-
ع
+

الحديث الشيعي وانسداد علم التوثيق

يحيى محمد

يعود اهتمام علماء الشيعة بعلم الرجال والجرح والتعديل الى قديم الزمان. فقد اعتاد القدماء على تأليف كتب التراجم والفهارس بغية الجرح والتعديل وتمييز الثقة عن غيره. وقال الشيخ الطوسي بهذا الصدد: إنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الاخبار، ووثقت الثقات منهم، وضعفت الضعفاء، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته، ومن لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذموا المذموم، وقالوا: فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب، وفلان مخلط، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها . وصنفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى أن واحداً منهم إذا أنكر حديثاً طعن في إسناده وضعفه بروايته. هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم[1].

وبحسب تحقيق بعض المعاصرين فان عدد الكتب الرجالية من زمان الشيخ الحسن بن محبوب السراد (المتوفى سنة 224) إلى زمان الشيخ الطوسي قد بلغت اكثر من مائة كتاب على ما يظهر من النجاشي والطوسي وغيرهما[2].

وقيل ان اول من صنف في الرجال من علماء الشيعة هو عبد الله بن جبلة بن أبجر الكناني (المتوفى سنة 219هـ) وهو ما ذهب اليه حسن الصدر[3]. كما قيل ان اول المصنفين في ذلك هو عبيد الله بن ابي رافع خلال النصف الثاني من القرن الاول، حيث دّون اسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان، وهو ما ذهب اليه الطهراني[4]. ومن القدماء الشيعة الذين صنفوا في الرجال خلال عهد الائمة يبرز الحسن بن علي بن فضال (المتوفى سنة 224هـ)[5]، ومحمد بن عبد الله بن مهران الكرخي، وهو من اصحاب الامام الجواد وله مصنف اسمه (كتاب الممدوحين والمذمومين)[6]، ومحمد بن عمر الواقدي (المتوفى سنة 207هـ) وله كتاب الطبقات وتاريخ الفقهاء[7]، وعباد بن يعقوب الرواجيني (المتوفى سنة 250هـ او 271هـ) وله كتاب (المعرفة في معرفة الصحابة)[8]، وعلي بن الحكم بن الزبير النخعي، وهو ممن لقي الكثير من اصحاب الامام الصادق، وكان تلميذاً لابن ابي عمير[9]، وسعد بن عبد الله الاشعري (المتوفى سنة 299هـ) وله كتاب طبقات الشيعة[10]، ومحمد بن خالد البرقي، وهو من اصحاب الامام الكاظم، وله ثلاثة كتب رجالية[11] ، وولده احمد بن محمد بن خالد البرقي ( المتوفى سنة 274هـ او 280هـ) وله كتابان في الرجال، يسمى احدهما بكتاب الرجال، والاخر بكتاب الطبقات، حيث انه قائم على الترتيب الزمني للرجال، فيبدأ باصحاب النبي ثم اصحاب الامام علي الى اخر الائمة الاثنى عشر، والكتاب مازال موجوداً الى يومنا هذا[12].

كما صنف في الرجال بعد هؤلاء جماعة مثل الكليني ومعاصره العياشي وشيخه حميد بن زياد وابي عمرو الكشي واحمد بن نوح وابي العباس بن عقدة وابن عبدون والغضائري والطوسي والنجاشي والعقيقي وغيرهم[13].

واعتبر الطوسي ان جميع كتب الرجال وفهارس المصنفات، منذ ان ظهرت وحتى زمانه، لم يكن فيها ما يستوفي هذا العلم باستثناء ما قدمه معاصره ابو الحسين احمد بن الغضائري، فانه صنف في هذا المجال كتابين، لكن اتلفهما بعض ورثته[14].

واهم ما في الامر هو ان كتب الرجال التي شاعت في عصر الائمة وما بعدهم بقليل لم يعد لها اثر في الازمان المتأخرة. وما بقي من الكتب المعتمدة هي اربعة صغيرة متأخرة تعرف بالاصول الرجالية الاربعة. وكذلك بعض مما بقي من الكتب التي سبقتها مثل رجال البرقي ورجال العقيقي[15]. لكن هذه الكتب الاخيرة لا تعد من الاصول لعدم تضمنها التحقيق في توثيق الرجال، وان كان حالها ليس بافضل من بعض الاصول المعتبرة كرجال الشيخ الطوسي، حيث انه ايضاً لا يحمل صفة التعديل والتجريح كما سنرى. وهذا يعني ان هناك فجوة بين علم الرجال وبين اغلب الرواة الذين يتحدث عنهم هذا العلم. بل هناك انسداد في الطريق لوجود الفاصلة الزمنية الكبيرة التي تفصل بين زمن الكتب المتبقية من علم الرجال وبين زمن الرواة الذين عاصروا الائمة وعلى رأسهم الامام الصادق الذي غلبت عنه الرواية.

والاصول الاربعة التي وصلتنا في علم الرجال، هي كل من اختيار رجال الكشي ورجال النجاشي ورجال وفهرست الطوسي. يضاف اليها رجال ابن الغضائري المسمى (كتاب الضعفاء) وهو كتاب شكك العلماء فيه كما سنعرف.

فهذه هي الكتب الاساسية الوحيدة التي بقيت خلال القرن السابع الهجري والتي اعتمد عليها المتأخرون بدءاً من ابن طاوس (المتوفى سنة 673) وتلميذيه العلامة الحلي وابن داود وحتى عصرنا الحاضر. ويمكن ان نصف كل واحد منها كالاتي:


1ـ رجال الكشي

ان الاصل في (اختيار رجال الكشي) هو كتاب (معرفة الناقلين) لعمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، وهو تلميذ العياشي واستاذ جعفر بن قوليه شيخ المفيد، ويعد من طبقة الشيخ الكليني. وقد ذكره النجاشي في رجاله بانه ثقة عين روى عن الضعفاء كثيراً[16]. اما كتابه فهو مفقود سوى ما انتخبه الشيخ الطوسي بعد تهذيبه وتلخيصه، وسماه (اختيار معرفة الرجال). وقيل ان النسخ التي وصلتنا من الكتاب تختلف بالزيادة والنقصان. اما (معرفة الناقلين) فقد ذكر النجاشي ان فيه اغلاطاً كثيرة[17]، وهو ما دعا الطوسي الى القيام بتهذيبه وتجريد ما فيه من اغلاط[18]. وهذا يعني ان (اختيار معرفة الرجال) الذي وصلنا لا يعكس تمام الصورة لكتاب الكشي المفقود، فربما اجرى الطوسي اضافات وتغييرات جوهرية على الكتاب دون ان نعرف حقيقتها. كما تغلب على الكتاب الاسانيد المعلقة، وقد ذكرها الطوسي من غير اصلاح. وكما يرى بعض المحققين انه لم يصح من نصوص الكتاب المقدرة (1150) نصاً الا اقل من ثلاثمائة نص فقط[19]. هذا بالاضافة الى وجود مشكلتين اخريتين، احداهما ان الكتاب يعتمد التوثيق المروي عن الائمة بحق الرواة، وهو ليس معنياً بالغالبية العظمى ممن لم يرد فيهم شيء عن الائمة. اما المشكلة الاخرى فهي ان الكثير من روايات التوثيق التي ينقلها الكتاب عن الائمة هي روايات متعارضة من المدح والذم، ولم يسلم من ذلك حتى اولئك الموصوفين بقوة الوثاقة والمعتمد عليهم في النقل. الامر الذي اضطر العلماء الى تعليل روايات الذم بانها صادرة للتقية.


