يحيى محمد
ليست هناك قضية اهم من مسألة الامامة في الفكر الشيعي. ولعل السبب في ذلك يعود الى ما تشغله هذه المسألة من محور مركزي في كتب الرواية، خصوصاً تلك التي تتعلق بمجال الاصول والعقائد. لكن المشكلة انها ليس لها ذكر صريح في القرآن.
فمن المعلوم ان آلاف الروايات تتحدث باسهاب عن تلك الفكرة، فتبدي ما للائمة من علوم شمولية وقدرات خارقة لم تعرف حتى للنبي (ص). فهم معصومون ومنصوص عليهم من الله تعالى، ولهم من العلوم الغيبية ما لا يحصى، كما لهم من الكرامات والمعاجز، وانهم اركان الارض وحجج الله على العباد. فمثلاً عقد الكليني في الكافي كتاباً اطلق عليه (كتاب الحجة) ويحوي اكثر من ألف حديث يفيد هذا المعنى، وان كان ما يقارب ثلاثة ارباع هذا العدد يعد من الضعيف حسب الاعتبارات التي اتخذها الاصوليون من التقسيم المستحدث للحديث[1]. ولكي تتضح صورة هذه الاحاديث يمكن لحاظ ما احتواه الكتاب المذكور من عناوين، ابرزها ما يلي:
‹‹الاضطرار إلى الحجة، ان الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام، ان الأرض لا تخلو من حجة، انه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة، معرفة الإمام والرد إليه، فرض طاعة الأئمة، في أن الأئمة شهداء الله على خلقه، ان الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه، ان الأئمة خلفاء الله في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى، ان الأئمة نور الله، ان الأئمة هم أركان الأرض، ان الأئمة ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذين ذكرهم الله، ان الأئمة هم العلامات التي ذكرها الله في كتابه، ان الآيات التي ذكرها الله في كتابه هم الأئمة، ان أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة، ان من وصفه الله في كتابه بالعلم هم الأئمة، ان الراسخين في العلم هم الأئمة، ان الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم، في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة، ان الأئمة في كتاب الله إمامان إمام يدعو إلى الله وإمام يدعو إلى النار، ان القرآن يهدي للإمام، ان النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة، ان المتوسمين الذين ذكرهم الله في كتابه هم الأئمة، عرض الأعمال على النبي والأئمة، ان الطريقة التي حث على الاستقامة عليها ولاية علي، ان الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة، ان الأئمة ورثة العلم يرث بعضهم بعضاً العلم، ان الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم، ان الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها، انه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة وأنهم يعلمون علمه كله، ما أعطي الأئمة من اسم الله الأعظم، ما عند الأئمة من آيات الأنبياء، ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة، ان الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل، ان الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا، ان الأئمة يعلمون متى يموتون وانهم لا يموتون إلا باختيار منهم، ان الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وانه لا يخفى عليهم الشيء، ان الله لم يعلم نبيه علماً إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وانه كان شريكه في العلم، ان الأئمة لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه، ان الأئمة بمن يشبهون ممن مضى وكراهية القول فيهم بالنبوة، ان الأئمة محدثون مفهمون، ذكر الأرواح التي في الأئمة، الروح التي يسدد الله بها الأئمة، ان الإمامة عهد من الله معهود من واحد إلى واحد، خلق أبدان الأئمة وأرواحهم وقلوبهم، ان الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار، ان الجن يأتيهم فيسألونهم عن معالم دينهم ويتوجهون في أمورهم، انه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة وان كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل، فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب، ان الأرض كلها للإمام، ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم››.
فالمعطيات التي تبديها روايات هذه العناوين وغيرها مما هو مسطر في سائر كتب الحديث الاصولية، تفرض علينا فهماً للدين هو غير الفهم الظاهر، فتدخلنا في باطنية كتلك التي تدعو اليها الاسماعيلية، او تجرنا الى نوع من الديانة هي خلاف الديانة المعروفة. فهناك حشود كبيرة من الروايات تدل على معاني تتضارب مع المفاهيم المستقاة من القرآن. والكتب المصنفة حول ذلك، ومنها كتاب الكافي، تتذرع بالدفاع عن بعض الفروع لكنها تعمل على تقويض الاصول، وكان من بين ذلك تقويض القرآن نصاً وتنزيلاً، ولم تبال ما تقع به من تناقضات صارخة.
