ثم خلق اللوح وقال للقلم: اكتب، قال القلم: وما اكتب؟ قال الله له: اكتب وانا املي عليك. فخط القلم في اللوح ما يملي عليه الحق وهو علمه في خلقه الذي يخلق الى يوم القيامة. وذكر ابن عربي ان عدد ما ضمه اللوح من الكلمات بعد الفراغ من الكتابة هو مائتي الف اية وتسعاً وستين الف اية ومائتي اية، وهو ما يكون في الخلق الى يوم القيامة من جهة ما تلقيه النفس في العالم عند الاسباب (الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج1، ص191. وج 2، ص421).

14 ربما استند ابن عربي هنا الى الرواية التي نقلها الغزالي من ان اول ما خلق الله القلم ثم اللوح ثم الظلمة الخارجة (لاحظ: معارج القدس، ص117).

15 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج1، ص190-192و201.

16 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج1، ص218.

17 الفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص191.

18 مطلع خصوص الكلم، ج2، ص470.

19 كتاب الحروف الثلاثة التي انعطفت اواخرها على اوائلها، ضمن رسائل ابن عربي (1)، ص135. والفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص198 و195.

20 مطلع خصوص الكلم، ج2، ص54-55.

21 الفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص226-227.

22 مرآة العارفين، ضمن رسائل في الفلسفة والعرفان، مصدر سابق، ص13-15.

23 العقل الاول هو الموجود الثاني، اي في المرتبة الثانية من الوجود. لاحظ: كتاب الحروف الثلاثة التي انعطفت اواخرها على اوائلها، ضمن رسائل ابن عربي (1)، ص138.

24 على ما يبدو ان العماء هنا بمعنى الوجود المنبسط العام. علماً بان ابن عربي استخدم هذا المصطلح ليشير به ايضاً الى حضرة الذات الاحدية.

25 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج2، ص389.

26 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج2، ص386.

comments powered by Disqus