يحيى محمد
لمسألة قدم العالم علاقة صميمة بمنطق السنخية، فافتراض ان يكون المبدأ الاول قديماً يلزم ان ينشأ عنه قديم مثله، وهو العالم، سواء فسرنا الامر تبعاً لعلاقة العلة بالمعلول، او تبعاً لعلاقة الذات بشؤونها وصفاتها واحوالها الخاصة. الامر الذي يحفظ للوجود وحدته، لاننا لو تصورنا ان هناك انفصالاً بين المبدأ الاول والعالم؛ كإن يكون قد خلق العالم من لا شيء، اي اوجده من العدم والامكان المحض، فذلك يعني ان الوجود ينطوي في حقيقته على ثنائية تامة، حيث ليس للمخلوق علاقة بموجده، وبالتالي لا يمكننا ان نحكم على هذا الوجود الا بالتعدد والثنائية، وانه يقتضي اجنبية المخلوق عن الخالق. لهذا كان برتراند رسل في (تاريخ الفلسفة الغربية) يعتبر نظرية الفيض بعموميتها والتي تقول باستحالة خلق العالم من لا شيء قد انتهت في فترات من العصور المسيحية الى مذهب وحدة الوجود1. وهو تقدير لا يخلو من صحة، فبحسب منطق السنخية، الذي تعوّل عليه نظرية الفيض والقول بقدم العالم، فإن جميع الاشياء تصبح ذات طبيعة واحدة مشتركة وان تفاوتت في الكمال والشدة، فتبعاً لقاعدة الامكان الاشرف؛ يكون كل نوع حاملاً لجميع كمالات ما تحته من المراتب، وهكذا تتسلسل مراتب الوجود ابتداءً من اولها الذي يمثل كل الاشياء من حيث الكمال والشدة، وحتى آخرها. فهذه هي فكرة وحدة الوجود التي تبررها نظريتا الفيض وقدم العالم تبعاً لمنطق السنخية.
على ان الفلاسفة اعتبروا العالم قديماً من حيث الزمان بدوام الفلك والكواكب وبسائط الاجرام وصورها ونفوسها نوعاً وشخصاً، وكذا دوام المركبات وصورها ونفوسها نوعاً لا شخصاً. كما ان هناك حالة توفيقية مخففة لدى صدر المتألهين، حيث اعترف بالحدوث الزماني للعالم بكل ما فيه، سواء من الفلكيات ام العنصريات، فالجميع عنده يقع تحت الفساد ويلحقه الفناء والعدم والزوال والدثور، ومن ثم يؤول الى اخراج البواطن واظهار الحقائق غير الحسية يوم القيامة، كما استفاد في ذلك من كشفه لبعض الايات القرآنية2. لكنه مع هذا لم يتخل عن الاعتقاد بدوام الجود المطلق وازلية الصنع والافاضة على نسق واحد ازلاً وابداً، رغم حدوث الكل زماناً3، من حيث ان كل حادثة تسبقها اخرى الى ما لا بداية له. 4
وكانت طريقته في اثبات دوام الحدوث وازليته مستمدة من تحليله للحركة الجوهرية للطبيعة؛ ذات الهوية الاتصالية المتدرجة الوجود، فلديه ان الحدوث والتجدد هو من لوازم الجوهر الجسماني الغير المجعول؛ باعتبار ان الذاتي لا يعلل، فلا يوجد جعل مستأنف يتخلل بين هذا التجدد وذلك الجوهر، اذ ما يرتبط بالحق تعالى ازلاً انما هو هذه الجواهر الثابتة التجدد، فقاعدة السنخية لا تسمح بارتباط المتغير بالثابت، فاذا ما كانت العلة ثابتة فلا بد ان يكون المعلول ثابتاً مثلها، اي استناداً الى كون علة الثابت ثابتة وعلة المتغير متغيرة5. وهو من جهة اخرى اعتبر الامر الثابت لطبيعة الجوهر الشخصي السيالة انما هو وجوده العقلي وصورته العلمية المفارقة؛ التي هي الحقيقة النوعية الثابتة الوجود في علم المبدأ الحق، المعبر عنها بالعقل العرضي او رب النوع، والذي يمثل صورة عقلية ثابتة عند الحق وباقية في علمه مصونة عن التغير والحدوث. 6