هذا ما سنكشف عنه فيما بعد. لكن ما يهمنا - هنا - هو اصل الفكرة الخاصة بالامامة والامتيازات التي صورت لها من العصمة والعلم الشمولي. فاول ما يعترض هذه الفكرة هو ما نجده من التعارض بين صنفين مختلفين من المعطيات، احدهما عبارة عن مضامين الروايات المسندة الى الائمة من جهة، والاخر عبارة عن سلوك اصحاب الائمة المتأخرين من جهة ثانية. حيث يشير عدد كبير من الروايات الى ان علم الائمة شامل ومشترك، وقد جاءت النصوص الخاصة بالجفر ومصحف فاطمة وغيرها ما يؤكد هذه الناحية. لكن المشكلة التي تواجهنا بهذا الصدد، هو ان مضامين هذه الروايات لا تتسق مع السلوك الذي كان عليه المكثرون من اصحاب الائمة المتأخرين - من امثال الامامين الهادي والعسكري - فهي لا تفسر لماذا كان هؤلاء يتجشمون العناء ليرووا عن المتقدمين من الائمة روايات هي في افضل الاحوال ظنية، او ليهتموا بعلم الرجال والتعديل والتجريح[2]، اذ كان يكفيهم تحصيل اليقين بالاخذ ممن عاصروهم على فرض ان علمهم غيبي او مشترك، لكنهم لم يفعلوا؟!
ومثلما ينطبق هذا الحال على المكثرين من المشايخ المعاصرين للائمة المتأخرين، ومنهم مشايخ الكليني، فانه ينطبق ايضاً على هذا الاخير، حيث انه عاصر الغيبة الصغرى للامام المهدي، وزار العراق وحدث عن بعض مشايخ بغداد موطن السفراء الاربعة لكنه مع ذلك لم يتحر الاتصال بأي منهم لعرض كتابه والتأكد من صحته مع ادراكه لاهميته، خاصة وانه - كما قال النجاشي - انشغل به عشرين سنة يجوب فيها البلدان بحثاً عن الرواة وكتب الرواية[3].
وليس من الصحيح ان يقال بان الائمة اوكلوا امر القضايا الدينية الى العلماء والفقهاء. فهذا الجواب يتم فيما لو ان الامور الدينية كانت واضحة، اما تركها على ما هي عليه من التعارضات والتناقضات والوضع والتزوير، وجعل التعويل فيه على العلماء الحيارى، هو مما لا يعقل اطلاقاً. كيف وقد علمنا ان الكليني ذاته كان متمشكلاً بمشكل غياب الحقيقة الدينية. فالسؤال على هذا يظل قائماً، اي ما سبب عزوف الكليني عن الاتصال بالسفراء وعرض كتابه عليهم؟ فهل كان لا يثق بسفارتهم ونيابتهم؟ أم كان يخشى ان يقولوا في كتابه ما لا يرضيه كما حصل مع غيره[4]؟ او ان هناك سبباً اخر نجهله..
واهم من ذلك، الاشكال المتعلق بالسلوك الغالب على المكثرين من المشايخ المعاصرين للائمة المتأخرين، حيث انهم يعولون على الرواية عبر سلسلة الوسائط عن الامام الصادق والباقر والرضا دون اللجوء مباشرة الى الائمة الذين عاصروهم، فلو كانت الامامة واحدة والهامية لما جاز هذا السلوك الظني ولوجب الرجوع الى امام العصر لاستفتائه والاكتفاء بما يقره، كما لوجب الاحتفاظ بكتاب منقول عن الائمة مباشرة دون التوسل بالروايات ومنها الروايات الضعيفة والمرسلة.
