يحيى محمد
لقد جنى النظام الوجودي ثماراً توظيفية عديدة من مفهومه للوجود وعلاقته بالماهية، وأعظم ما يتجلى هذا الحال في معالجتهم لقضايا التوحيد. فقد اُنيط بالوجود بحسب معناه الفعلي تفريع العديد من المسائل الالهية كإثبات وجود الله تعالى ووحدته ووحدة صفاته وما الى ذلك.
فحول الاستدلال على وجوده تعالى ذكر صدر المتألهين برهاناً اعتبره اسدّ البراهين واطلق عليه سبيل الصديقين، وكأن فيه ايماءاً الى كون الطرق الاخرى لا تخلو من كذب كما نبّه عليه السبزواري في حاشيته على (الاسفار)[1]. وهو يعني انه لا يوجد اي برهان يدل عليه الا منه. وبحسب هذا الاعتبار ان الاستدلال بالآثار واللوازم لا يؤدي الى اليقين، فالعلم اليقيني بالمسببات لا يكون الا من جهة السبب، فكيف يمكن قلب القضية وعكسها؟ بل حتى الاعتماد على الوجود وانه يقتضي واجباً لا يعطي - برأي هذا الفيلسوف - إلا قياساً شبيهاً بالبرهان[2]. مع ان ابن سينا اعتمد هذه الطريقة واصفاً اياها بنفس صفات الطريقة التي عوّل عليها صدر المتألهين، وهو انها تقيم البرهان بالاستعانة بالحق تعالى لا بغيره، وذلك من خلال مفهوم الوجود ذاته، لذا كانت عنده موضع اعتماد ‹‹الصديقين››. فذكر في (النجاة) قائلاً: ‹‹لا شك ان ههنا وجوداً، وكل وجود إما واجب وإما ممكن، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وان كان ممكناً فإنا نوضح ان الممكن ينتهي بدوره الى واجب الوجود..››[3]. وفي (الاشارات) نبّه ابن سينا على هذا المسلك فقال: ‹‹تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الاول ووحدانيته وبراءته عن السمات الى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج الى اعتبار من خلقه وفعله، وان كان ذلك دليلاً عليه، لكن هذا الباب اوثق واشرف.. اي اذا اعتبرنا حال الوجود، فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده من وجود. والى مثل هذا اشير في الكتاب الكريم {سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق..}. اقول: ان هذا حكم لقوم. ثم يقول: {او لم يكف بربك انه على كل شيء شهيد} فصلت/ 3 5. اقول إن هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه››.[4]
كما انه في (التعليقات) زاد على ذلك بنفيه ان يصح هناك دليل او برهان على الحق تعالى الا منه. اذ عرّف الحق بان وجوده يكون من ذاته، فلذلك الباري هو الحق وما سواه باطل. وان واجب الوجود لا برهان عليه ولا يعرف الا من ذاته، فهو كما قال تعالى: {شهد الله انه لا اله الا هو} البقرة/ 5 8 1، كما ان كل ما وجوده لذاته فيجب ان يكون واحداً.. وواجب الوجود هو ما يكون الوجود بالفعل داخلاً في حقيقته، اذ هو وجوب الوجود لا لازماً لحقيقته.[5]
ولا تختلف هذه الطريقة في حقيقتها عما استعان به صدر المتألهين من البرهان الذي اطلق عليه سبيل الصديقين. فهذا البرهان هو ايضاً عبارة عن اثبات واجب الوجود من نفس الوجود مباشرة، والذي يشار له - برأيه - من خلال دعاء رواه الشيخ ابو جعفر الطوسي في كتابه (مصباح المتهجدين) عن الامام الصادق (ع)، اذ قال وهو يعلّم كيفية الصلاة: ‹‹فقل في السجدة الثانية: يا من هداني اليه ودلتني حقيقة الوجود عليه وساقني من الحيرة الى معرفته››.[6]
وتحرير برهان هذه الطريقة يعتمد على بعض المصادرات كاعتبار الوجود حقيقة عينية واحدة بسيطة ومتفاوتة بالكمال والنقص. فاذا كان الوجود هكذا؛ فلا بد ان يكون كماله التام عبارة عن واجب الوجود، لان الضرورة قاضية بتقدم التام على الناقص استناداً الى اصل العلية كما مرّ معنا، وبه يثبت ان واجب الوجود يتمثل بالكمال التام للوجود. وفي رسالته (المشاعر) حدد القضية فاعتبر الوجود صرفاً مجرداً من غير مشوبة حد او نهاية او نقص او عموم او خصوص، وهو المسمى بواجب الوجود، فلو لم يكن مثل هذا الوجود موجوداً لما كان هناك شيء موجود، وبه لا يحتاج الى الاستدلال على نفي التسلسل.[7]
وهذا البرهان لم يسدد - لدى فيلسوفنا - الثغرة الخاصة باثبات وجود الله تعالى فحسب، بل كذلك اليه يعود الفضل في تسديد سائر الثغرات الاخرى التي تخص وحدته وعلمه وقدرته وقيمومته وما الى ذلك من صفات.