اذن بحسب وجهة نظر هذا الفيلسوف العارف انه رغم جريان الحدوث في العالم فانه يرتبط بالقديم ارتباط الثابت بالثابت، ازلاً وابداً. الامر الذي دعاه الى توجيه وتأويل عدد من الايات القرآنية، كقوله تعالى: {ان الله يمسك السماوات والارض أن تزولا} فاطر/41، و{خالدين فيها ما دامت السماوات والارض} هود/107، و{عطاء غير مجذوذ} هود/108، و{وما كان عطاء ربك محظوراً} الاسراء/20. 7
وتعتبر نظرية ارتباط الحادث بالقديم، والمتجدد بالثابت، من المسلمات التي عول عليها الفلاسفة المسلمون، رغم انهم لم يستعينوا - قبل صدر المتألهين - بنظرية الحركة الجوهرية، ولا اعتقدوا بحدوث الافلاك والاجرام السماوية، انما اعتمدوا على حلقة الوصل من الثبات الخاص لكل من الانواع الارضية رغم فساد افرادها وزوالها، وكذلك الثبات الخاص باتصال الحركة الفلكية ودوامها، وان كانت طبيعتها التجدد والحدوث.8
ورغم ان هذه النظرية تستند الى منطق السنخية، لكن مع ذلك فان هذا المنطق ليس بمقدوره ان يبرر النظرية التبرير التام، اذ لا يكفي القول بضرورة ان يتولد عن الثابت ثابت مثله، وكذا عن المتغير متغير مثله، بل لا بد ان يكون بين الطرفين ايضاً تشاكل من حيث الطبيعة او الحقيقة الخارجية، وهو ما لا تقدمه تلك النظرية، حيث لا شبه بين طبيعة الحدوث الثابت الوجود وبين ما عليه عالم الاله السرمدي. وقد سبق لارسطو ان أشكل على مُثل استاذه افلاطون من خلال نفس هذا المنطق في كيفية ارتباط الثابت بالمتغير، اذ ما الذي يجمع بين المثل الثابتة وبين صورها الحسية المتغيرة على الدوام؟ فحيث ان المثل ثابتة فلا بد تبعاً لذلك ان تكون صورها المتمثلة بالاشياء الحسية ثابتة مثلها، وهو خلاف الواقع.9
لكنا نجد في نظرية افلوطين تصويراً للحركة والسكون في العقول المفارقة، وهي انها اشبه ما تكون بالسكون، حيث ليس فيها من النقلة والاستحالة، ولا التغير ولا التبدل، وانما هي ثابتة على حال واحد هو ابتغاء علم العلة الا ولى10. كما ان صدر المتألهين قد فسر مقولة الحركة في العقل لدى افلوطين بانها تعني الصدور لا التغير، فاختلاف الحركات في العقل يعني اختلاف جهات الصدور كماً وكيفاً كالذي مرّ علينا في السابق.11
ومن الناحية الفلسفية ان نظرية قدم العالم، او ازلية الصنع والحدوث، لها عدد من المبررات اهمها ما يلي:
الاول: حتمية ارتباط العلة بالمعلول واعتبار المبدأ الحق علة تامة واجبة؛ لا يمكن فك المعلول عنه ما دام موجوداً، ازلاً وابداً، فذاته واجبة بجميع ما لها من نعوت، والتي منها نعت العلة، لان موجب عليتها نفس الذات من دون حالة اخرى منتظرة، فبما تتحقق ذاتها تتحقق عليتها12. واحياناً عبّر الفلاسفة عن ذلك بارادته التي هي عين علمه الازلي، فحكموا من خلالها بقدم العالم، كما استنتجه الطوسي في حكايته لرأي الفلاسفة.13
الثاني: استحالة الترجيح بلا مرجح. ولهذا المبدأ جانبان، احدهما مسلم به لدى جميع مذاهب الفكر الاسلامي، والاخر هو موضع وجهات النظر والاختلاف بينها. فالاول يعني كون الحادثة لا يمكنها ان تقع ما لم ترتبط بعلة فاعلة ترجحها، وهو الذي يطلق عليه مبدأ السببية العامة. أما الثاني فله معنى على سبيل الغاية، فهو يرتبط بصدور الفعل والسلوك عن الكائن الذي له شيء من القدرة والارادة او الاختيار، وهو موضع اختلاف المفكرين. فعدد من المذاهب الكلامية - خلافاً للفلا سفة - تعتقد بصحة صدور الفعل عن القادر من غير مرجح يرجح وجوده على عدمه. كما لا ترى ضرورة وجود مرجح يرجح طريقة تنفيذ الفعل واللحظة التي يتم فيها ذلك.