فمثلاً كان محمد بن يحيى (أبو جعفر) يعد من الثقات، وهو من مشايخ الكليني وعاصر الامام العسكري، ومع ذلك فان رواياته عنه إن صحت فانها قليلة لا تعد بشيء قبال كثرة ما رواه عبر الوسائط، حيث وقع في إسناد ما يقارب ستة الاف (5985) مورد، وروى عن احمد بن محمد وحده ما يقارب ثلاثة الاف (2951) رواية، وقد اعتمد عليه الكليني وروى عنه اكثر من خمسة الاف (5073) رواية[5]. كذلك كان احمد بن محمد بن خالد البرقي يعد من الثقات وعاصر بعض الائمة المتأخرين، وهو من اصحاب الامامين الجواد والهادي، وكان في زمان العسكري دون ان يروي عنه شيئاً، وهو فوق هذا كان يكثر الرواية عن الضعفاء ويعتمد المراسيل[6]. وكذا يقال الشيء نفسه عن محمد بن الحسن الصفار وعلي بن ابراهيم القمي وغيرهم، فكتبهم تستند الى الائمة المتقدمين بالرواية والعنعنة دون اللجوء الى الائمة الذين عاصروهم وصاحبوهم[7]، مع ان هذه الصحبة تكفي لاستعلام الامر كما هو، سواء كانت هناك تقية شديدة كما يقال، او لم تكن. كذلك فان شيوع روايات هؤلاء الاصحاب وكثرتها، مع ما فيها من كثرة الموارد المنافية للتقية، يجعل من الصعب تفسير الحالة طبقاً للتقية، اذ من التناقض القول ان الائمة كانوا يعملون بها فلا يظهر عليهم شيء يعارضها، في حين ان اصحابهم كانوا يفعلون العكس، وذلك بترويجهم للروايات المنافية لها، حتى وصلت الينا. وحتى لو قيل ان اصحاب الائمة كانوا حريصين على عدم ايصال مثل هذه الروايات الى المخالفين، لكنهم اشاعوها بين اصحابهم ومن ثم وصلت الينا، فان ذلك لا يمنع من ان يفعلوا الشيء نفسه في الرواية عن الائمة المتأخرين ومن ثم حفظها واشاعتها بين الاصحاب لتكون حجة على الجميع؛ بدل الخلاف الحاصل بينهم كما في الامور العقائدية ومنها تلك التي تخص الائمة، رغم انهم عاصروهم وصاحبوهم.
فما سر هذا السلوك لاصحاب الائمة المتأخرين؟ بل ما فائدة الاصول والكتب التي دونت في عصر الائمة وهي مختلطة بين الصحيحة والموضوعة والمزورة، اذ كان يكفي نقل عدد قليل من الكتب عن الامام مباشرة دون العنعنة والوسائط، ليستفاد من خلالها بكل ما يراد له في التكليف، مع الامر بحفظها بين الثقات مثلما تم الحفاظ على الكتب الاربعة المعتبرة؟ وكذا نقول: ما فائدة علم الرجال وتسجيل الثقات والضعفاء في عهد الائمة، اذا كان الغرض هو الوصول الى اقوال الائمة، وهم كانوا حاضرين غير غائبين؟!
ان جميع هذه التساؤلات والاشكالات تصدق بحق القائلين بالعلم الشمولي والغيبي للائمة. ذلك انها تبعث على الظن بان المشايخ الذين عاصروا الائمة المتأخرين لم يجدوا عندهم العلم اللدني والشمولي، فترى الكثير منهم يبحثون عن الضالة التي يشتهونها من علوم الغيب والاساطير والغلو والغرائب وكل ما يستثير النفوس، فوجدوا ذلك أمامهم في الكتب والروايات التي تنسب الى الامام الصادق وغيره، ولم يجدوا الشيء نفسه لدى من عاصروهم من الائمة، فزاد اهتمامهم بالائمة المتقدمين دون من عاصروهم. ويدل على ذلك ما وصلنا من كتبهم، إن لم تلحقها يد الوضع والتزوير، مثل كتاب تفسير القمي وبصائر الدرجات للصفار والمحاسن للبرقي وغيرها.