فباعتبار ان الوجود حقيقة واحدة لا يعتريها نقص بحسب سنخه وذاته ولا تعدد يُتصور في عدم محدوديته؛ فإنه يثبت وحدته. وباعتبار كون العلم ما هو الا الوجود؛ فإنه يثبت علمه بذاته وبما سواه، وكذا الحال مع الحياة. اما القدرة والارادة فتثبتان بكونهما تابعتين للعلم والحياة، وكذا قيمومته؛ لكون الوجود الشديد فيّاض وفعّال لما دونه من مراتب متأخرة عليه. [8]
يظل ان برهان الصديقين يتمشكل بمصادرة تحليل الوجود بمعناه الفعلي، فالمشكلة التي واجهتنا سابقاً هي عدم معقولية تحقق الوجود البحت المجرد عن اي شيء آخر، وكذا عدم معقولية اعتباره عين العلم او الحياة. وسبق للسهروردي ان اعتبر ادلة الفلاسفة على توحيد واجب الوجود صحيحة على فرض كون الوجود له صورة عينية في الاعيان حتى يبنى عليه ذلك الكلام، أما لو أُخذ الوجود كأمر اعتباري لما نفعت تلك الادلة[9]. لكن مع هذا لو سلمنا جدلاً بجميع ما سبق؛ فان نفي التسلسل يحتاج الى دليل آخر اجنبي، اذ قد يقال ان رتب الوجودات متسلسلة من حيث تمامها، فكل كمال فوقه ما هو اكمل منه بلا نهاية.
نعم، لو اراد ذلك البرهان التخلص من مشكلة التسلسل فلا بد من الاخذ بمذاق الصوفية التي تستغني عن الاستدلال على واجب الوجود؛ لبداهة كون الواقع شاهداً على الوجود، وهو عين الحق تعالى، فيثبت لها وجوده وتوحيده ونفي الحلول والاتحاد به مع الغير، اذ لا يوجد غيره ديّار. ولا شك ان هذه الحجة اولى من قول الفلاسفة، فهي لا تحتاج الى اكثر من كون شيء ما موجوداً، بلا اضطرار لافتراض وجود مراتب الكمال وتحديد هوية الواجب بالمرتبة الاولى وما يفضي اليه من الحاجة الى دليل نفي التسلسل.