2ـ كتاب الضعفاء

يُنسب كتاب (الضعفاء) الى الشيخ احمد بن الحسين بن عبيد الله المعروف بابن الغضائري، ونسبه بعض المتأخرين الى والده الحسين (المتوفى سنة 411هـ). وقد عاصر ابن الغضائري كلاً من الطوسي والنجاشي، وحضر برفقة هذا الاخير دروس والده. ويعتقد البعض انه أصبح شيخاً للنجاشي بعد وفاة ابيه. اما الكتاب المذكور فلم تثبت نسبته الى ابن الغضائري لعدد من الادلة، ابرزها ان ابن طاوس، الذي يعد العمدة في نقل الكتاب، قد شكك بصحة نسبته، اذ صرح بان له روايات متصلة بجميع الكتب الرجالية التي وصلته عدا هذا الكتاب،  حيث لم يجد له طريقاً في نسبته الى ابن الغضائري[20]. فرغم انه نقله في كتابه (حل الإشكال في تراجم الرجال) والذي جمع فيه الكتب الرجالية الخمسة، لكنه افرده بالتحذير والبراءة من العهدة في صحة النسب، وعلل نقله له في كتابه الجامع؛ وذلك ليكون شاملاً لكل ما قيل في حق ابن الغضائري، حيث وجده منسوباً اليه من غير ان يكون له فيه سماع او رواية او اجازة من مشايخه، اما ما تبقى من الكتب المعبر عنها بالاصول الرجالية الاربعة فقد ذكرها ابن طاوس بطرقه الى مشايخه. وقد اعتمد عليه كل من جاء بعده مباشرة او غير مباشرة، حيث اتبعه في ادراج ما نقله كل من تلميذيه الحلي وابن داود، وذلك في كتابيهما (الخلاصة والرجال) ولم يكن للمتأخرين طريق مستقل عنه، فلولا انه ادرجه في كتابه (حل الاشكال) لما عرف للكتاب من اثر[21]. وقد استند المتأخرون بعضهم الى البعض الاخر في ذكر طريق الكتاب. فمثلاً ان الآغا حسين الخونساري ذكر طريقه اليه عبر الشهيد الثاني، في حين ان هذا الاخير ذكر طريقه عبر العلامة الحلي، مع ان الحلي لا طريق له اليه غير ابن طاوس. لكن مع هذا فللشهيد الثاني طريق اخر الى الكتاب عبر النجاشي، الا ان هذا الاخير لم يذكر وجود هكذا مصنف رغم تعرضه الى ترجمة ابن الغضائري ومصنفاته، ولم يورد ما يشعر به في كتابه كله[22].

نعم، ذكر الشيخ الطوسي في مقدمة فهرسته بانه كان لابن الغضائري الذي وافته المنية كتابان لهما علاقة بذكر المصنفات من الكتب والاصول المروية، حيث كان احدهما يخص المصنفات، والاخر يخص الاصول، لكنه اعقب ذلك بقوله ان هذين الكتابين لم ينسخهما احد من الاصحاب، ونقل عن البعض انه عندما مات ابن الغضائري عمد بعض ورثته الى اتلافهما بمعية عدد من الكتب[23].

كما هناك من شكك بوجود هكذا كتاب في زمن الشيخين الطوسي والنجاشي، والا لما غفلا عن ذكره لصاحبه او حتى لوالده، رغم ان الشيخين كانا حريصين بصدد بيان الكتب التي صنفها الامامية بما فيها تلك التي سمعا عنها من غير رؤية[24]. وبحسب رأي بعض المحققين ان الكتاب لم يكن له اثر قبل عصر ابن طاوس[25]. ورأى بعض اخر ان الكتاب قد وضعه بعض المخالفين ونسبه الى ابن الغضائري لاغراض واضحة، وهو ان الكتاب يتصف بشدة تضعيف رجال الشيعة ممن يعتمد عليهم في الرواية، فقليل ما يسلم منه احد، الامر الذي اثر على توثيقات المتأخرين، والاعتماد عليه يوجب رد اكثر اخبار الكتب المشهورة كما صرح بذلك بعض المتأخرين[26]، حتى قيل إن السالم من رجال الحديث من سلم منه، وأن الاعتماد على كتابه في الجرح طرح لما سواه من الكتب[27].

وقد حاول الشيخ الطهراني ان يبرئ ساحة ابن الغضائري مما جاء في الكتاب، فاعتبره اجل من ان يكون له هكذا كتاب، واجل من ان يقحم نفسه في هتك اساطين الدين المعروفين بالتقوى والعفاف والصلاح، ورجح ان يكون واضع الكتاب من المعاندين لكبراء الشيعة فاراد الوقيعة فيهم بكل وجه وحيلة، فألف الكتاب وأدرج فيه بعض مقالات ابن الغضائري تمويهاً ليقبل عنه جميع ما أراد إثباته من الوقائع والقبائح[28].

في حين ذهب بعض المعاصرين الى ان كتاب الضعفاء هو فعلاً لابن الغضائري، وأن تضعيفه وجرحه للرواة والمشايخ لم يكن مستنداً إلى الشهادة والسماع، بل كان اجتهاداً منه حسب ما يراه من روايات الراوي، فإن رآها مشتملة على الغلو والارتفاع، وصفه بالضعف ووضع الحديث، لذلك  صحح روايات عدة رواها القميون لانه وجدها خالية من ذلك[29].


3ـ رجال النجاشي

لم يبق لدينا في التوثيق الا ما قدمه الشيخان المتعاصران النجاشي والطوسي خلال القرن الخامس للهجرة. فقد وصلنا من الاول كتاب واحد يسمى (رجال النجاشي). وعرف الرجل بضبطه وتخصصه في علم الرجال، واعتمد عليه كل من تأخر عنه، فهو اضبط الجماعة واعرفهم بحال الرجال كما يقول الشهيد الثاني. ولم يستبعد البعض ترجيح قوله على قول معاصره الطوسي عند التعارض[30]. بل ذهب العديد من العلماء الى تقديمه في فن الرجال على غيره؛ تعويلاً على كتابه الذي عدّ لا نظير له في هذا الباب كما صرح السيد بحر العلوم في فوائده الرجالية[31]. واعتبر الطهراني كتاب النجاشي عمدة الاصول الرجالية الاربعة نظير الكافي بين كتب الحديث الاربعة[32].

واول ما يلاحظ في كتاب النجاشي هو انه يستهدف البحث عن اصحاب المصنفات من الشيعة وليس الكشف عن احوال الرجال، وان الاسم الحقيقي للكتاب هو (الفهرست) حيث صنفه ليثبت ان في قدماء الشيعة الكثير من المصنفين الذين كثرت كتبهم ومصنفاتهم، فحاول جهده ان يجمع ما امكنه من اسماء المصنفين المعروفين بالكتب، فكان كتابه من الفهارس التي تخص معرفة المصنفات واصحابها، وليس فيه ذكر لمن ليس له كتاب او تصنيف. ومع ذلك فغالباً ما تضمن الكتاب توثيق الرجال المصنفين، فاعتبر لهذا من كتب علم الرجال، وإن خلا من التفصيل عن الاحوال عادة. فقد تناول فيه النجاشي اكثر من ألف ومائتي (1269) مادة رجالية رغم صغر حجمه بحيث لا يعطي صورة كافية للتوثيق، وعبّر عن اغلب رجاله بلفظة (ثقة) مفردة او مقترنة بالفاظ اخرى، وفي بعض الاحيان انه يذكر اسم الراوي مع كتابه او مصنفاته فحسب، او يذكر عنه انه روى عن الامام الفلاني، او يذكر اسمه دون شيء اخر، وغالباً ما لا يزيد ذكره عن المادة الواحدة اكثر من ثلاثة او اربعة اسطر حسب الطبعة الحديثة التي اعتمدناها، ويتخلل ذلك نقله للسند او الثنا والعنعنة.

فقد لاحظنا ان عدد المصنفين الذين اورد اسماءهم دون ذكر شيء عنهم تماماً هم اكثر من عشرة رجال، وان الذين تحدث عنهم بما لا يتجاوز السطر الواحد هم سبعون رجلاً تقريباً، وبما لا يتجاوز السطرين يقاربون مائة وثمانين رجلاً، وبما لا يتجاوز الثلاثة اسطر يقاربون مائتين وسبعين، وبما لا يتجاوز الاربعة اسطر يقاربون مائتين وستين، وبما لا يتجاوز الخمسة اسطر يقاربون مائة وثمانين. والمجموع الكلي لهذه التقديرات يقارب تسعمائة وسبعين رجلاً. اي ان هناك ما يقارب ألف مادة رجالية هي بين ان تكون مذكورة بسطر واحد او اثنين او ثلاثة او اربعة او خمسة او لم يذكر عنها شيء بالمرة، واغلبها يتخللها ذكر السند والعنعنة، وما تبقى، وهو ما يقارب ثلاثمائة مادة رجالية، فقد تجاوز كل منها الخمسة اسطر، فقد تكون ستة او سبعة او صفحة او اقل او اكثر قليلاً.

ويتضح مما سبق ان الغالب في المواد الرجالية لم يذكر عنها شيء يفيد التفصيل، وان التفصيل الذي يذكره النجاشي عادة ما يكون عبارة عن تعداد اسماء المصنفات والكتب للراوي، فكما قلنا ان كتابه لم يوضع للكشف عن احوال الرواة، بل لذكر من لهم كتب ومصنفات، وان كان قد جرى له التوثيق والجرح والتعديل في اغلب ما عرضه من مواد.