وقد طبقت المسألة الاخيرة على قضية الخلق. فالسؤال المتبادر: لو ان الله تعالى خلق العالم ابتداء في فترة ما من الفترات - على فرض وجود فترات زمنية قبل الحدوث -؛ فكيف رجح هذه الفترة دون غيرها مع تساويها في الاعتبار؟
ولو اخطأنا التعبير في قولنا بالفترة الزمنية قبل الحدوث، فان من الممكن استبدال السؤال بصيغة اخرى مناسبة، وذلك كالتالي: ما الداعي لأن يرجح الحق وجود العالم ابتداء؛ على وجوده معه ازلاً؟
وفي معرض الاستدلال نجد هناك تعارضاً في الاعتبارات العقلية بالنسبة الى كل من القائلين بالازلية والابتداء.
فمبرر الكلاميين هو ان اعتبار الحوادث لا بداية لها هو كاعتبار وجود علل غير متناهية، فكلاهما يواجهان مشكلة التسلسل الممتنع، حتى ان هناك من اعتبر ذلك متناقضاً14. والحال ان تصور الازلية في حد ذاته يمنع هذه الاعتبارات، اذ لا فرق بين ان تكون هذه الازلية عبارة عن شيء واحد ثابت، او هي عبارة عن حوادث متجددة، ففي كلا الحالتين ليست هناك بداية محددة.
أما موقف الفلاسفة فهو يستند الى المبدئين السابقين، اي اعتبار ذات الحق واجبة من جميع الصفات بما فيها صفة العلة التامة، وكذا استحالة الترجيح بلا مرجح.
مع ان الاخذ بأحد هذين المبدئين يكون على حساب الاخر، فهما لا يجتمعان معاً. فصفة العلة التامة القائمة على العلم الوجودي لا تبرر ان يكون هناك دور للقدرة والاختيار والارادة ما لم تُفهم مجازاً، كما هو حال ما يريده الفلاسفة. فمثلاً يرى ابن سينا ان العلم الالهي بالاشياء هو سبب وجودها، وهو نفسه يمثل القدرة15. أما التعويل على مبدأ نفي الترجيح بلا مرجح فانه مشروط بوجود تلك الصفات، لكونه مرتبطاً بمعاني تحقيق الغاية. ويبقى ان ما يتسق مع منطق الفلاسفة هو الاخذ بالمبدأ الاول دون الثاني.
هذا بالاضافة الى ان المبدأ الثاني لا يؤيده الواقع. ففي ظل خيارات الانسان لا مانع من اختيار طريقة ما من بين طرق مماثلة لتحقيق غاية منشودة رغم عدم وجود المرجح، اذ تصبح عملية الترجيح موكولة الى الغاية لا طرق الاختيار ذاتها، كما يطلعنا عليه الواقع. الامر الذي اضطر الفلاسفة الى افتراض عوامل سببية فاعلة وخفية تؤكد مضمون الترجيح بالمرجح الخفي، وبذلك تتحول القضية من معنى السببية ذات العلاقة بالغاية الى معناها الصارم المنكر للقدرة وحرية الاختيار. وهنا نعود مرة اخرى الى المبدأ الاول الذي يتسق مع مطالب العقل الوجودي. لذا اجاب صدر المتألهين على مسألة ما يبدو من ترجيح الانسان لبعض الامور المتكافئة بدون مرجحات، بالابتعاد عن منطق الملاحظة الواقعية وافتراض عوامل خفية تسبب الترجيح في نفس المختار من دون ان يشعر، كعوامل التأثيرات الخفية للاوضاع الفلكية والامور العالية الالهية16. ولا شك ان دلالة مثل هذه التأثيرات (الخفية) ليس مجرد الترجيح للامور المتكافئة؛ بقدر ما يكون لها من دلالة على تسيير الانسان وسلب الاختيار منه كلياً.