لكنّا مع ذلك ندرك فائدة تحليل الوجود لاثبات الواجب وتوحيده، اذ ان اعتباره ماهية سوف لا يكون بالمستوى الذي يمكن ان يدفع بها شبهة ابن كمونة كلياً، بخلاف ما لو كان محض الوجود، حيث يعبّر عن حقيقة واحدة واجبة من جميع الجهات من دون نقص، كما نصّ عليه صدر الحكماء الشيرازي[10]، الذي عدّ في بعض كتبه ان ‹‹الحاكم بوحدته وقيموميته ليس هو العقل او الوهم بل ضرب من البرهان الوارد على القلب من عنده وقسط من النور الساطع من قبله يحكمان بأن مبدأ سلسلة الوجودات واحد حقيقي فياض بذاته››.[11]
الوجود ومسألة الصفات الالهية
مثلما أُنيط بالوجود اثبات الذات الالهية وتوحيدها، فانه أُنيط به ايضاً اثبات الصفات ووحدتها. فبالرغم من وجود الاختلاف والتكثر في معاني صفات الذات الالهية، الا انها لا تختلف من حيث الحيثيات والاعتبارات، فكل حيثية هي بعينها حيثية الصفة الاخرى ‹‹فعلمه تعالى بعينه قدرته، وقدرته تعالى بعينه ارادته ذاتاً واعتباراً››. مما يعني ايضاً ان الصورة المعقولة هي بعينها علم وقدرة وارادة.[12]
والسبب في كل هذه الاعتبارات هو ان حقيقته تعالى لما كانت كل الوجود، فجميع صفاته الكمالية تصبح ما هي الا محض الوجود بدون شائبة العدم، فتكون ذاته كل تلك الصفات، لان كل صفة عبارة عن وجود، اذ لو لم تكن وجوداً لكانت عدماً او مشوبة بالعدم، وبالتالي تصبح كل صفة عين الذات، حيث لا فرق في الوجود التام في نفسه، فيكون علمه عين الوجود وعين ذاته من دون فرق، وكذا قدرته وارادته وحياته، والحال نفسه يدل على عينية بعض الصفات لبعضها الآخر. وعلى حد قول احد اتباع صدر المتألهين من المعاصرين: ان ‹‹جميع الصفات الكمالية من العلم والقدرة والارادة في السعة والاطلاق تدور مع الوجود حيثما دار››.[13]
اما الاستدلالات التي طُرحت حول هذا المعنى؛ فمنها ما ذكره صدر المتألهين كما يلي:
اولاً: ان نفي عينية الصفات لذاته تعالى يلزم عنه التكثر في الذات لاجل كثرة صفاته.
ثانياً: لو كانت الصفات زائدة على ذاته للزم ان يكون كماله بأمر زائد عليه، فيكون بحسب ذاته ناقصاً.
ثالثاً: ان فيضان الصفات من ذاته على ذاته يستدعي جهة اشرف مما عليها واجب الوجود بالذات، فتكون ذاته اشرف من ذاته وهو محال بديهة. وايضاً لكانت ذاته تتكثر، لأن حيثية النقص غير حيثية الكمال، وهو باطل.[14]
الا انه في محل اخر اخلّ بفحوى ما ترمي اليه تلك الاستدلالات، اذ كشف عن معنى اخر اخف مما ابداه آنفاً، فقال: ‹‹معنى كون صفاته عين ذاته أن هذه الصفات المتكثرة الكمالية كلها موجودة بوجود الذات الاحدية، بمعنى انه ليس في الوجود ذاته تعالى متميزاً عن صفاته بحيث يكون كل منها شخصاً على حدة، ولا صفة منه متميزة عن صفة اخرى له بالحيثية المذكورة، بل هو قادر بنفس ذاته وعالم بعين ذاته، اي يعلم هو نفس ذاته المنكشفة عنده بذاته، ومريد بارادة هي نفس ذاته، بل نفس علمه المتعلق بنظام الوجود وسلسلة الاكوان من حيث انها ينبغي ان توجد››.[15]
وشبيه بذلك ما بيّنه من المقصود بقوله (صفاته عين ذاته)، فقد اعتبر هذه الصفات لا تزيد على ذاته بل هي عينها على معنى ان الحق تعالى من حيث حقيقته مبدأ لانتزاع الصفات عنه ومصداق لحملها عليه[16]. ووفقاً لهذا المعنى شبّه علاقة الصفات بالحق كعلاقة الماهية بالوجود، فكما ان الوجود موجود في نفسه من حيث نفسه، والماهية ليست موجودة في نفسها من حيث نفسها، وانما هي موجودة من حيث الوجود، كذلك صفات الحق واسماؤه فإنها موجودات لا في انفسها من حيث الحقيقة الاحدية. وهو بهذا اراد ان يكشف عن كون وجود الحق، الذي هو ذاته، هو بعينه مظهر جميع صفاته الكمالية من غير لزوم كثرة.[17]
والواقع ان هناك فرقاً كبيراً بين التصريح الاول الذي ذكرناه وبين هذه التصريحات الاخيرة. ففرق بين ان نقول: ‹‹العلم عين القدرة، وهما عين الذات؛ ذاتاً واعتباراً››، وبين ان نقول: ‹‹هو قادر بنفس ذاته، وعالم بعين ذاته››، او نقول: ‹‹حقيقته تعالى مبدأ لانتزاع الصفات عنه ومصداق لحملهما عليه››.