وفي الكتاب غالباً ما تتكرر لفظة (ثقة) منفردة، ويفوق تكررها ما قد تقترن بغيرها من اوصاف. ومن هذه الاوصاف التي ذكرها النجاشي مقترنة بتلك اللفظة؛ قوله مثلاً: كان ثقة صدوقاً، او انه ثقة ثقة، او ثقة عين، او ثقة ثقة عين، او ثقة ثبت، او ثقة في الحديث، او ثقة صحيح الحديث، او ثقة صحيح الحديث معتمد عليه، او ثقة قليل الحديث، او ثقة صحيح المذهب صالح، او ثقة صحيح السماع، او ثقة كثير الحديث صحيح الرواية، او ثقة كثير الرواية، او ثقة في الحديث، او ثقة جليل في اصحابنا، او ثقة جيد الحديث نقي الرواية معتمد عليه، او ثقة في اصحابنا سمع واكثر وعمر وعلا اسناده، او ثقة في نفسه ويروي عن الضعفاء ويعتمد على المراسيل، او كان ثقة قارئاً اديباً، او كان ثقة في حديثه متقناً لما يرويه فقيهاً بصيراً بالحديث والرواية، او كان ثقة في حديثه ورعاً لا يطعن عليه، او ثقة في حديثه مسكوناً الى روايته غير ان قيل فيه يروي عن الضعفاء، او ثقة في حديثه مسكوناً الى روايته لا يعترض عليه بشيء من الغمز حسن الطريقة، او انه ثقة في الحديث واقفي، او كان فطحياً وثقة في الحديث، او هو مضطرب المذهب وكان ثقة فيما يرويه، او شيخ من اصحابنا ثقة، او كوفي ثقة لا بأس به، او احد اصحابنا ثقة فيما يرويه، او هو من زهاد اصحابنا وعبادهم ونساكهم وكان ثقة، او كان يبيع الخرق ثقة... الخ.

كما هناك صفات اخرى ذكرها النجاشي تدل على مدح الراوي او المصنف، مثل قوله: شيخ من اصحابنا روى عن فلان مثلاً، او هو رجل من اصحابنا، او وجه في هذه الطائفة من بيت جليل بالكوفة، او له محل عند الائمة، او كان خيراً، او كان خيراً فاضلاً، او له اطلاع بالحديث والرواية والفقه، او كان فقيهاً متكلماً، او من اجلاء الطائفة وفقهائها، او هو من وجوه اصحابنا مشهور، او كان وجهاً في اصحابنا قارئاً فقيهاً نحوياً لغوياً راوية وكان حسن العمل كثير العبادة والزهد، او كان صحيح الحديث والمذهب، او رجل جليل في اصحاب الحديث مشهور بالحفظ، او حديثه ليس بالنقي وان كنا لا نعرف منه الا خيراً، او سيد في هذه الطائفة لكن بعض اصحابنا يغمز عليه في بعض رواياته، او كان عظيم المنزلة عند الامام، او كان من اهل الفضل والادب والعلم، او صالح الرواية يعرف منها وينكر، او لا بأس به... الخ.

كذلك وصف النجاشي عدداً من رجاله بالضعف والكذب والمغالات، مثل قوله: هو ضعيف، او هو ضعيف في الحديث، او كان ضعيفاً في الحديث غير معتمد فيه، او كان ضعيف الحديث فاسد المذهب، او كان فاسد المذهب، او هو ضعيف في مذهبه، او انه ضعيف جداً لا يلتفت اليه، او انه ضعيف لكن له كتاب حسن، او هو ضعيف يقال ان في مذهبه ارتفاعاً، او ضعّفه اصحابنا، او انه روى عن المجاهيل أحاديث منكرة رأيت اصحابنا يضعفونه، او هو كثير السماع ضعيف في مذهبه، او كان واقفياً، او فيه غلو وترفع، او كان غالياً كذاباً، او هو ممن طعن عليه ورمي بالغلو، او غمز اصحابنا فيه، او قالوا هو غال وحديثه يعرف وينكر، او كان مختلطاً يعرف منه وينكر، او هو معدن التخليط له كتب في التخليط... الخ.

يضاف الى ان النجاشي لم يذكر شيئاً من التوثيق في حق الكثير من رجاله، فاحياناً يذكر اسم الرواة فقط، واخرى لا يذكر في حق الرجل الا ان له كتاباً او مجموعة من الكتب، او يذكر انه روى عن الامام الفلاني، او ان له مسائل الى الامام، او انه من بلاد كذا... الخ.

وتبعاً لما سبق يمكن ان نسجل الملاحظات النقدية التالية:

1ـ ان اغلب الرجال الذين ذكرهم النجاشي قد حكم عليهم بالثقة، سواء كانت هذه اللفظة منفردة او مقترنة مع غيرها من الصفات المتعلقة بالتوثيق. على ان لفظة الثقة المنفردة قد فاق تكررها كثيراً تلك التي وردت مقترنة مع غيرها من الاوصاف الاخرى. لكن ما ورد من هذه الاوصاف يجعل اللفظة المنفردة لا تكفي لأنْ يعوّل عليها في توثيق ما ينقله الراوي. فمثلاً ان النجاشي رغم توثيقه لبعض رجاله الا انه يقرن ذلك بصفات تمنع الاعتماد عليه احياناً، مثل ان يصفه بانه يروي عن الضعفاء او يعتمد المراسيل، وقد يصف الرجل بالثقة ويقرن مع هذا الوصف انه صحيح الحديث، او يصف الرجل بانه ثقة في الحديث... الخ، وكل ذلك ينبئ عن ان انفراد لفظة الثقة لا تدل على وثاقة الرجل في النقل والرواية، فقد يكون ثقة لا يكذب لكنه ضعيف الحافظة او غير دقيق وضابط للحديث، لذلك وصف النجاشي البعض بالثقة واقرن معه انه صحيح السماع او الرواية. مما يدل على ان اغلب رجال النجاشي لم يتعين في حقهم التوثيق الخاص بالنقل والرواية، ولم ترد حولهم علامات دالة على الحفظ والاتقان.

2ـ لقد اقتصر كتاب النجاشي على المصنفين الشيعة، وهو بذلك لا يغطي مساحة الرواة الذين لم يعرف لهم مصنفات. فكما مر معنا ان عدد المصنفات التي ظهرت في عصر الامام الصادق كانت تقدر باربعمائة مصنف، في حين ان الذين رووا عن الصادق كانوا اربعة الاف رجل، فعدد هؤلاء اعظم من عدد المصنفين باضعاف كثيرة، وهم غائبون عن مطلب الكتاب. يضاف الى ان الكتاب قد شمل علماء ومصنفين لا علاقة لهم بالرواية والنقل، كالشعراء والادباء والمتكلمين وما اليهم، وان كان غالب ما تضمنه الكتابُ هو أصحاب الرواية والحديث.

3ـ يغلب على طريقة النجاشي الاهتمام بالسند المتصل، واحياناً لا يذكر السند، كما يصدّر سنده احياناً بعبارة (اخبرنا عدة من اصحابنا) او ما يقابلها من معنى مثل الجماعة وما اليها، وذلك على شاكلة ما الفه اصحاب الحديث؛ مثل الكليني والطوسي. مع هذا فان اهتمام النجاشي بالسند جعله ينقل كيفية مختلفة من الاتصال بين الرواة، فهو عادة ما يصدر السند بلفظة (اخبرنا) وبعد ذلك قد يخلل اواسطه بعبارة العنعنة ثم يعقبها بعبارات دالة على الاتصال والسماع المباشر، مثل عبارة (قال حدثنا..) ويذكر اسم الراوي، او قد يكون العكس فيروي بمثل هذا السماع المباشر ثم يعقبه بالعنعنة، واحياناً يمتزج الحال باشكال من التعاقب في سلسلة السند الواحد، مثل قوله في احد رجاله: (اخبرنا به احمد بن محمد عن احمد بن محمد قال: حدثنا عمر بن احمد بن كيسبة عن علي بن الحسن الطاطري قال: حدثنا محمد بن زياد عن عبد الله)[33]. وهذا يعني ان هناك تمايزاً بين العنعنة وبين السماع المباشر، وان وجود الاولى دال على المسامحة في النقل، كالذي يحصل في نقل الاحاديث، حيث هو الاخر قائم على المسامحة بفعل غياب ما يدل على الاتصال والسماع المباشر.


