يحيى محمد
لا تخلو قضية التكليف لدى الفهم الوجودي من البعد التكويني، خصوصاً وانها محددة كغيرها من القضايا بفعل منطق السنخية وتراتبية الوجود. فالتكليف المشهود في عالمنا الانساني له اصول في العالم العلوي بنحو ما من انحاء الكمال. وسبق لابن رشد ان اعتبر الاجرام السماوية تتحرك الى مبادئها المفارقة ‹‹على جهة الطاعة لها والمحبة فيها والامتثال لامرها اياها بالحركة والفهم عنها، وانها انما خُلقت من اجل الحركة››، لذلك ‹‹تكون الاجسام السماوية حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مبادئها المحركة لها على جهة الامر لها››، وصح عند الفلاسفة ان الآمر بحركة الاجرام السماوية هو مبدأ الوجود الاول، اذ امر سائر المبادئ ان تأمر سائر الافلاك بسائر الحركات، وانه بهذا الامر قامت السماوات والارض، ومنه نشأ ما على الانسان من الطاعة والتكليف1.
ويقارب هذا المعنى ما اشار اليه صدر المتألهين الذي اعتبر صلاة الانسان هي نتاج تشبّه ما للنفس البشرية بنفوس الاجرام السماوية في تعبدها الدائم من الركوع والسجود والقيام والقعود طلباً للثواب السرمدي وتقرباً الى المعبود الصمدي2، وان حركة الاجرام انما تجري طلباً لعبادة الله وطاعته3.
وبنظر الغزالي ان الامر الالهي يتخذ من حيث الوضع التكويني ظاهرة التكوين والابداع، ومن حيث الوضع الانساني هو القول الذي يتخذ صيغة الامر والنهي والوعد والوعيد والخبر والاستخبار. فهناك بالتالي امر تكويني يخص اوضاع الملائكة في سوقها الموجودات الى كمالاتها، كما هناك امر تكليفي يخص الانبياء ويراد به ايصال المكلفين الى كمالاتهم بقبولهم الثواب. فالملائكة والانبياء هم عمال الامر الاعلى في عالمي الخلق والامر4.
وعلى هذه الشاكلة ذكر الجنابذي بان الاوامر التكليفية متسببة عن الاوامر التكوينية وموافقة لها رغم اننا لا ندرك احياناً طبيعة هذا التوافق، لعدم العلم بالتكوين5. وكذا فان صدر المتألهين اعتبر العبادة على ضربين، احداهما وجودية والاخرى تكليفية، فاما الاولى فهي محتمة بحسب ما عليه طبيعة الوجود والغاية التي تطلبها كل الكائنات نحو كمالاتها الخاصة، وبالتالي سعيها باتجاه الحق، واليه الاشارة بقوله تعالى: {وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه}6. في حين ان العبادة الاخرى تخص الانسان باعتبارها لا تخلو من التكلّف والتعمل تبعاً للامر والنهي7. وفي تفسيره للقرآن اعتبر التكليف وبعث الرسالات من القوانين العامة التي تقتضيها عملية الايجاد والتكوين، حيث لها فائدة بحسب ما يفرضه القضاء الوجودي في سابق الأزل8.
وفي جميع الاحوال ان الفلاسفة يقرون بأن التكليف في الارض لم يكن يعرف الوجود لولا وجوده السابق في العالم العلوي السماوي، تبعاً لمنطق السنخية ونظرية الامكان الاشرف.
ونفس الامر يمكن تحقيقه من حيث النظر العرفاني تبعاً لمنطق الاعيان الثابتة، كالذي يشير اليه ابن عربي، وهو ان مصدر التكليف ينبع من تلك الاعيان، اذ لسان حال كل منّا في هذه الاعيان يطلب التكليف من الحق الذي ليس له الا افاضة الوجود على هذا الطلب وتلك القابلية، لذلك سُمينا مكلفين9. ولدى هذا العارف انه ما من جزء من الانسان الا وهو مكلف بحسب ما يليق به من العبادات، فالاجزاء الانسانية وان كانت مدبرة الا ان لها تكليفاً يخصها ويناسب ذاتها، وبجمعيتها تقول لله: ‹‹لك نصلي واليك نسعى ونحمد، واياك نعبد››.10
من جهة ثنية، يرى ابن عربي ان العبادة بين الحق والخلق متبادلة، وكما جاء في بيت له من الشعر:
فيحمدني واحمدهويعبدني فاعبده
وبحسب شرح القيصري، ان الحق يحمدني اذ يظهر في ايجادي على صورته وتجليه لقلبي وتكميل نفسي، وانا احمده بلسان الحال باظهار كمالاته واحكام صفاته في مرآة عيني. أما كونه يعبدني فهو يأتي من حيث خلقي وايجادي واظهاري في مراتب الوجود المختلفة، حيث ان الاظهار والايجاد للشيء من الغيب الى الشهادة هو نوع من الخدمة والعبادة. وكوني اعبده فان ما يترتب على عبادته لي باظهاري؛ هو ان اقوم بعبادته، وعبادتي له في الظاهر هي اقامة حدوده وحقوقه واوامره ونواهيه، اما عبادتي له في الباطن فهي قبول تجلياته الذاتية والاسمائية واظهار احكامها11. وكل ذلك يجري تبعاً للامر المحتوم، حيث لا يمكن للانسان ان يتخلف عما تقتضيه عينه الثابتة من العبادة والتكليف، او عما يلزم عن الاسماء الالهية من المربوبات التي تتبعها.