فالقول الثاني كما انه معقول فهو ايضاً لا ينفي وجود الكثرة لصفاته ولو اعتباراً، من حيث صدق كونها موجودة بوجود واحد هو وجود الذات. في حين ان المعنى الاول غير معقول. لهذا رفضته الصوفية مؤكدة على وجود النسب والاعتبارات المتكثرة في الذات، مما جعلها تحكم بجواز صدور الكثير عن الحق، مما لم يتقبله الفلاسفة ومنهم صدر المتألهين، رغم ان لسان حاله دال على قبوله مثل هذه الكثرة في الصفات، فعلى خلاف ما سبق ذكره اعتبر القدرة والارادة تابعين للعلم والحياة الذين هما عنده عين الوجود[18]، مما يقتضي تكثر الصفات وعدم عينية بعضها للبعض الآخر، خاصة انه قد صرح في محل آخر بأن التابعية تعني ان يكون للتابع وجود آخر غير وجود المتبوع.[19]
بل لديه تعبير آخر فيه الكثير من المرونة والتخفيف الذي يلائم المسلك الصوفي، اذ يقول: قد ‹‹صح قول من قال ان صفاته عين ذاته، وصح قول من قال انها غيره، وصح قول من قال انها لا عينه ولا غيره كما هو مذهب الاشعريين››.[20]
ولعله يقصد انها موجودة بوجود الذات مع انها ليست زائدة عليه تعالى.
كما ان ما يخدش في وحدة تلك الصفات وعينيتها للذات الواجبة، هو انه اجاز اعتبار ان يكون العلم عين العالم والقدرة عين القادر، وكذا مع غيرهما من الصفات الذاتية باستثناء صفة الكلام[21]، اذ اعتبرها غير المتكلم ليوافق ما جاء في حديث الامام موسى الكاظم الدال على هذا المضمون[22]، رغم ما يفضي به هذا المعنى من الاخلال بوحدة الصفات وعينيتها للذات.
ومن الملاحظات الاخرى هو ان صدر المتألهين اضاف الى تلك الصفات صفات اخرى تنبعث عنها، مثل كونه حكيماً، غفوراً، خالقاً، رازقاً، رحيماً، مبدئاً، معيداً، مصوراً، منشأً، محيياً، مميتاً، الى غير ذلك؛ معتبراً انها من فروع كونه قادراً على جميع المقدورات. وكذا هناك صفات اخرى موازية لها مثل كونه سميعاً، بصيراً، مدركاً، خبيراً، الى غير ذلك من الصفات التي اعتبرها مما تتفرع عن كونه عليماً بالاشياء. فجميع هذه الصفات موجودة بوجود واحد بسيط رغم تكثر معانيها[23]. مع انه في كتاب (المبدأ والمعاد) ابدى رأياً مخالفاً، اذ اعتبر تلك الصفات الاضافية مما لا يتكثر معناها ولا يختلف مقتضاها وان كانت زائدة على ذاته تعالى، فمبدئيته بعينها رازقيته، وكذا العكس، كما انهما بعينهما رحمته ولطفه، والعكس صحيح ايضاً، وهكذا في جميع تلك الصفات لا بد ان يكون بعضها عين البعض الآخر كي لا يؤدي تكثرها واختلافها الى تكثر الذات واختلافها.[24]
كما ان صفة الجود رغم انه اعتبرها في كتاب (اسرار الآيات) من تلك الصفات الاضافية[25]، الا انه في العديد من كتبه الاخرى عدّها من صفات الذات، مع انه عرفها بما يناسب ضمها الى باب الفعل لا الذات[26]، ومن ذلك انه في كتابه (المبدأ والمعاد) حسبها من صفات الذات لكنه عرفها بقوله: ‹‹جوده تعالى؛ فيضان الوجود منه على كل ما يقبله بقدر ما يقبله، من غير منع وبخل وتعويض، سواء كان جوهراً عينياً او ثناءاً او فرحاً او دعاءاً او ضنيناً.. كان فعله منبعثاً عن ذاته وكرمه ناشئاً عن حاق حقيقته غير معلل بغيره ولا مستند الى ما سواه فيكون فعله جوداً حقيقياً››.[27]
بالاضافة الى ان هناك صفات تشبيهية كتلك الخاصة باليدين والفرح والتعجب وغيرها، حيث يلاحظ ان صدر المتألهين، خلافاً لمن سبقه من الفلاسفة، قام باثباتها وفاقاً مع الغزالي وابن عربي. وكما علمنا ان اثبات هذه الصفات يعود بنا الى تصور المفهوم الاخر للوجود، الذ ي يصبح فيه الحق ذاتاً وماهية ليس كسائر الذوات والماهيات.