4ـ فهرست الطوسي

أما ما قدمه الشيخ الطوسي في علم الرجال فهو ان له كتابين يعرفان برجال الطوسي والفهرست. ويسمى الكتاب الاول بالابواب، حيث انه مرتب على ابواب بعدد رجال صحابة النبي واصحاب كل واحد من الائمة ممن روى عنهم مباشرة او بواسطة، وقد جاء في مقدمة الكتاب قول الطوسي: ‹‹اني قد أجبت الى ما تكرر سؤال الشيخ الفاضل فيه، من جمع كتاب يشتمل على اسماء الرجال، الذين رووا عن رسول الله (ص) وعن الائمة (ع) من بعده الى زمن القائم (ع)، ثم أذكر بعد ذلك من تأخر زمانه من رواة الحديث أو من عاصرهم ولم يرو عنهم. وارتب ذلك على حروف المعجم، التي اولها الهمزة وآخرها الياء، ليقرب على ملتمسه طلبه، ويسهل عليه حفظه››[34]. وفي اخر الكتاب وضع الطوسي باباً لمن لم يرو عنهم. وهو قد يذكر اسم الرجل في بعض الابواب ثم يكرر ذكره في باب من لم يرو عنهم، فيبدو في الامر تناقض، مما جعل المتأخرين يوجهونه بعدد من التوجيهات؛ كالحكم بتعدد الاشخاص مع اتفاق الاسم[35].

لكن تبقى مشكلة الكتاب هو انه يكاد يخلو من التوثيق ويقتصر على ذكر اسماء الرجال ونسبهم وطبقاتهم، حيث الفه الطوسي لهذا الغرض، وإن اشار في النادر الى كلمة ما من التوثيق.

اما كتاب الفهرست فهو العمدة لدى علماء الرجال والتوثيق، ونظرة داخلية له ترينا بان مجموع مواده الرجالية تقارب تسعمائة (888) مادة. والغالب في طريقة الطوسي انه يذكر السند بالعنعنة، لكنه يصدره بعبارة الثنا حدثنا او اخبرنا، واحياناً يذكر عبارة (اخبرنا عدة من اصحابنا) وما شاكلها، كما قد لا يذكر السند تماماً. وحديث الطوسي في اغلب مواده مختصر وقليل، الى درجة قد لا يتجاوز حد السطرين لكل مادة، بما فيها ذكر اسم الراوي وسلسلة السند، وذلك حسب الطبعة الحديثة التي اعتمدناها، وان حوالي ثلاثة ارباع المواد لا يتجاوز كل منها الثلاثة اسطر. وتعد كلمات التوثيق في الرجال عند الطوسي قليلة، واغلب ما كان يذكره في رجاله هو الاكتفاء بتعريف الرجل ان له كتاباً؛ دون ان يعرّف باسم الكتاب. وهو في كثير من الاحيان لا يهتم بنقل السند، كما قد يذكر ان للرجل اصلاً دون ذكر اسمه، او ان له روايات او نوادر او مسائل، واحياناً قليلة يكتفي بان يقول ان له كتباً او اخباراً او مصنفات، لكنه في حالات كثيرة ايضاً يشير الى اسماء الكتب والمصنفات. وفي كتاب الطوسي هناك جماعة كثيرة لم يعرفوا باسمائهم سوى الكنية او اللقب او القبيلة او البلد، واغلب ما كان يذكره عن الواحد منهم ان له كتاباً، وقد يذكر السند، كما قد لا يذكره، او يكتفي بعبارة رواه فلان وما الى ذلك. كما في الكتاب حالتان لم يذكر فيهما شيء غير الاسم فحسب، وهما حالة زيد البرسي[36]، وحالة اخرى عرفها بالكنية واللقب، دون ان يذكر حولها شيئاً اخر، وهي تخص ابا حفص الرماني[37].


ارتباط المتأخرين بالطوسي والانسداد

لو اردنا ان نقارن بين فهرست الطوسي وفهرست النجاشي، برؤية داخلية للكتابين، سنجد ان الاول اقل قيمة من الثاني، فعدد الرجال في الاول اقل مما جاء في الثاني، وان ما ذكره الطوسي من اسطر لاغلب المواد هو اقل مما ذكره النجاشي. والاهم من ذلك هو ان الطوسي قلما تعرض لتوثيق رجاله بخلاف ما فعله النجاشي. كما ان الطوسي غالباً ما كان يعرف الرجل بان له كتاباً او اصلاً او روايات او غير ذلك دون ان يحدد اسماءها، وهو خلاف ما فعله النجاشي، وايضاً فان سلسلة السند التي ذكرها الطوسي تمتلئ بالعنعنة بعد التصدير بلفظة اخبرنا وما على شاكلتها.

اما لو اردنا ان نقارن بين الكتابين برؤية خارجية فسنجد ان هناك من قدم رجال النجاشي على كتابي الطوسي (الفهرست والرجال) لاعتبارات عدة كتلك التي ذكرها السيد مهدي النجفي في فوائده الرجالية. فمن جهة هو ان النجاشي تأخر في تصنيف كتابه بعد ان صنف الطوسي كتابيه، وقد ذكرهما في رجاله، مما ينبئ انه استوفى ما لم يستوفه الطوسي. كما من جهة ثانية عرف هذا الاخير بكثرة المشاغل وتعب العلوم بخلاف النجاشي الذي لم يتشعب في العلوم ولم تكن له المشاغل التي كانت لقرينه. كذلك يعد النجاشي افضل من الطوسي في علوم التاريخ والسير والانساب، ثم انه من اهل الكوفة التي اكثر الرواة منها. يضاف الى ما اتفق له من صحبة الشيخ ابن الغضائري الذي عرف بتخصصه في هذا الفن، والذي ذكره الطوسي في مقدمة (الفهرست) بانه الوحيد الذي استوفى الحديث في علم الرجال بخلاف غيره من مصنفي المذهب. واخيراً فان النجاشي قد ادرك الكثير من المشايخ العارفين بفن الرجال ممن لم يدركهم الطوسي[38].

وهناك من اضاف وجهاً اخر من وجوه تقديم رجال النجاشي على كتابي الطوسي، وهو ان الاول يعد من اواخر كتب النجاشي، اي انه نتج بعد كمال مهارة صاحبه وقوة اطلاعه، وليس هو الحال مع كتابي الطوسي، خاصة فيما يتعلق بالفهرست الذي الّفه في شبابه قبل ان تتبلور مهارته ويقوى اطلاعه[39]. كذلك فان جماعة من العلماء رجحوا رجال النجاشي على الطوسي، لتسرع هذا الاخير وكثرة تأليفه في العلوم الكثيرة، مما جعل الخلل في كلامه عظيماً[40].

يضاف الى ان النجاشي انما صنف كتابه بامر من استاذه المرتضى، مما قد يعني ان هذا الاخير لم يكن مقتنعاً بما قدمه الطوسي في هذا المجال، فقد اشار النجاشي الى ذلك في بدء مقدمته للكتاب، مصوراً العلة التي دفعته الى تصنيف كتابه، فقال: ‹‹اما بعد فاني وقفت على ما ذكره السيد الشريف - اطال الله بقاءه وادام توفيقه - من تعيير قوم من مخالفينا انه لا سلف لكم ولا مصنف، وهذا قول من لا علم له بالناس ولا وقف على اخبارهم، ولا عرف منازلهم وتاريخ اخبار اهل العلم، ولا لقي احداً فيعرف منه، ولا حجة علينا لمن لا يعلم ولا عرف››[41]. وكأن النجاشي بفعله هذا قد تبنى مهمة تصحيح ما قدمه الطوسي من تحقيق وتوثيق، خاصة انه لم يعلق على كتابي الطوسي حين تعرض الى ترجمته سوى ان عدهما ضمن مصنفاته، وانه في المقدمة نفى ان يكون هناك كتاب للاصحاب استوفى جمع مصنفات علماء المذهب[42].

مع هذا فالمعروف ان العلماء المتأخرين قد ارتبطوا بالطوسي اكثر من غيره في معرفة حال المتقدمين، فقد اعتبروه حلقة الوصل بين المتأخرين والمتقدمين من اصحاب الاصول الاربعمائة، وذلك لكثرة ممارسته التوثيق في كتب الحديث والفقه التي ألفها، ولهيمنة شخصيته على من جاء بعده من العلماء في مختلف العلوم النقلية؛ حتى أصبح تقليده من المسلمات خلال قرن من الزمان تقريباً. فقد كانت توثيقاته وفتاويه هي العمدة لمن جاء بعده، واعتبر العلماء ان اصول المذهب كلها راجعة اليه، خاصة وقد انقطعت السلسلة بعده فاصبح اغلب الناس يقلدونه ويعملون بفتاويه، بل ويستدلون بها كما يستدل بالرواية على ما صرح به ابن ادريس الحلي وغيره. فهم حين يذكرون طرقهم الى أرباب الاصول والكتب  المعاصرين للائمة يتوسلون بطرقهم الى الطوسي ثم يحيلون الامر بعد ذلك الى طرقه[43].