وهذه القضية تلقي بظلالها على مسألة العصمة، حيث انقسم قدماء الشيعة حولها الى عدد من الطوائف. والكثير منهم ذهبوا الى ان الائمة معصومون - تماماً - ويحملون العلم اللدني وانهم لا يختلفون فيما بينهم، رغم ان شواهد البحث في الرواية والرجال لا تؤيد هذا الاعتقاد كما عرفنا، وهو فضلاً عن ذلك لا يتسق مع منطق القرآن الكريم في ذكره لسيرة الانبياء ومنها سيرة نبينا محمد (ص)[8].
وفي قبال هؤلاء ذهب جماعة الى ان الائمة هم من كمّل المؤمنين مع نفي العصمة، لكن شاء المغالون والوضاعون ان يدسوا في الامامة كل ما يريدونه حتى رفعوها الى حد الربوبية عبر ما يطلق عليه (الولاية التكوينية) ربما تأثراً باسقاطات النظام الوجودي[9]. فقد ذكر الوحيد البهبهاني في فوائده الرجالية ان كثيراً من القدماء لا سيما القميين وابن الغضائري كانوا يعتقدون بان للائمة مكانة لا يجوز تعديها والارتفاع عنها، وكانوا يعدون التعدي ارتفاعاً وغلواً، فاعتبروا مثل نفي سهو النبي عنهم غلواً، بل وربما جعلوا نسبة مطلق التفويض اليهم او التفويض المختلف فيه او الاغراق في اعظامهم وحكاية المعجزات وخوارق العادات عنهم او المبالغة في تنزيههم عن كثير من النقائص واظهار سعة القدرة واحاطة العلم بمكنونات الغيوب في السماء والارض ارتفاعاً وموجباً للتهمة، خصوصاً والغلاة كانوا مخلوطين بهم يتدلسون فيهم. ثم اشار البهبهاني الى ان القدماء كانوا يختلفون في المسائل الاصولية كالفرعية، فربما كان بعض الاعتقادات عند بعضهم كفراً او غلواً او تفويضاً او جبراً او تشبيهاً او نحو ذلك، وعند اخرين مما يجب اعتقاده[10].
وسبق للشيخ المفيد أن نقل عن جماعة من القميين انهم يعتقدون بان الائمة كانوا لا يعرفون الكثير من الاحكام الدينية حتى يلهمون في قلوبهم، ومنهم من يقول انهم كانوا يلجأون في الاحكام الشرعية الى الرأي والظنون[11]. وقد كان ابن الجنيد يرى ان الائمة يجتهدون ويعملون بالرأي، وذلك عندما وجد الاقوال المنقولة عنهم متضاربة، حيث جمع مسائل وكتبها الى اهل مصر وسماها (المسائل المصرية) ذكر فيها ان اخبار الائمة مختلفة في معانيها لاعتمادهم على الرأي[12].
كذلك صرح الشهيد الثاني ان جلّ رواة الائمة وشيعتهم كانوا يعدون الائمة علماء ابرار افترض الله طاعتهم مع عدم الاعتقاد بعصمتهم[13].
ويؤيد هذا المنحى ما هو معروف من الخلاف بين اصحاب الائمة حول الامام الواجب طاعته. ولهذا الخلاف دلالات عديدة سنبرزها بعد ان نستعرض جملة منه كالاتي:
ان أول فرقة نشأت وبدأت الخلاف هي فرقة الكيسانية التي ادعت ان الامامة تعود الى محمد بن الحنفية بعد الحسن والحسين، وانه المهدي المنتظر، ثم بعد ذلك ظهرت فرقة الزيدية التي عدت زيد بن علي بن الحسين هو الامام الواجب طاعته بعد ابيه زين العابدين. وكان لزيد وعدد من علماء آل البيت استقلالية عن الخط العام للامامة، ولشدة الوثوق به وجلالته فقد اعتبره البعض الامام الثالث عشر[14]. وقد استمر الخلاف بين الاصحاب حول الائمة واحداً تلو الاخر كالذي يبرزه اصحاب السير والفرق. وظهرت شدته بعد وفاة الامام الصادق، ولم يخفت حتى اخر الائمة. فما إن توفي الامام الصادق حتى ادعت فرقة انه حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر فيملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، لانه القائم المهدي. وذهبت فرقة اخرى الى ان هذا الامام مات ونصّ على إبنه إسماعيل وانه الامام بعده وأنه القائم المنتظر، وأنكرت وفاته في حياة أبيه. وقال البعض ان إسماعيل قد توفي على الحقيقة في زمن أبيه غير أنه قبل وفاته نصّ على ابنه محمد فكان الامام بعده، وبعضهم قال ان الذي نص على محمد هو الصادق وليس اسماعيل. وذهب البعض الى ان الامام الصادق توفي وان الامام بعده ابنه محمد[15].