اخيراً فان صدر المتألهين يعترف بوجود صفات اخرى عدّها سلبية محضة، كالقدوسية والفردية والازلية وغيرها، والاتصاف بها يرجع الى سلب الاتصاف بصفات النقص.[28]
الوجود ومسألة القدرة والارادة
ان اهم الصفات التي تم تحديد كيفيتها تعويلاً على مفهوم الوجود هي العلم والقدرة والارادة. وحول العلم الالهي تعتبر نظرية صدر المتألهين ابرز النظريات التي طُرحت في هذا المجال، وقد اقرّت بعلمه تعالى لجميع الاشياء مع كثرتها في مرتبة ذاته قبل اللوازم والخوارج من دون اختلاف حيثية في ذاته، استناداً الى قاعدة بسيط الحقيقة كل الاشياء، اذ ان ماهيات الاشياء مع كثرتها تكون موجودة بوجود واحد، والمولى يعقلها بعقل واحد هو كون وجوده نفس عاقليته، فهذا الوجود هو بعينه علم بالاشياء التي هي عين ذاته. فلدى الفلاسفة ان العلم الالهي هو عين وجود المبدأ الحق وليس زائداً عليه[29]. فالعلم والوجود متساوقان، بل ان العلم يثبت من حيث اثبات الوجود. مما يعني انه باثبات الوجود يثبت المبدأ الحق، كما يثبت علمه.
***
اما القدرة الالهية فالملاحظ ان الفلاسفة وإن لم ينكروها صراحة، الا انهم حددوها بمحض الفعل بلا قوة، حيث لا توجد جهة امكانية في ذات الواجب، فهو واجب من جميع الجهات، وهو فعل تام من دون قوة، باعتباره عين الوجود بلا عدم. اذن هناك تساوق بين الوجود وهذه القدرة. فحيث الوجود طارد للعدم، فانه لا شيء الا وهو مقدور عليه بالايجاد والتكوين. وبالتالي كانت القدرة متعلقة بكل شيء، اذ لو كانت متعلقة ببعض الاشياء دون البعض الآخر لما كانت صرف حقيقة القدرة وتمامها[30]. فالمعتبر في قدرة المبدأ الحق وكذلك ارادته انما صرفها من غير شائبة امكان او عدم، وهو ما يساوق معنى الوجود.
واصل الخلاف بين الفلاسفة وغيرهم يدور حول الفعل إن كان يمكن ان يجتمع مع القدرة والارادة، ام يحصل بعدهما؟ فالفلاسفة ذهبوا الى الجواز، بل وجوب الحصول مع اجتماعهما[31]، في حين احال جماعة من المتكلمين ذلك.