لكن مع ان الطوسي هو الرابط الاعظم بين المتأخرين والمتقدمين كما عرفنا، الا ان فيه جملة من نقاط الضعف والتناقض، الى الدرجة التي قد يصعب معها الاعتماد عليه في التوثيق والنقل والادعاء. فقد وصفه البعض بانه كان يضعف الرجل في موضع ويوثقه في موضع اخر، واراؤه في هذا وغيره لا تكاد تنضبط[44]. ومن ذلك انه كان يصرح بصحة الاعتماد على روايات اصحاب العقائد المنحرفة ما لم يعرفوا بالكذب[45]، وهو في مقدمة (الفهرست) اشار الى ان الكثير من ارباب الاصول هم ذوي عقائد فاسدة وان كانت كتبهم معتمدة، لكنه مع هذا لا يتقبل احياناً روايات بعض الثقات منهم بعلة الانحراف في المذهب والاعتقاد، كما هو الحال في طرحه بعض الاخبار التي رواها سماعة معللاً ذلك بانه واقفي، وقد عرف الرجل بقوة الوثاقة والجلالة[46]. وفي كتابه (الرجال) تارة انه يذكر الرجل في رجال احد الائمة، وأخرى في رجال غيره، وثالثة فيمن لم يرو. فمثلاً انه ذكر يحيى بن زيد بن علي بن الحسين مع أصحاب الصادق ومع أصحاب الكاظم مع أنه استشهد في زمان الصادق، وذكر قتيبة بن محمد الاعشى مرة في رجال الصادق، وأخرى فيمن لم يرو، وكذا ذكر كليب بن معاوية الاسدي مرة في أصحاب الباقر، ومرة في أصحاب الصادق، وأخرى فيمن لم يرو، والشيء نفسه مع فضالة بن أيوب فانه ذكره تارة في أصحاب الصادق، وأخرى في أصحاب الرضا، ومرة فيمن لم يرو، ومثل ذلك محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين، حيث ذكره مرة في أصحاب الرضا، ومرة في أصحاب الهادي، وأخرى في أصحاب العسكري، ومرة فيمن لم يرو، ومثله القاسم بن عروة، حيث ذكره مرة في أصحاب الصادق، وأخرى فيمن لم يرو، وعلى هذه الشاكلة رجال مثل معاوية بن حكيم والقاسم بن محمد الجوهري وغيرهم. مع أنه أخذ على نفسه في أول كتابه أن يذكر أصحاب النبي (ص) والائمة (ع) الى القائم الذين رووا عنهم كلاً في بابه، ثم يذكر من تأخر عنهم من رواة الحديث أو عاصرهم، ومن لم يرو عنهم. مع هذا احتمل بعض العلماء صدق ما ذكره الطوسي بحسب التأويل وخلاف الظاهر، وهو انه قد يصحب الرجل الواحد إمامين أو ثلاثة فيذكره في رجال الكل، وربما يصحب ولا يروي فيذكره في الاصحاب وفيمن لم يرو[47].

وتبعاً للاضطراب المعروف عن الطوسي فقد نقل الخوانساري كلاماً للمحقق اسماعيل الخاجوئي يقول فيه: ‹‹لا يسوغ تقليد الشيخ (الطوسي) في معرفة احوال الرجال، ولا يفيد اخباره بها ظناً، بل ولا شكاً في حال من الاحوال، لان كلامه في هذا الباب مضطرب، ومن اضطرابه انه يقول في موضع ان الرجل ثقة، وفي اخر انه ضعيف، كما في سالم بن مكرم الجمال، وسهل بن زياد من رجال علي بن محمد الهادي (ع). وقال في (الرجال): محمد بن علي بن بلال ثقة، وفي كتاب (الغيبة) انه من المذمومين، وفي عبد الله بن بكير: انه ممن عملت الطائفة بخبره بلا خلاف، وكذا في (العدة) وفي (الاستبصار) في اواخر الباب الاول من ابواب الطلاق منه صرح بما يدل على فسقه وانه يقول برأيه، وفي عمار الساباطي انه ضعيف لا يعمل بروايته، وكذا في (الاستبصار) وفي (العدة) ان الطائفة لم تزل تعمل بما يرويه، وامثال ذلك منه كثير جداً. وانا الى الان لم اجد احداً من الاصحاب غير الشيخ في هذا الكتاب يوثق علي بن ابي حمزة البطائني، او يعمل بروايته اذا انفرد بها، لانه خبيث واقفي كذاب مذموم... ومن اضطرابه انه رحمه الله تارة يشترط في قبول الرواية الايمان والعدالة، كما قطع به في كتبه الاصولية، وهذا يقتضي ان لا يعمل بالاخبار الموثقة والحسنة، واخرى يكتفي في العدالة بظاهر الاسلام، ولم يشترط ظهورها؛ ومقتضاه العمل بهما مطلقاً كالصحيح. ووقع له في الحديث وكتب الفروع غرائب، فتارة يعمل بالخبر الضعيف، حتى انه يخصص به اخباراً كثيرة صحيحة حيث يعارضه باطلاقها، وتارة يصرح برد الحديث لضعفه، واخرى يرد الصحيح معللاً انه خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملاً كما عليه المرتضى علم الهدى واكثر المتقدمين››[48].

كما عرّضه الشيخ يوسف البحراني الى النقد، فذكر انه قد وقع للشيخ الطوسي، سيما في التهذيب ‹‹من السهو والغفلة والتحريف والنقصان في متون الاخبار واسانيدها، وقلما يخلو خبر من علة من ذلك كما لا يخفى على من نظر في كتاب (التنبيهات) الذي صنفه العلامة السيد هاشم في رجال التهذيب، وقد نبهنا في كتابنا (الحدائق الناضرة) على ما وقع له من النقصان في متون الاخبار، حتى ان كثيراً ممن يعتمد في المراجعة عليه ولا يراجع غيره من كتب الاخبار وقعوا في الغلط وارتكبوا في التفصي منه الشطط كما وقع لصاحب (المدارك) في مواضع من ذلك ››[49].

***

نخلص مما سبق الى ان ما ورثه المتأخرون عن معرفة المتقدمين هي تلك التي قدمها لهم الطوسي ومعاصره النجاشي رغم الفاصلة الكبيرة التي تفصل زمانهما عن عصر المتقدمين، وعادة ما تكون سلسلة السند في توثيقات هذين الرجلين للرواة طويلة تبعاً لتعدد الوسائط من خبر الواحد، وهي في النتيجة لا تعطي المادة الكافية. واذا عرفنا ان اغلب نصوص الحديث رويت عن الامام الصادق، فان الفاصلة التي تفصل بين عصر هذا الامام وعصر النجاشي والطوسي تقارب الثلاثمائة سنة، حيث توفي الصادق في منتصف القرن الثاني للهجرة (148هـ) وتوفي النجاشي في منتصف القرن الخامس للهجرة (450هـ) وكذا توفي الطوسي قريب هذه الفترة، وبين المدتين فاصلة كبيرة، فكيف يمكن الاطمئنان الى توثيقهما للرواة الذين عاصروا الصادق ورووا عنه مع طول هذه المدة وقصر العبارات التي اورداها واقتضابها، اذ غالباً ما لا تفي بشيء مهم في التعرف على الراوي؟!

علماً بان الشرط الزمني في التوثيق ليس غائباً عن اعين بعض المحققين. فهذا ابو القاسم الخوئي يرى ان من شروط التوثيق هو أن يكون من أخبر عن وثاقته معاصراً للمخبر او قريب العصر منه، ولا عبرة بتوثيق من كان بعيداً عن عصره، لأنه يكون مبنياً على الحدس والاجتهاد فحسب[50]. ولا شك ان هذا الحال ينطبق تماماً على توثيق الشيخين الطوسي والنجاشي ومن عاصرهما. وفيه يتبين انسداد علم التوثيق سواء اخذنا الامر من حيث اجتهاد هؤلاء الموثقين، او اعتبرنا انهم انما بنوا توثيقاتهم تبعاً للنقل والرواية، حيث الوسائط الكثيرة، وفي كلا الحالين ان ذلك لا يعد بينة شرعية من باب الشهادة ولا يقبل مثله في الحقوق كالذي اشار اليه الشيخ الانصاري[51]. بل وحتى التعديل فيه لا يتعدى عادة حدود العدل الواحد، ولو اشرط التعديل بعدلين لأوجب ذلك خلو الاحكام والنصوص المروية عن الدليل[52].