واعظم ما ظهر من خلاف واضطراب هو ما ذهب اليه غالبية الشيعة انذاك من امامة ولد الصادق الاكبر عبد الله الملقب بالافطح. ثم انقاد اغلب الشيعة بعد ذلك الى امامة موسى الكاظم. وبعد وفاته قال جمهورهم بامامة علي الرضا، لكن جماعة منهم توقفوا عند موسى الكاظم وادعوا حياته وانه هو المهدي المنتظر. وقال فريق منهم انه مات وسيبعث قائماً. كما اختلفت الواقفة في الامام الرضا ومن قام من آل محمد بعد موسى الكاظم، فقال البعض هؤلاء خلفاء موسى وامراؤه وقضاته إلى أوان خروجه وإنهم ليسوا بأئمة وما ادعوا الامامة قط، وقال الباقون إنهم ضالون مخطئون ظالمون، وقالوا في الرضا خاصة قولاً عظيماً وأطلقوا تكفيره وتكفير من قام بعده من ولده. كما اختلف الشيعة بعد وفاة الامام الرضا، اذ لم يكن له الا ولد واحد وعمره عند وفاة أبيه سبع سنين، وهو محمد الجواد، فذهبت فرقة الى القول بامامته، كما ارتدت فرقة الى قول الواقفة ورجعوا عما كانوا عليه من إمامة الرضا، كما قالت فرقة بإمامة أحمد بن موسى الكاظم، وزعموا ان الرضا نصّ عليه. وبعد ذلك ذهب الشيعة الى امامة علي الهادي باستثناء القليل منهم حيث ذهبوا الى امامة اخيه موسى، ولما توفي الامام الهادي تفرق الشيعة وقال جمهورهم بامامة الحسن العسكري، وقال بعضهم بامامة اخيه محمد بن علي فانكروا وفاته في حياة ابيه وزعموا انه لم يمت وانه حي وانه القائم المنتظر، كما ذهب البعض الى امامة جعفر بن علي[16]. ولما توفي الحسن العسكري افترق اصحابه الى أربع عشرة فرقة كالذي ذكرهم النوبختي في (فرق الشيعة) وذلك كالاتي:
حيث قال الجمهور منهم ان للامام الحسن ولداً اسمه محمد وهو القائم المنتظر، وبعض قال ان اسمه علي، كما قال بعض بان القائم بعد الحسن هو ابنه محمد الذي ولد بعد موت ابيه بثمانية اشهر، وهو المنتظر، وقال اخرون ان محمد بن الحسن العسكري مات وسيجيء ويقوم بالسيف فيملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وذهب بعض اخر الى ان الامام الحسن مات عن غير ولد ظاهر ولكن عن حبل من جارية له، وما ولدته امه بعد، وإنه يجوز أنها تبقى مائة سنة حاملاً به، فإذا ولدته أظهرت ولادته. ومنهم من ذهب الى ان الحسن حي لم يمت وانما غاب وهو القائم المنتظر، ومنهم من قال انه مات وعاش بعد موته، وهو القائم المهدي. وبعضهم ذهب الى امامة جعفر بن علي بعد موت اخيه الحسن، كما رجعت فرقة ممن كانت تقول بإمامة الحسن عن إمامته عند وفاته وقالوا لم يكن إماماً وكان مدعياً مبطلاً، وأنكروا إمامة أخيه محمد، وقالوا الامام هو جعفر بن علي بنص أبيه عليه، كذلك رجعت فرقت اخرى عن امامة الحسن بالقول بامامة اخيه محمد فادعوا حياته بعد ما كانوا ينكرونها. وقالت فرقة اخرى إن الامامة قد بطلت بعد الحسن فارتفعت الائمة وليس في الارض حجة من آل محمد، وإنما الحجة الاخبار الواردة عن الائمة المتقدمين، وزعموا أن ذلك سائغ إذا غضب الله على العباد فجعله عقوبة لهم. كما ذهب اخرون الى إن محمداً أخا الحسن العسكري كان الامام في الحقيقة مع أبيه علي وإنه لما حضرته الوفاة وصى إلى غلام له يقال له نفيس وكان ثقة أميناً، ودفع