ومن الناحية الرئيسية تتخذ العبادة في التكليف الوجودي صيغة المعرفة بالعلم والعرفان، لأن المعرفة هي الغاية القصوى من الوجود والايجاد. وعليه نفهم لماذا يصرّ الفلاسفة والعرفاء على اثبات المطابقة والترادف بين العبادة والمعرفة في معنى الغاية التي نصّ عليها القرآن في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون} الذاريات/ 6 5، اذ عُدت الغاية من وجود العالم هي المعرفة12، وان التعبد هو عرفان الحق والعلم به وبآياته، كالذي صرح به صدر المتألهين13. وكان ابن عربي ممن يلتزم بظاهر نص الاية، لكنه لجأ الى تفسيرها بمعنى المعرفة احياناً14. وذهب القيصري الى تشخيص العلة الغائية من ايجاد الحادث بعرفان الموجد، حيث العبادة تستلزم معرفة المعبود، مستشهداً على ذلك بما يُنقل عن ابن عباس في تفسيره لتلك الاية بانها تعني المعرفة15. كذلك هو حال ابن رشد الذي ذهب الى ان الخالق لا يعبد بعبادة اشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي الى معرفة ذاته على الحقيقة، وعلى رأيه ان هذا هو أشرف الأعمال عند الحق وأحظاها لديه16. وقبل هؤلاء ذهب ابن سينا الى ان عبادة الله هي عرفان له، وعلى رأيه انه ليس من التأويل بشيء اذا ما اعتبرنا الاية السالفة الذكر تشخص الغاية بالمعرفة17.
فالمعرفة، وبالتحديد معرفة الحق، هي العبادة العظمى والغاية المطلوبة والسعادة القصوى لدى كل من الفلاسفة والعرفاء، اي سواء كانت نتاجاً للعقل والبرهان كما يقول الاولون، او انها نتاج الكشف والذوق كما يذهب الى ذلك الاخرون.
مع هذا يمكن القول ان المنظومة الوجودية تعجز عن ان تجد تبريراً منطقياً يفسر به التكليف بوصفه قضية معيارية خارج الشكلية الحتمية من العلاقات الوجودية. وقد سبق لابن عربي ان شكك بحقيقة التكليف استناداً الى رأيه في وحدة الوجود.
1 تهافت التهافت، ص184-185.
2 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج7، ص222.
3 تفسير صدر المتألهين، مصدر سابق، ج6، ص121.
4 معارج القدس، ص172 و174.
5 سلطان محمد الجنابذي: بيان السعادة في مقامات العبادة، مقدمة سلطان حسين تابنده الجنابذي، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1988م، ج2، ص16.
6 الاسراء/ 23.
7 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج3، ص138-139.
8 تفسير صدر المتألهين، ج4، ص234ـ235. ومفاتيح الغيب، ص167-168.
9 شرح الفصوص، ص3523. والفصوص والتعليقات عليه، ج1، ص82-83.
10 كتاب العظمة، ضمن رسائل ابن عربي (1)، ص92.
11 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص375.
12 تفسير صدر المتألهين، ج6، ص155.
13 يرى صدر المتألهين ان سرّ الصلاة التي هي عماد الدين، هو العلم بوحدانية الحق ووجوب وجوده وصفاته وإحكام اياته ومعرفة امره وخلقه وقضائه وقدره وعنايته وحكمته وارادته وقدرته ويده وقلمه ولوحه ورقمه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر ورجوع الخلائق اليه ومثول الارواح بين يديه، مع الاخلاص له في العبودية (تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج7، ص223).
14 كتاب القطب والامامين والمدلجين، ضمن رسائل ابن عربي (1)، ص220.
15 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص196.
16 تفسير ما بعد الطبيعة، ج1، ص10.
17 رسالة في ماهية الصلاة، ضمن رسائل ابن سينا في اسرار الحكمة المشرقية، ص34-35.