ولا يصح ما قاله بعض العلماء من ‹‹ان تحصيل العلم بعدالة كثير من الماضين وبرأي جماعة من المزكين أمر ممكن بغير شك من جهة القرائن الحالية والمقالية، إلا أنها خفية المواقع متفرقة المواضع، فلا يهتدي الى جهاتها ولا يقدر على جمع أشتاتها إلا من عظم في طلب الاصابة جهده، وكثر في تصفح الاثار كده››[53]. ذلك انه اذا كانت كتب الرجال قد ذهبت وان الاخبار حول القدماء متضاربة، وهي فضلاً عن ذلك لا تعطي في كثير من الاحيان التفصيل حول حياة القدماء فكيف يكون بالامكان الوصول الى العلم بعدالة القدماء او توثيقهم. بل ان التعديل قائم على المسامحة، وعلى ما يرى الشيخ الهمداني انه لا يكاد يوجد خبر يمكن إثبات عدالة رواته على سبيل التحقيق لولا البناء على المسامحة والعمل بظنون غير ثابتة الحجية. الامر الذي دعاه الى ترك الفحص عن حال الرجال ومعرفة احوالهم، وذلك تعويلاً عما سلكه الاصحاب من الاعتناء بالاحاديث المدونة في الكتب المعتبرة وعدم اعراضهم عنها[54]، وهي النزعة التي يؤكد عليها الاخباريون. بل ذهب البعض الى ان الظن الحاصل من الخبر الذي استفيدت عدالته من تزكية الواحد قد يكون أضعف مما يحصل من أصالة البراءة او عموم الكتاب[55].

وبهذا يكون العلم بتوثيق الرواة متعذراً تماماً تبعاً للمبررات التي سبق عرضها.


أصحاب الائمة والتوثيق

من حيث التطبيق يمكن القول ان كل ما سبق ذكره في تعذر التوثيق هو مما يصدق على اصحاب الائمة مثلما يصدق على غيرهم. فقد اعترف عدد من علماء المذهب بان توثيق اصحاب الائمة مبني على الظن الاجتهادي وليس من باب الشهادة ولا الرواية المصطلحة، وعللوا ذلك لانسداد علم التوثيق وعدم القدرة على معرفة حقيقة احوال الاصحاب عن قرب، وكانت هذه المسألة احدى اسباب الزعم بانسداد الطريق الى علم الاحكام. وكان من ابرز الذين ذهبوا الى هذا الاتجاه وحيد الدين البهبهاني، حيث نفى وجود القطع في وثاقة اصحاب الائمة، رغم ان علماء المذهب رسموا لهم صورة ملؤها التعديل والتبجيل، امثال زرارة بن اعين وليث المرادي وحريز وعبد العظيم بن عبد الله الحسني والهشامين وغيرهم ممن هم مصدر التعويل في تصحيح الحديث . فقد استنتج البهبهاني من كلمات علماء الرجال كالنجاشي والطوسي والكشي وغيرهم انه لم يحصل لهم القطع في وثاقة هؤلاء الاصحاب، وكذا وثاقة ارباب الاصول. وصرح بان المتأمل في كلمات اصحاب الرجال المشار اليهم سلفاً، وكذا اصحاب الحديث والفقه من القدماء، يدرك انه لم يظهر لهم قطع بوثاقة كل من اصحاب الائمة وارباب الاصول، كما لم يحصل لاحد منهم طريق بهذه الاصول. الامر الذي جعلهم لا يقبلون الانفراد في الرواية عن المشهورين بالجلالة والعظمة من الاصحاب. فالطوسي مثلاً كان يطرح رواية الاعاظم من امثال ‹‹جعفر بن بشير وجميل بن دراج وابي همام ويونس بن عبد الرحمن وهشام بن سالم وعمرو بن يزيد وامثالهم بناء على عدم كونها من المعصوم (ع) وتحقق الوهم منهم››[56]. واكثر من هذا اعتقد البهبهاني ان التتبع في وثاقة الاجلة في اخبار الكتب المعتمدة ربما يكون مضراً، معللاً ذلك ببعض الاسباب، منها ‹‹ما ورد في تلك الكتب من الاحاديث الدالة على ذم الاجلة الفحول واعاظمهم من ارباب الاصول؛ مثل احمد بن محمد بن عيسى وزرارة وليث المرادي والهشامين ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم››[57]. ونحن نعلم ان الشريف المرتضى قد طعن بجماعة هامة من اصحاب الائمة ممن جرى عليهم التعويل لدى المتأخرين في تصحيح الحديث، وذلك للظن بجلالة قدرهم[58].

والذي يطلع على كتاب (اختيار معرفة الرجال) الذي هو خلاصة رجال الكشي واقدم الاصول الرجالية التي وصلتنا، يجد فيه روايات كثيرة تطعن في الكثير من اصحاب الائمة المعتمد عليهم في النقل. ومن بين هؤلاء بعض من عرفوا باصحاب الاجماع، والتعويل في ذلك يعود الى الكشي، حيث صرح بانه انعقد اجماع العلماء على تصحيح ما يصح عن كل واحد منهم وتصديقهم لما يقولون وأقروا لهم بالفقه، رغم ما ورد بشأنهم من روايات متعارضة عن الائمة من التعديل والتجريح. وقد صنفهم الكشي الى ثلاث طبقات، كل منها تضم ستة رجال، وهناك من زاد في العدد. فقد قال الكشي في تسمية الفقهاء من أصحاب الامامين الباقر والصادق: أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الاولين من أصحاب أبي جعفر وأصحاب أبي عبدالله وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا أفقه الاولين ستة : زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبريد، وأبو بصير الاسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي، قالوا: وأفقه الستة زرارة، وقال بعضهم مكان أبي بصير الاسدي أبو بصير المرادي وهو ليث بن البختري[59]. كما ذكر الكشي انه أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن اصحاب الامام الصادق وتصديقهم لما يقولون، وأقروا لهم بالفقه، وهم مثل السابقين ستة نفر: جميل بن دراج، وعبدالله بن مسكان، وعبدالله بن بكير، وحماد بن عيسى، وحماد بن عثمان، وأبان بن عثمان. وزعم البعض إن أفقه هؤلاء جميل بن دراج [60]. كذلك ذكر الكشي انه اجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن أصحاب أبي إبراهيم الكاظم وأبي الحسن الرضا وتصديقهم وأقروا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر آخرين: يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بياع السابري، ومحمد بن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمد بن أبي نصر. وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب، الحسن بن علي بن فضال وفضالة بن أيوب. وقال بعض اخر مكان فضالة بن أيوب، عثمان بن عيسى. وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى[61]. وقد اعتبر الخوئي ان كل من تأخر عن الكشي انما نقل عنه الاجماع، أو إدعى الاجماع تبعاً له [62].

فهؤلاء هم الذين عول عليهم العلماء في النقل والرواية، اعتماداً على ما وصفه الكشي بانهم اصحاب الاجماع الذين اجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، رغم انه اورد في عدد منهم روايات متعارضة من المدح والذم. ومن ذلك ما جاء في حق زرارة بن اعين المعد ابرز الجماعة الموثوقين. ويعود نسب زرارة الى عائلة نصرانية رومية، حيث كان ابوه عبداً رومياً لرجل من بني شيبان، وان جده كان راهباً فارسياً في بلاد الروم واسمه سنسن[63]، او سنبس كما يذكر ابن النديم[64]. وقد جاء في حقه روايات تفيد المدح واخرى تفيد الذم. فمثلاً اورد الكليني في الكافي اربعة أحاديث تقدح فيه[65]. كما نقل الكشي حوله روايات كثيرة متعارضة من التعديل والتجريح، وهي تتفاوت في الصحة والضعف بحسب الاصطلاح الذي سار عليه علماء الرجال من الاصوليين المتأخرين، وفي نظر الاميني ان اخبار الطعن كأخبار المدح مستفيضة ان لم تكن متواترة، وذلك كجواب على ما قاله الشهيد الثاني من ان الكشي ذكر ما يزيد على عشرين رواية تقتضي ذمه وكلها بنظره ضعيفة السند الا حديث واحد طريقه صحيح الا انه مرسل. لكن عدداً من العلماء لم يقتنع بما قدمه الشهيد الثاني، ليس فقط لوجود الاخبار غير الضعيفة، بل ولان هناك استفاضة بالغة في الاحاديث الدالة على الذم، وان وجهها العلماء بانها جاءت للتقية كما تفيد بعض الروايات[66]. وذهب السيد الداماد الى ان ما ورد من ذم لزرارة انما جاء على خلفية ما كان يحمله من عقائد خاطئة لم يرض عنها الصادق وان كان ممدوحاً عنده، ومن ذلك ان زرارة كان يقول بالتفويض والاستطاعة لشبهة عويصة اعترضته، ولكونه اساء الادب الى الصادق اتكالاً على ارتفاع منزلته عنده وشدة اختصاصه به.