إليه الكتب والسلاح ووصاه أن يسلمها إلى أخيه جعفر، فسلمها إليه وكانت الامامة في جعفر بعد محمد على هذا الترتيب. وقالت فرقة اخرى قد علمنا أن الحسن كان إماماً فلما قبض التبس الامر علينا فلا ندري أجعفر كان الامام بعده أم غيره، والذي يجب علينا أن نقطع على أنه لابد من إمام ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعينه حتى يتبين لنا ذلك. واخيراً قالت فرقة بأن الامامة لجعفر بعد ان نص عليه اخوه الحسن عندما حضرته الوفاة، وزعموا أن الذي دعاهم إلى ذلك ما يجب في العقل من وجوب الامامة مع فقدهم لولد الحسن وبطلان دعوى من ادعى وجوده من الامامية[17].
وتعد هذه المدة من وفاة الامام العسكري اعظم الفترات اضطراباً وحيرة لدى علماء الشيعة وفقهائها. لكنها مسبوقة بعدد من فترات الاضطراب التي فرقت شمل من وصفوا بالاجلة العظام من اصحاب الائمة، خاصة بعد الامامين الصادق والكاظم، لا سيما عند ظهور فرقة الفطحية حيث تحمل من الدلالات ما تحمل[18]. وقد ذهب اليها والى غيرها عدد ممن يعدون من اصحاب الاجماع؛ مثل عبد الله بن بكير وابان بن عثمان الذين ذهبا الى امامة عبد الله بن جعفر الصادق، وبعضهم وقف عند الامام موسى الكاظم مثل أحمد بن محمد بن أبي نصر، كما ان بعضاً اخر قال بالوقف ثم رجع عنه، مثل جميل بن دراج وحماد بن عيسى[19]. هذا بالاضافة الى غيرهم ممن اعتبروا من الاعاظم والاجلاء، وان لم يكونوا من اصحاب الاجماع، ويكفي ما صرح به الكشي في كل من محمد بن الوليد الخزاز ومعاوية بن حكيم ومصدق بن صدقة ومحمد بن سالم بن عبد الحميد، حيث قال: هؤلاء كلهم فطحية، وهم من أجلة العلماء والفقهاء والعدول، وبعضهم أدرك الرضا عليه السلام، وكلهم كوفيون[20].
دلالات الاختلاف والحيرة في الامامة
ماذا يدل كل ذلك الاختلاف والحيرة والاضطراب بين اصحاب الائمة، خاصة وبينهم من وصفوا بالجلالة والتقوى؟
لعلنا نقف على عدد من الدلالات والاستنتاجات لما حصل، وذلك كالاتي:
1ـ ان عدد الائمة لم يكن معروفاً اثناء حياتهم، وذلك بدلالة القول بالوقف لدى الكثير من الاصحاب، وبدلالة انه لم يظهر من يبطل حجج هؤلاء بدعوى نقصان العدد. اذ كيف يتسق ذلك مع شيوع خبر الائمة الاثني عشر؟! وكل ما روي بهذا الشأن لا يقف قوة قبال هذه الدراية، فلعلها ظهرت في عصر الغيبة لتبرير النهاية بعد الحيرة، ويقرب هذا المعنى انه جاء في رواية عن احمد بن محمد البرقي تبين ان الائمة اثنا عشر اماماً، حيث رواها محمد بن يحيى عن محمد بن حسن الصفار عن البرقي المذكور، فعلق محمد بن يحيى وقال للصفار: يا أبا جعفر وددت أنّ هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله (البرقي)، فأجاب الصفار: لقد حدّثني قبل الحيرة بعشر سنين[21]. وقيل ان ظاهر هذا الحديث يفيد ان البرقي صار متحيراً في امر الامامة او خصوص امامة المهدي[22] ، واجاب العلماء على ذلك بوجوه مختلفة[23]. والمعروف ان الحيرة ظهرت عند وفاة الحسن العسكري، وسميت بذلك لاضطراب الناس حول الامام بعده[24]. والخبر المذكور يدل بان زمن الحيرة يدعو الى حالة وضع الاحاديث الخاصة بالاثني عشر اماماً.