بل ان قاعدة نفي الترجيح بلا مرحج تصبح هي ذاتها مستمدة من منطق العلية الصارم، او الحتمية التي لا يوجد فيها اي مجال لافتراض التعدد في الخيارات او القدرة او الارادة. وفعلاً ان البعض حوّلها الى هذا الفهم من دون تمييز، فاعتبر ان عاقبة جواز الترجيح بلا مرجح تفضي لا فقط الى سد باب اثبات الصانع، وانما الى غلق مطلق النظر والبحث والاعتماد على اليقينيات، لعدم الامن عن ترتب نقيض النتيجة عليها17. وهي محاولة تريد ان تجعل من ذلك الجواز يقتضي في حد ذاته اجتماع النقيضين، كما صرح بذلك السيد الخميني من العرفاء المعاصرين18.
بل حتى لو سلمنا بان هذه القاعدة منتزعة عن قانون السببية العامة، او هي عينها، فان من غير الصحيح ان يستدل عليها بمبدأ عدم التناقض، وسبق لديفيد هيوم ان اثبت بطلان العلاقة بينهما، وهو امر أيّده المفكر محمد باقر الصدر في كتابه اللامع (الاسس المنطقية للاستقراء)، بل ونقد محاولتين استهدفتا اثبات السببية تبعاً لذلك المبدأ، احداهما تعود الى صدر المتألهين، والاخرى ترجع الى المرحوم محمد حسين الطباطبائي.19
مهما يكن فان ما يراد بقاعدة (استحالة الترجيح بلا مرجح) يختلف عما يتضمنه مفهوم السببية العامة، فترجيح بعض الطرق المتكافئة بدون مرجح؛ لا ينفي هذا المفهوم العام. فعملية الترجيح ليست منقطعة الجذور عن العلة الفاعلة التي تناط بها تلك السببية. لذلك نجد ابن رشد قد وافق على هذا المعنى الذي تتضمنه القاعدة المذكورة، وإن كان بفعله هذا قد خرج عن المؤدى الفلسفي الذي عوّل عليه الفلاسفة من ضرورة ان تكون هناك حتمية في العلاقات السببية طالما انها محكومة بالعلة التامة الاولى. فقد رد في (تهافت التهافت) على بعض اشكالات الغزالي التي اثارها بهذا الصدد، فاعتبر مثال التمرتين المتساويتين تغليطاً، وذلك لان اخذ تمرة منهما ليس ترجيح احداهما على الاخرى، وانما ترجيح اي منهما على الترك المطلق. وبالتالي فليس هنا تمييز المثل عن مثله، بل اقامة المثل بدل المثل، اذ يتم بلوغ المراد بأخذ اي من التمرتين على السواء.20
وما نود تأكيده هو ان اغلب افعالنا وتصرفاتنا منبعثة عن ترجيح ما لا مرجح له. فنحن مثلاً حين نمد يدنا لنغترف غرفة من الماء الجاري لا نميز بين الجزيئات التي صادف ان تناولناها عن غيرها من الجزيئات المماثلة لها، او حينما نخطو خطوات المسير لا يمكننا ان نميز بين الامكنة المتماثلة. وكذا في جميع الممارسات التي الفناها في حياتنا اليومية. فلولا عدم الترجيح في مثل هذه الممارسات لكان من المستحيل علينا ان نقوم باي حركة ارادية مهما كانت بسيطة. وكما قيل ان حمار بوريدان لا وجود له. وبوريدان هو من الفلاسفة المدرسيين الفرنسيين في القرن الرابع عشر؛ تصور حماراً واقفاً بين سطل ماء ومخلاة شعير يتنازعاه، وقد تجاذبه الجوع والعطش، فظل حائراً متردداً بين البدء بالشرب والبدء بالاكل حتى لقي حتفه عطشان جوعان.21
هكذا فان العقل لا يحكم بضرورة وجود المقادير الخاصة باحجام الاجرام واشكالها واوزانها ومسافاتها على ما هي عليه فعلاً، فلا مانع إن كانت اعظم من ذلك او اقل، ولو بنسب متساوية. لذا نقول ان مسألة خلق العالم في لحظة ابتداء دون غيرها لا تنفي المرجح على نحو الاطلاق، اذ ان ترجيح الغاية في وجود العالم على عدمه هو الداعي الثابت لاي لحظة ابتداء كانت، مثلما يحصل في ممارسات حياة الانسان التي اشرنا اليها قبل قليل.