ومن ابرز الروايات التي ذكرها الكشي في ذم زرارة؛ ما جاء عن الوليد بن صبيح انه قال: مررت في الروضة بالمدينة فاذا انسان قد جذبني، فالتفت فاذا انا بزرارة، فقال لي: استأذن لي على صاحبك؟ فخرجت من المسجد ودخلت على ابي عبدالله (ع) فأخبرته الخبر، فضرب بيده على لحيته، ثم قال: لا تأذن له، لا تأذن له، لا تأذن له، فان زرارة يريدني على القدر - اي التفويض والاستطاعة -  على كبر السن، وليس من ديني ولا دين آبائي[67]. وعن محمد الحلبي انه سأل الامام الصادق قائلاً: كيف قلت لي ليس من ديني ولا دين آبائي؟ فاجاب الامام: انما أعني بذلك قول زرارة واشباهه[68]. وجاء عن الزعفراني ان ابا عبدالله الصادق قال: ما أحدث أحد في الاسلام ما أحدث زرارة من البدع، لعنه الله[69] . وعن ليث المرادي ان الصادق قال: لا يموت زرارة الا تائهاً[70]. وعن أبي بصير انه ذكر قوله تعالى عند الامام الصادق ((الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم)) فقال الامام: أعاذنا الله واياك يا أبا بصير من ذلك الظلم، ذلك ما ذهب فيه زرارة وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه[71]. وجاء في رواية ان الامام الصادق امر بعض اصحابه بمقاطعة زرارة قائلاً: ان مرض فلا تعده، وان مات فلا تشهد جنازته، فقيل: زرارة؟ فاجاب الامام: نعم زرارة؛ زرارة شر من اليهود والنصارى ومن قال ان مع الله ثالث ثلاثة. وعن كليب الصيداوي ان الصادق قال: لعن الله زرارة، لعن الله زرارة، لعن الله زرارة، ثلاث مرات[72]. وعن مسمع كردين أبي سيار انه سمع الصادق يقول: لعن الله بريداً، ولعن الله زرارة[73]. ومثل ذلك روي عن ابي الصباح ان الامام الصادق خاطبه: يا أبا الصباح هلك المتريسون في أديانهم، منهم: زرارة، وبريد، ومحمد بن مسلم، واسماعيل الجعفي وذكر آخر لم أحفظه[74]. وعن ميسر انه قال: كنا عند أبي عبدالله (ع) فمرت جارية في جانب الدار على عنقها قمقم قد نكسته، فقال أبو عبد الله: فما ذنبي ان الله قد نكس قلب زرارة كما نكست هذه الجارية هذا القمقم [75]. وعن مسعدة بن صدقة ان الصادق قال: ان قوماً يعارون الايمان عارية ثم يسلبونه يقال لهم يوم القيامة المعارون، أما أن زرارة بن أعين منهم[76]. وعن اسماعيل بن عبد الخالق انه ذكر بني أعين عند الصادق فقال: والله ما يريد بنو أعين الا ان يكونوا على غلب (او عليين)[77]. وعن الوليد بن صبيح انه قال: دخلت على أبي عبد الله (ع) فاستقبلني زرارة خارجاً من عنده، فقال لي أبو عبد الله: يا وليد أما تعجب من زرارة يسألني عن اعمال هؤلاء، أي شيء كان يريد؟ أيريد أن أقول له لا، فيروي ذلك عني؟ ثم قال: يا وليد متى كانت الشيعة تسأل عن أعمالهم، انما الذي يتجه السؤل عنه عند الشيعة هو قبول جوائز هؤلاء الظلمة الجورة وعطاياهم والاكل من طعامهم والشراب من شرابهم والاستظلال بظلهم. فسؤال زرارة اياي عن أعمالهم تفوح منه رائحة أنه يريد أن يسمعني أقول في الجواب أنهم ظلمة جورة غصبة لمنصب الولاية ومسند الحكم، فيروي ذلك عني فيبلغهم أني أقول عنهم كذا وكذا[78].

وجاء في بعض الروايات ان زرارة كان يذم الامام الصادق ويمتدح اباه الباقر، ومن ذلك انه قال: رحم الله أبا جعفر، واما جعفر فان في قلبي عليه لعنة. وقد اعتبر بعض العلماء ان ما حمل زرارة على هذا القول، هو لان الامام الصادق قد أخرج مخازيه[79] . وفي رواية ان زرارة كان لا يرى ما يراه الامام الصادق في كذب البعض على ابيه الباقر، حيث جاء عن عيسى بن ابي منصور وابي اسامة الشحام ويعقوب الاحمر انهم قالوا: كنا جلوساً عند الصادق فدخل عليه زرارة فقال: ان الحكم بن عيينة حدث عن ابيك أنه قال صلى المغرب دون المزدلفة، فقال له ابو عبد الله: انا تأملته ما قال ابي هذا قط؛ كذب الحكم على ابي. فخرج زرارة وهو يقول: ما ارى الحكم كذب على أبيه. وقيل انه كان الحكم بن عيينة استاذ زرارة من قبل انقطاعه إلى أبي جعفر الباقر فأحب أن يذب عنه بقوله هذا[80].

وجاء في رواية اخرى ان زرارة كان يرى الامام الصادق اقل علماً مما كان يظن، اذ يقول: اني كنت أرى جعفر اعلم مما هو، حيث سأله عن رجل من الاصحاب مختفي من غرامة، فقال: اصلحك الله ان رجلاً من اصحابنا كان مختفياً من غرامة فان كان هذا الامر قريباً صبر حتى يخرج مع القائم، وان كان فيه تأخير صالح غرّامه؟ فأجابه الصادق: يكون، فقال زرارة، يكون إلى سنة؟ فقال أبو عبد الله: يكون انشاء الله، فقال زرارة: فيكون إلى سنتين؟ فقال أبو عبدالله: يكون انشاء الله [81]. كذلك جاء في رواية ان زرارة لم ير في الامام الصادق ما يعتمد عليه، حيث سأل الصادق عن التشهد إن كان يتضمن فيه عبارة التحيات والصلوات كما يرد عند المخالفين، فاجابه الامام بالايجاب، فظن زرارة ان تلك الاجابة للتقية، فعاود التساؤل في اليوم الثاني، فرأى الجواب نفسه، فعاوده في اليوم الثالث، فلم يختلف الجواب. وعند ذلك لم يقتنع زرارة بما اجاب به الامام وقال: فلما خرجت ضرطت في لحيته وقلت لا يفلح ابداً[82].

***

هكذا اطلعنا على نماذج من روايات القدح في زرارة، وقد فسرها علماء المذهب تبعاً لمبدأ التقية، خاصة ان هناك روايات تشير الى هذا المعنى، لكن عيبها هو انها رويت عن طريق اهله واقربائه، مثل بعض اولاده واولاد اخيه، ومن ذلك ما جاء عن الحسين بن زرارة انه قال للصادق: ان أبي يقرأ عليك السلام ويقول لك جعلني الله فداك أنه لا يزال الرجل والرجلان يقدمان فيذكران أنك ذكرتني وقلت فيّ، فاجاب الامام: اقرأ أباك السلام، وقل له أنا والله أحب لك الخير في الدنيا، وأحب لك الخير في الاخرة، وأنا والله عنك راض فلا تبالي ما قال الناس بعد هذا[83].

وعن حمزة بن حمران انه قال للامام الصادق: بلغني أنك برئت من عمي، يعني زرارة؟ فاجاب الامام: انا لم أبرأ من زرارة لكنهم يجيؤن ويذكرون ويروون عنه، فلو سكت عنه الزمونيه، فأقول من قال هذا فأنا إلى الله منه بريء[84].