والواقع ان ذلك ممكن ولا ضرورة لنفيه، ومنه يمكن الحكم بقدم العالم كما آل اليه الفلاسفة، لكن اعتبار القدرة والارادة عين العلم يذهب بهما هباءً ويفقدهما صفتهما الحقيقية. فعندهم انه اذا نسبت الممكنات الى حيث صدورها عن علمه تعالى كان هذا العلم قدرة بحسب هذا الاعتبار، واذا نسبت الى حيث علمه كاف في صدورها كان العلم بذلك ارادة[32]. فالفارق بين الفعل القائم على اساس الطبع المحض والفعل القائم على اساس الارادة؛ انما يُردّ الى ذات العلم والشعور، اذ الاول منفك عن العلم بالفعل والمفعول بخلاف الثاني، لان الفعل الذي لا يخلو من العلم والشعور؛ لا يخلو ايضاً عن الارادة والاختيار، من دون لزوم للسبق الذاتي والزماني للفعل. ولما كان مبدأ الموجودات يعلم حقيقة النظام في الكل؛ فلا محالة ان يكون علمه سبباً لوجود المعلوم، وبهذا تكون ارادته عين علمه بلا فرق[33]. لذا حين يكون التعلق العلمي بالذات، كما هو نحو الوجود، فان الارادة يكون تعلقها بالذات ايضاً، اما لو كان التعلق العلمي بالعرض والتبعية، كما بالنسبة الى الأعدام والنواقص، فأن الارادة تكون كذلك ايضاً[34]. وفي جميع الاحوال ان الفلاسفة يعدون العلم الالهي بالاشياء هو سبب وجودها، وهو من هذه الناحية يعبر عنه بالقدرة، كالذي يشير اليه ابن سينا في بعض رسائله.[35]
والواقع ان القدرة والارادة والاختيار ليست منفكة عن العلم، لكنها لو كانت عينه لاقتضى ان تكون صورية مسلوبة الحقيقة، ولو كان العلم شرطاً في تحققها لاقتضى ان تكون حقيقية لا مجازية؛ بغض النظر عما لو سبقت الفعل ام اقترنت معه.
وما قيل، كما عن الغزالي، من ان القول بقدرته واختياره يتنافى مع القول بالعلة والمعلول[36]؛ هو صحيح لدى اعتبار قدرته وارادته عين علمه. لكن لو كانت هذه القدرة والارادة متممتين للعلة لاصبح التعارض والتنافي منفياً. وعليه لم يتمكن الفلاسفة من ان يوفقوا بين القول بالقدرة والارادة من جهة، ومقالتهم في اعتبار المبدأ الحق واجباً من جميع الجهات، بما في ذلك العلية المسندة الى العلم اساساً، من جهة ثانية. فشبهة القيد او اليد المغلولة بذاتها تظل محكمة على رغم بعض المحاولات التي رام فيها الفلاسفة ان يذبّوا عن انفسهم تلك الشبهة، والتي منها ما ذكره الطباطبائي من المعاصرين حين قال: ‹‹معنى كونه تعالى فاعلاً مختاراً انه ليس وراءه تعالى شيء يجبره على فعل او ترك فيوجبه عليه، فإن الشيء المفروض اما معلول له واما غير معلول. والثاني محال لانه واجب آخر او فعل لواجب آخر او ادلة التوحيد تبطله. والاول ايضاً محال، لاستلزامه تأثير المعلول بوجوده القائم بالعلة المتأخر عنها في وجود علته التي يستفيض عنها الوجود، فكون الواجب تعالى مختاراً في فعله لا ينافي ايجابه الفعل الصادر عن نفسه ولا ايجابه الفعل ينافي كونه مختاراً فيه››.[37]
وواضح ان هذا الكلام لا ينفي القيد الذاتي المتمثل بضيق القدرة والارادة ذاتاً وليس بفعل اخر مستقل. فالى هذا القيد يمكن عزو طبيعة التأثير المحدد ازلاً وابداً. وهو ما يستمد مبرره من تحكم منطق السنخية وما تقتضيه من الحتمية في علاقة العلية، فلولا هذا المنطق لأمكن للفلاسفة ان يوفقوا بين التأثير القديم والارادة الازلية، اذ لا تنافي بينهما عند التدقيق.