وما ننتهي اليه فعلاً هو انه ليس لدينا بحسب ما افادتنا التصورات الفلسفية ما يؤكد الحدوث الازلي، ولا كذلك العكس بحسب الادلة العقلية، وربما غيرها من الادلة. لكن يظل ان الحدوث الازلي هو امر يفرضه التسليم بمنطق العلية الصارم، حيث اعتبار المبدأ الاول في حد ذاته علة تامة. وكذا ان هذا الحدوث هو مما يقتضيه القول بالسنخية التي تجعل ضرورة وجود المناسبة التي تحفظ المراتب بعللها ومعلولاتها. بل بحسب المنطق الاخير (السنخية) نجد ان الاتساق يتجاوز حد القول بازلية الحدوث والعالم من الناحية النوعية؛ ليمتد الى القول بازلية كل الحوادث من غير غياب ولا زوال، كما هو مؤدى النظرية الاشراقية في العلم الالهي، فتكون كل الاشياء حاضرة امام جناب الحق ازلاً وابداً بلا غياب ولا انقطاع.
لكن لو ابتعدنا عن المسلمات الفلسفية، وانطلقنا من افتراض وجود القدرة التامة في المبدأ الاول، سنجد انه لا مانع عقلياً من كلا الفرضين المتنافسين: ازلية الحدوث (قدم العالم)، وابتداء الحدوث. فلكل من الفرضين بعض المبررات التي تسنده. فمبرر الازلية هو عدم وجود المانع والصارف، وانه بهذا يترجح على الابتداء بأي لحظة مفترضة، اذ تصبح اللحظات او الآنات متساوية، واذا كان في جميع الآنات لا يوجد صارف ومانع، فان ارجحها هو اقدمها واولها، حيث في غير الازلية يظل السؤال وارداً عن علة الخيار المتأخر مع انه لا مانع يمنع التقديم، وهكذا لا ينقطع السؤال ما لم يكن الخيار في الصنع هو خيار ازلي. أما مبرر الابتداء فقد يكون لدواع دينية تصرف النظر عن الازلية، على شاكلة قاعدة (ان الله يفعل ما يشاء لا ما نشاء ولا يسأل عما يفعل)، او من جهة صرف الذريعة عن ذوي الافهام الناقصة من ان يتخيلوا نفي الربوبية حال توصلهم الى العلم بأزلية الحوادث، كما هو مبرر المادية الحديثة، او لكون الارادة الالهية حريصة على التفرد بالوجود قبل الخلق وبعده.. الخ.
لذا فقد رأى ابن ميمون (المتوفي سنة 1204م) ان ادلة ارسطو على القدم والادلة المعارضة لها على الحدوث هي متعادلة القوة، واعتبر العقل قاصراً عن البرهنة على احد الطرفين، وان الوحي وحده يحسم المشكلة. وهذا هو نفس موقف القديس توما الاكويني (المتوفي سنة 1274م)، اذ رأى ان العقل لا يمانع امكان القدم والحدوث على السواء، معتبراً ان هذه المسألة هي من المسائل الجدلية لا البرهانية22.
وبذلك نكون مترددين كتحير جالينوس الذي لم يعرف إن كان العالم قديماً ام حادثاً23، او كاعتراف ابن سينا في عدّه مسألة ‹‹العالم حادث ام ازلي›› هي من المسائل الجدلية الطرفين لفقدان الحجج البرهانية في طرفيها24، رغم كثرة ما ابداه من موقف مؤيد للفلاسفة في القول بقدم العالم. وكذا ما اشار اليه ابن طفيل في رسالته (حي بن يقظان). مع انه من الناحية العقلية الصرفة قد يترجح الظن بازلية الحدوث تبعاً لما قدمناه من تبرير.
وحتى لو لجأنا الى الاعتبارات الاخرى، كاعتبارات ما يطلعنا عليه كل من الواقع - ومنه الواقع العلمي - والنص الديني، فذلك لا يفيدنا شيئاً يجعلنا نقطع الشك باليقين. فمن حيث الواقع، تتحدث أبرز النظريات العلمية عن أن للكون بداية، لكن هذه البداية لا تخبرنا شيئاً عن مواد الكون الأولية، كالمواد البسيطة والإشعاعات والجسيمات الذرية الدقيقة. وهي فضلاً عن ذلك نظريات افتراضية لا يمكن القطع بها25.