بل ويدلنا على ذلك ان ما وصلنا من الروايات عن عدد الائمة كان لدى كتاب (بصائر الدرجات) قليلة للغاية ربما لم تتجاوز ثلاث روايات[25]، وانها كانت لدى (الكافي) عشرين رواية الكثير منها تعتليها الصفة الاسطورية، وان ما جاء فيها من الاحاديث المعدة صحيحة حسب الاعتبارات المصطلح عليها؛ حديث منفرد وصف بانه حسن كالصحيح، واخر مروي عن احمد بن محمد البرقي بطريقين مختلفين، وهو الحديث الذي دار حوله الحوار المذكور بين محمد بن يحيى ومحمد بن حسن الصفار، ويتصف الحديث بالطابع الاسطوري[26]. اما غير ذلك من الاحاديث فانها معدودة ضمن الاحاديث غير الصحيحة، حيث بعضها ضعيف، وبعض اخر يتضمن الرفع او المجاهيل[27].
وعليه لو ابعدنا الحديث الاسطوري المعدود ضمن الاحاديث الصحاح، فانه يبقى حديث واحد من بين العشرين حديثاً أُعتبر حسناً كالصحيح. لكن هذا الحديث ليس بشيء قبال الدراية التي مرت معنا، مع ما في سنده من بعض الذين لم يرد فيهم نص من التوثيق، وهو ابراهيم بن هاشم القمي، وان الحديث مروي عن بعض الائمة المتقدمين لا المتأخرين ممن عاصرهم الشيخ المذكور وابنه علي[28].
هذا ما جاء في عصر الغيبة الصغرى، اما بعدها فالملاحظ ان روايات خبر الائمة الاثني عشر قد زادت عدداً. حيث اورد الشيخ الصدوق في (الخصال) اكثر من خمسين رواية[29]. كما روى معاصره احمد بن عياش الجوهري (المتوفى سنة 401هـ) روايات اخرى من العامة والخاصة تقارب عدد ما رواه الكليني[30]. وجاء في كتاب (كفاية الاثر) المنسوب الى الخزاز القمي اضعاف الاعداد السابقة مروية عن النبي واصحابه والائمة[31]، لكن الكتاب لم تثبت نسبته، فمع ان النجاشي والطوسي ذكرا الخزاز في كتبهما الرجالية، الا انهما لم يذكرا له هذا الكتاب، فقد وثقه النجاشي وقال عنه كان فقيهاً وجيهاً له كتاب الايضاح في اصول الدين على مذهب أهل البيت (ع)[32]، كما وثقه الطوسي في (الفهرست) وقال عنه بانه متكلم جليل، له كتب في الكلام، وله انس بالفقه، وكان مقيماً بالري وبها مات رحمه الله[33]، كذلك ذكره الطوسي في رجاله واكتفى بالقول عنه: علي بن أحمد بن علي الخزاز، نزيل الري، يكنى أبا الحسن، متكلم جليل[34]. وبهذا فان النجاشي والطوسي لم يعرّفا بان للخزاز كتاباً بالعنوان المذكور، وكان الاولى ان يذكرا ذلك في فهرستيهما، إن صح ان له ذلك الكتاب. وسار على هذا المسار عدد من اصحاب الرجال المتأخرين مثل العلامة الحلي في (خلاصة الرجال) حيث عرفه دون ان يذكر له كتباً[35].