لهذا نسب الجامي الى الحكماء نفيهم للارادة عن المبدأ الحق بالمرة، معتبرين الاثر القديم لا يمكن ان يستند الى الفاعل المختار، باعتبار ان المختار مسبوق بالقصد قبل ايجاد الشيء ضرورة[38]. وتصحيحاً لهذا الموقف اعتبر الجامي ان الارادة زائدة على الذات بحسب التعقل لا الخارج كما في سائر الصفات، وهو موقف وسط بين المتكلمين القائلين بزيادتها على الذات خارجاً وبين الحكماء الذين نسب اليهم نفيها بالمرة، لكنه موقف لا يختلف عما يريده الفلاسفة من مآل، اذ لم يزد عن كون الارادة والاختيار الالهي هو نفس المعلوم المراد في نفسه دون امر آخر. واعترف بأن هذا المعنى يشكل وسطاً بين الجبر والاختيار.[39]
لكن في ردّ ابن رشد على الغزالي ذكر بان الفلاسفة يعدون الارادة صفة زائدة على العلم، فالمبدأ الحق يعلم الضدين فيصدر عنه احدهما بارادته[40]، او ان البرهان على ان الحق مريد هو انه عالم بالضدين ‹‹فلو كان فاعلاً من جهة ما هو عالم فقط لفعل الضدين معاً وذلك مستحيل، فوجب ان يكون فعله احد الضدين باختيار››[41]. مع انه لو صح كلامه لما كان علمه بذاته هو ذات علمه بالاشياء جميعاً، بل لكان علمه اكبر من ذلك؛ لعلمه بما يريده فيقع والذي لا يريده فلا يقع. والاعجب من ذلك قوله: ‹‹علم الله بالموجودات وإن كان علة لها فهي ايضاً لازمة لعلمه، ولذلك لزم ان يقع الموجود على وفق علمه››[42]. مع ان هذا يناقض ما سبق تقريره من انه عالم بالضدين. فعلى تقريره الاخير ينبغي ان يكون هذا العلم علة لايجاد الضدين معاً لكونه عالماً بهما وليس بواحد منهما.
وكذا ما نسبه شيخ الاشراق السهروردي الى الحكماء بأنهم لا يعتقدون بابداع الاشياء بناءً على ارادته، لكون الارادة لا تكون الا عند ترجيح احد الجانبين على الآخر، فبذلك تقتضي الغرض اما لذاته او لغيره، وهو منزه عنه، لان ذاته بنفسها مما تقتضي الوجود[43]. وما هذا الا تعبير آخر عن اصالة الحتمية في علية المبدأ الحق. بل ان اعتبار الوجود حقيقة واحدة منبسطة على الاشياء بذاتها من دون اعتبار آخر، كما عليه رأي صدر المتألهين، لا يدع مجالاً للقول بالارادة والقدرة ولا الخلق والابداع على النحو الحقيقي.
لهذا فان ما يلزم عن مقالة الفلاسفة في عينية الارادة للعلم ليس القول بقدم العالم من حيث الافلاك وانواع الحوادث فحسب، بل يلزم عنهم ايضاً القول بأزلية افراد الحوادث قاطبة، حيث العلم بالحادث ازلي، والارادة عين العلم، وهي متعلقة بالمراد المعلوم، فلا بد للحادث ان يكون ازلياً معها، بل وان يظل على حدوثه ابداً، وهو تناقض إن لم نقل بأنه عبارة اخرى عن قدم الاشياء جميعاً من دون فرق بين الحوادث وغيرها. فهذه المشكلة هي التي جعلت الفلاسفة يضطرون - اتباعاً لافلوطين - الى القول بحضور الحوادث امام الحق من دون غياب وعدم، وما هذا الذي نراه من غياب وعدم للحوادث انما هو بحسب بعض اوعية الوجود ذات الافق الضيق.
هكذا فان اعتبار الارادة والقدرة هي عين العلم ذاته، وان هذا العلم هو عين الوجود، وان هذا الوجود منبسط.. كل ذلك يدل على قدم الكل من غير استثناء، وهنا تتولد لدينا شبهة الصوفية في جعل الكل واجباً من غير تمايز..
[1] الاسفار، حاشية، ج6، ص13.
[2] المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص46.
[3] النجاة، ص235.