أما من حيث النص الديني، فالملاحظ ان القرآن الكريم رغم انه تحدث عن ابتداء خلق الحق للسماوات والارض، الا انه لم يصرح بشيء ازاء بعض المواد الاولية، كالدخان والماء. وقديماً كان ابن رشد يرى انه ليس في القرآن اية واحدة تنص على ان الله كان موجوداً مع العدم المحض، لكنه استظهر من خلال عدد من الايات ان العكس هو الصحيح، مثلما هو الحال في وجود الماء والدخان، مما جعله ينتهي الى اعتبار العالم بصورته حادثاً، وبمادته اشبه ما يكون قديماً26. وهو موقف لا يختلف عن طريقته الارسطية التي ترى المادة او الهيولى ازلية غير معلولة، لكن الله حركها واستخرج منها الصور الكامنة. وواقع الامر انه ليس في القرآن ما يدل على كلا الضدين: القدم والحدوث، فلا توجد اي دلالة للايات التي استدل بها ابن رشد على القدم.
هذا فيما يخص النصوص القرآنية، أما فيما يتعلق بنصوص الحديث فالامر مختلف. فهناك العديد من الاحاديث التي قد يبدو منها ما يؤيد فكرة الابتداء في الخلق، لكن مشكلتها هي انها تعاني من ازمة معرفية تخص السند والدلالة. ومن حيث المضمون ان بعض النصوص تنفي ان يكون شيء مع الله في الازل، ومن ذلك ما جاء في بعض خطب الامام علي انه قال: ‹‹وان الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه. كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان. عدمت عند ذلك الاجال والاوقات، وزالت السنون والساعات. فلا شيء الا الله الواحد القهار الذي اليه مصير جميع الامور، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها..››27. وجاء عن ابي جعفر الباقر انه قال: ‹‹خلق الشيء لا من شيء كان قبله، ولو خلق الشيء من شيء اذاً لم يكن له انقطاع ابداً، ولم يزل الله اذاً ومعه شيء، ولكن كان الله ولا شيء معه، فخلق الشيء الذي جميع الاشياء منه، وهو الماء››28. كما جاء فيما كتبه ابو جعفر في دعاء له: ‹‹ياذا الذي كان قبل كل شيء، ثم خلق كل شيء، ثم يبقى كل شيء..››.29
على هذا فان بعض العلماء كالنراقي قد عاب على الفلاسفة نفيهم تقدير بداية لخلق العالم؛ متهمهم بانهم قد خالفوا صريح الآيات والروايات، مما دعاه الى الاخذ بنظرية الحدوث الدهري متجنباً نظريتي الحدوث الذاتي والزماني، معتبراً الزمان حادثاً بحدوث العالم، ومبطلاً لوجود حوادث لا بداية لها، لكنه خصص الحدوث برجوعه الى العناية30. وتعود نظرية الحدوث الدهري الى الفيلسوف محمد باقر ميرداماد احد ابرز اساتذة صدر المتألهين الشيرازي، وهي تؤكد على ان هناك عدماً واقعياً للعالم يسبق وجوده، خلافاً للحدوثين الذاتي والزماني31. مع ان هذا المعنى يتنافى مع متطلبات منطق السنخية ولا يستجيب لعلاقة العلية بين المبدأ الاول والعالم كما تفترضها الرؤية الفلسفية، بل والرؤية العرفانية ايضاً.
مهما يكن فرغم ان الفلاسفة يقرون بالفيض وايجاد الاشياء وتنزيلها، فانهم يقرون العكس ايضاً، وهو التكامل والعودة الى ما عليه العالم العلوي، ازلاً وابداً. فهناك نزول وحلول، كما هناك صعود واتحاد.
1 برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، نشر وزارة التربية والتعليم، 1957م، ج2، ص808. كذلك: عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الاسلام، دار الفكر العربي، مصر، الطبعة الاولى، 1966م-1967م، ص462.
2 الغزالي: رسالة معراج السالكين من فرائد اللالي، نشر فرج الله ذكي الكردي، مصر، 1343هـ - 1924م، ص383. وصدر المتألهين: اسرار الايات، ص90-91. ومفاتيح الغيب، ص436. وعرشيه، ص230. ومجموعة رسائل ملا هادي السبزواري، تعليق جلال الدين اشتياني، انتشارات انجمن اسلامي حكمت وفلسفه ايران، 1401هـ، ص524و526.