وهناك رواية طريفة تتضمن ان الامام الصادق قد ذم زرارة واعتبره من اصحاب النار، لكن هذا الاخير حملها على التقية. فقد روي عن ابن السماك انه قال: حججت فلقيني زرارة بن أعين بالقادسية وقال: ان لي لك حاجة، وعظّمها، فقلت: ماهي؟ فقال: اذا لقيت جعفر بن محمد فاقرأه مني السلام وسله أن يخبرني: هل أنا من أهل النار أم من اهل الجنة؟ فأنكرت ذلك عليه، فقال لي انه يعلم ذلك، ولم يزل بي حتى اجبته. فلما لقيت جعفر بن محمد اخبرته بالذي كان منه، فقال: هو من اهل النار، فوقع في نفسي ما قال جعفر، فقلت: من أين علمت ذاك؟ فقال: من ادعى عليّ علم هذا فهو من اهل النار، فلما رجعت لقيني زرارة فأخبرته بأنه قال لي انه من اهل النار، فقال: كل لك من جراب النورة، قلت: وما جراب النورة؟ قال: عمل معك بالتقية[85].

ولو صحت هذه الرواية لما امكن حملها على التقية كما يقول زرارة، وذلك لان هذا الحمل يعني ان زرارة كان يعرف انه من اهل الجنة، لكن على هذا الفرض ما الذي دعاه ان يسأل عن مصيره؛ اذا ما كان على علم بما في نفس الامام؟!

على ان تفسير علماء المذهب للروايات القادحة في زرارة تبعاً لمبدأ التقية لا يؤيده بعض ما جاء في تلك الروايات، وهو انها رويت عن عدد من الاصحاب المعول عليهم، كما هو الحال في رواية ابي بصير، فكيف يكون ذلك تقية؟!

كذلك لاحظنا ان هناك عدداً اخر من الروايات تبدي ان زرارة لم ير في الامام الصادق شيئاً مهماً في العلم والاعتماد، وقد جاءت بصورة لا يمكن حملها على التقية.



[1] الطوسي: عدة الاصول، تحقيق الانصاري القمي، مطبعة ستارة، قم، ج1، ص141ـ142

[2] معجم رجال الحديث، ج1، ص41

[3] الذريعة الى تصانيف الشيعة، دار الاضواء، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ، ج10، ص84

[4] الذريعة، ج10، ص80

[5] الذريعة، ج10، ص89

[6] المصدر السابق، ص145

[7] المصدر السابق، ص147

[8] المصدر السابق، ص123

[9] المصدر السابق، ص135

[10] المصدر السابق، ص118

[11] المصدر السابق، ص100

[12] المصدر السابق، ص99، وج15، ص145ـ146

[13] عدة الرجال، ج1، ص45

[14] الفهرست، ص1ـ2

[15] الذريعة، ج10، ص81

[16] رجال النجاشي، ص372

[17] نفس المصدر والصفحة السابقة.

[18] الذريعة، الطبعة الثالثة، 1403هـ ـ1983م، ج1، ص365، وج10، ص141، كذلك: اعيان الشيعة، ج9، ص165

[19] معرفة الحديث، ص56

[20] الذريعة، الطبعة الثانية، 1403هـ، ج4، ص288.

[21] الذريعة، ج10، ص89 و81

[22] معجم رجال الحديث، ج1، ص44ـ45

[23] الفهرست، ص1ـ2

[24] معجم رجال الحديث، ج1، ص44

[25] الذريعة، ج10، ص89

[26] اعيان الشيعة، ج6، ص84

[27] خاتمة مستدرك الوسائل، ج1، ص66

[28] الذريعة، ج10، ص89

[29] جعفر السبحاني: كليات في علم الرجال، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الثالثة، 1414هـ، ص94، عن مكتبة التبيان الالكترونية :  http://hozeh.tebyan.net

[30] روضات الجنات، ج1، ص69، وبحر العلوم: الفوائد الرجالية، ج2، ص45ـ46

[31] الفوائد الرجالية، ج2، ص46

[32] الذريعة، ج10، ص154.

[33] رجال النجاشي، ص221

[34] رجال الطوسي، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، 1415هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، المقدمة، ص17.

[35] الذريعة، ج10، ص120، واعيان الشيعة، ج9، ص165.

[36] الفهرست، ص71

[37] الفهرست، ص191

[38] روضات الجنات، ج1، ص70ـ71.

[39] الذريعة، ج10، ص155

[40] نهاية الدراية، ص382

[41] رجال النجاشي، المقدمة، ص3

[42] رجال النجاشي، ص 3 و403

[43] معجم رجال الحديث، ج1، ص43

[44] روضات الجنات، ج6، ص222

[45] معالم الدين، ص230ـ231

[46] رسالة الاجتهاد والاخبار، ص59.

[47] نهاية الدراية، ص382ـ384.

[48] روضات الجنات، ج6، ص245ـ246، كذلك: نهاية الدراية، ص283

[49] لؤلؤة البحرين، ص298، وروضات الجنات، ج6، ص218

[50] معجم رجال الحديث، ج1، ص43

[51] فرائد الاصول، ج1، ص215

[52] فرائد الاصول، ج1، ص188، كذلك: محمد حسين الأصفهاني: الفصول الغروية في الاصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية، قم، 1404هـ، ص402

[53] منتقى الجمان، ج1، ص21، ونهاية الدراية، ص373

[54] ابو القاسم الخوئي: التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الاجتهاد والتقليد، تحرير الميرزا علي الغروي التبريزي، مقدمة عبد الرزاق الموسوي المقرم، مطبعة الآداب، النجف، ص26

[55] منتقى الجمان، ج1، ص22، ونهاية الدراية، ص373

[56] رسالة الاجتهاد والاخبار، ص52ـ59، ولاحظ ايضاً: محمد حسن النجفي: جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، تحقيق وتعليق وتصحيح محمود القوچاني، دار الكتب الإسلامية بطهران، 1367هـ ـ ش، ج22، ص68.

[57] رسالة الاجتهاد والاخبار، ص78ـ79

[58] رسائل الشريف المرتضى، ج3، ص281

[59] اختيار معرفة الرجال، فقرة 431

[60] المصدر السابق، فقرة 705

[61] المصدر السابق، فقرة 1050

[62] معجم رجال الحديث، ج1، ص57ـ58

[63] فهرست الطوسي، ص74

[64] فهرست ابن النديم، ص272

[65] اعيان الشيعة، ج7، ص51

[66] اعيان الشيعة، ج7، ص47 ـ54

[67] اختيار معرفة الرجال، حديث 266

[68] المصدر السابق، حديث 269

[69] المصدر السابق، حديث 241

[70] المصدر السابق، حديث 240

[71] المصدر السابق، حديث 231، وحديث 230

[72] المصدر السابق، حديث 242

[73] المصدر السابق، حديث 237

[74] المصدر السابق، حديث 350 و435

[75] المصدر السابق، حديث 268

[76] المصدر السابق، حديث 236

[77] المصدر السابق، حديث 238

[78] المصدر السابق، حديث 247

[79] المصدر السابق، حديث 228

[80] المصدر السابق، حديث 262، وكذا حديث 264

[81] المصدر السابق، حديث 261

[82] المصدر السابق، حديث 265، وكذا حديث 267

[83] المصدر السابق، حديث 222، وفي رواية اخرى طويلة عن عبدالله بن زرارة انه نقل بان الامام الصادق قال له: اقرأ مني على والدك السلام وقل له: اني انما أعيبك دفاعاً مني عنك؛ فان الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه لادخال الاذى في من نحبه ونقربه، يرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا، ويرون ادخال الاذى عليه وقتله، ويحمدون كل من عبناه. فانما أعيبك لانك رجل اشتهرت بنا ولميلك الينا وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الاثر لمودتك لنا ولميلك الينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون بذلك منا دفع شرهم عنك... لا يضيقن صدرك من الذي أمرك أبي عليه السلام وأمرتك به، وأتاك أبو بصير بخلاف الذي أمرناك به، فلا والله ما أمرناك ولا أمرناه الا بأمر وسعنا ووسعكم الاخذ به، ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق، ولو أذن لنا لعلمتم أن الحق في الذي أمرناكم به، فردوا الينا الامر وسلموا لنا واصبروا لاحكامنا وارضوا بها... عليكم بالتسليم والرد الينا وانتظار أمرنا وأمركم وفرجنا وفرجكم.. (المصدر السابق، حديث 221).

[84] المصدر السابق، حديث 232، ومثل ذلك حديث 233.

[85] المصدر السابق، حديث 270

comments powered by Disqus