[4] الاشارات والتنبيهات، طبعة دار المعارف، مصدر سابق، القسمان الثالث والرابع، ص482-483ـ.
[5] التعليقات لابن سينا، ص70.
[6] الخراساني: النظرة الدقيقة في قاعدة بسيط الحقيقة، مصدر سابق، ص37.
[7] لاحظ: الاسفار، ج6، ص14-15 45 1. واسرار الآيات، ص26-27 67 2. وشرح المشاعر، ص202-209.
[8] الاسفار، ج6، ص24-25.
[9] المشارع والمطارح، ص390-393.
[10] الشواهد الربوبية، ص37-38. وشرح رسالة المشاعر، ص221-227.
[11] الشواهد الربوبية، ص52.
[12] لاحظ: الاسفار، ج7، ص238 82. والمظاهر الالهية، ص18-19. والمبدأ والمعاد لابن سينا، ص20-21.
[13] حاشية المظاهر الالهية، ص18.
[14] المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص72.
[15] الاسفار، ج7، ص238.
[16] لاحظ: المظاهر الالهية، ص21. وشرح الهداية الاثيرية، ص295.
[17] الشواهد الربوبية، ص38-39.
[18] الاسفار، ج6، ص36.
[19] الاسفار، ج6، ص282.
[20] المظاهر الالهية، ص191. كذلك اسرار الايات، ص40.
[21] صفة الكلام عند صدر المتألهين هي من الصفات الذاتية للمبدأ الحق ‹‹من حيث يخلق الاصوات والحروف في اي موضع كان من الاجسام لافادة ما في قضائه السابق على من يشاء من عباده››. مع ان هذا التحليل للكلام الالهي لا يفهم منه صفة الذات بقدر ما يفهم منه صفة الفعل، خاصة انه ينفي الكلام النفسي الذي قالته الاشاعرة (لاحظ المبدأ والمعاد، ص145).
[22] كتاب التوحيد من شرح اصول الكافي، باب النهي عن الجسمية.
[23] الاسفار، ج6، ص146-147.
[24] لاحظ: المبدأ والمعاد، ص75. والمظاهر الالهية، ص21-22. وشرح الهداية الاثيرية، ص295.
[25] اسرار الآيات، ص44.
[26] ربما لهذا عدها الطباطبائي من صفات الفعل لا الذات، كما في: (نهاية الحكمة، مصدر سابق، ص287).
[27] لاحظ: المبدأ والمعاد، ص147. والمظاهر الالهية، ص21 و33. وشرح الهداية الاثيرية، ص295.
[28] المظاهر الالهية، ص21. وشرح الهداية الاثيرية، ص295.
[29] المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص85 وما بعدها.
[30] شرح رسالة المشاعر، ص282. والتعليقات لابن سينا، ص50-51.
[31] حاشية الطوسي للمحصل، ص233.
[32] المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص131.
[33] لاحظ: رسالة العرشية لابن سينا، ص10 و11. ومقاصد الفلاسفة، ص235 . والمبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص51.
[34] الخميني: طلب وارادة، ص33.
[35] رسالة العرشية، ضمن رسائل ابن سينا، مصدر سابق، ص249 .
[36] الغزالي: روضة الطالبين من فرائد اللآلي، نشر فرج الله ذكي الكردي في مصر، 1343هـ - 1924م، ص154.
[37] نهاية الحكمة، ص161.
[38] الجامي: الدرة الفاخرة، مصدر سابق، ص28-29.
[39] المصدر السابق، ص25-27.
[40] تهافت التهافت، ص438-439.
[41] تهافت التهافت، ص450.
[42] تهافت التهافت، ص532.
[43] رسالة في اعتقاد الحكماء، ضمن مجموعة في الحكمة الإلهية من مصنفات السهروردي، مصدر سابق، ص266. وعلى حد قول السيد الخميني انه يستحيل ان يكون فعله ذا غرض وغاية، بل الغاية في فعله هو النظام الاتم التابع للنظام الرباني وهو ذاته، فالفاعل والغاية فيه واحد هو ذاته تعالى (طلب وارادة، ص45).