3 الاسفار، ج7، ص305. ومجموعة رسائل السبزواري، ص524 و526.
4 الملاحظ ان صدر المتألهين قد استخدم في (الاسفار، ج2، ص 138) لفظة ‹‹لا الى نهاية››، لكنه في بعض كتبه الاخرى منع هذه اللفظة عن الحوادث التي لا بداية لها، فاعتبر ان ما لا بداية له لا يعني وجود حوادث غير متناهية، اذ لا يوصف ما لا وجود له بالفعل باللاتناهي، كما لا يوصف بالتناهي ايضاً (اسرار الايات، ص85-86).
5 الاسفار، ج2، ص138. وعرشيه، ص231.
6 مفاتيح الغيب، ص390. واسرار الايات، ص64 و88.
7 اسرار الايات، ص73-74.
8 لاحظ مثلاً رسالة التعليقات من رسائل الفارابي، ص15.
9 اعلام الفلسفة العربية، ص362.
10 افلوطين عند العرب، نصوص حققها وقدم لها عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، 1955م، ص154 و209.
11 الاسفار، ج3، ص341-342.
12 الاسفار، ج1، ص191-193. وشرح الهداية الاثيرية، ص293-294. وحاشية الطوسي لكتاب الفخر الرازي محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، ص100.
13 لاحظ حاشية المحصل، ص233 .
14 شبهة التناقض تتحدد بما يقال: ان كل موجود يتوقف وجوده على وجود علل غير متناهية، فبعد وجود هذه العلل يوجد، ولكن انتهاء هذه العلل اللامتناهية يعني ان لها نهاية وهو تناقض (لاحظ موقف العقل والعلم والعالم، ج3، ص370). وواضح ما في هذا الاستدلال من خلل، حيث ان اللاتناهي او اللابداية انما تحدث لا بعنوان ان لها نهاية او بداية حتى يحصل التناقض، اذ البداية والنهاية لا تخص الا الطرف الاخر من السلسلة، فلا تناقض.
15 رسالة العرشية، ضمن رسائل ابن سينا، مصدر سابق، ص249.
16 الاسفار، ج1، ص209، وج 2، ص260 . وشرح الهداية الاثيرية، ص244. والمبدأ والمعاد، ص137-138.
17 لاحظ نفس المصادر السابقة.
18 روح الله الموسوي الخميني: طلب وارادة، ص363.
19 محمد باقر الصدر: الاسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف، بيروت، طبعة رابعة، 1397هـ - 1977م، ص112-113. كذلك كتابنا: الاستقراء والمنطق الذاتي، دار افريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الثانية، 2015.
20 تهافت التهافت، ص104.
21 تاريخ الفلسفة الاوربية في العصر الوسيط، ص249. ونجيب مخول: الغزالي وابن رشد، ضمن سلسلة مباحث في الفلسفة العربية (1)، توزيع مكتبة انطوان، بيروت، 1962م، ص111.
22 تاريخ الفلسفة الاوربية في العصر الوسيط، ص165و183.
23 رسالة معراج السالكين، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي (1)، ص78.
24 عن: القبسات لباقر ميرداماد، باهتمام مهدي محقق، مؤسسة مطالعات اسلامي، دانشگاه مك گيل، شعبة طهران، ص2.
25 للتفصيل انظر كتابنا: منهج العلم والفهم الديني.
26 ابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تقديم وتعليق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1961م، ص42-43.
27 نهج البلاغة، لضابطه صبحي الصالح، نشر مركز البحوث الاسلامية في قم، ص267.
28 الصدوق: التوحيد، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم، باب التوحيد ونفي التشبيه، الحديث العشرين، ص67.
29 نفس الباب والمصدر السابق، ص47-48.
30 محمد مهدي النراقي: اللمعة الالهية والكلمات الوجيزة، مقدمة وتصحيح وتعليق جلال الدين اشتياني، انتشارات انجمن فلسفة، 1398هـ، ص93-94 و147-148.
31 مرتضى مطهري: شرح المنظومة (للسبزواري)، مصدر سابق، ج4، ص75.