ولعل اول من ذكر ان للخزاز الكتاب المذكور - ولو بشيء من الاختلاف في الاسم - هو ابن شهر آشوب (المتوفى سنة 588 هـ) حيث عرفه في (معالم العلماء) بقوله: ان له كتباً في الكلام وفي الفقه، من كتبه: كتاب الاحكام الشرعية على مذهب الامامية، والايضاح في الاعتقاد، والكفاية في النصوص[36]. كما اسند الحر العاملي هذا الكتاب الى الخزاز عبر سلسلة طويلة من الرجال[37].
بل حتى لو ثبت ان للخزاز كتاباً بذلك الاسم، فمن غير المعلوم ان ما عثر عليه من نسخة هي ذاتها له دون زيادة ولا نقصان. فقد كتب على النسخة التي عثر عليها في الاخر: ‹‹تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه وعونه، ووافق الفراغ منه يوم الثلاثاء مستهل جمادي الاولى من سنة أربع وثمانين وخمسمائة››[38]. مع انها وصفت مكتوبة ‹‹بخط وورق وترتيب كلها في غاية الجودة، وورقه لم يبله مر القرون وان أثر فيه، وتفوق هذه النسخة في حسن الترتيب في كتابتها المطبوعات العصرية الجيدة الترتيب››[39]. وهو ما يبعث على الشك بان تكون النسخة كتبت في الزمن المذكور، بدلالة ان هناك من قام بتقديم تأريخ كتابة نسخة اخرى للكتاب مائة عام دون ذكر اسمه، وهي النسخة التي اعتمدها محقق الكتاب مع نسخة ثانية[40].
وقديماً لم يحظ الكتاب بوصف يليق بما يتضمنه من اخبار، ولم يظهر للعلماء القدماء ادنى اهتمام به على فرض وجوده مع اهميته من حيث كثرة عدد الاخبار الدالة على الاثني عشر امام. هذا ناهيك عما جرى من لبس في اسم الكتاب ونسبته، فقد ذكر محقق الكتاب: ‹‹رأيت بخط بعض الافاضل على ظهر كتاب (الكفاية) المذكور أنه قد يعرف تارة بكتاب الكفاية وتارة بكتاب مقتضب الاثر في النصوص على الائمة الاثني عشر، والحق أنه سهو ظاهر. وقد يعرف هذا الكتاب بكتاب (مشكاة الانوار) أيضاً على ما قيل، ولكن لم يثبت عندي، وبالجملة هو غير (مشكاة الانوار) لسبط الشيخ الطبرسي وغير (مشكاة الانوار) للكفعمي في الادعية، وهو ظاهر. ثم من الغرائب أنه قد ينسب إليه أيضاً في بعض المواضع كتاب (الباب المفتوح الى ما قيل في النفس والروح) وكتاب (مختصر المصباح) وكتاب (مختصر المختلف) وكتاب (مختصر مجمع البيان) ورسالة (في المنطق)، إذ هو سهو ظاهر، لان اكثر هذه الكتب قد ألف بعد هذا الشيخ بزمان كثير، ومن البين أن مؤلف هذه الكتب هو الشيخ زين الدين البياضي صاحب كتاب (الصراط المستقيم) وغيره››. كما نقل السيد محسن الامين العاملي عن المجلسي نسبة هذا الكتاب الى المفيد وعن غيره نسبته الى الصدوق[41].
2ـ كذلك وللسبب السابق ذاته لا تقف روايات تشخيص الائمة قبال الدراية الخاصة بجهل المقربين من الائمة بهم. فمثلاً ان زرارة مات ولم يعرف من هو الامام بعد جعفر الصادق، اذ روي انه بعث ولده لاستقصاء الامر ولما قربت وفاته اخذ المصحف ووضعه على صدره وقال: اللهم إني أئتم بمن يثبت هذا المصحف إمامته[42]. كذلك الحال فيما عرفناه من ان اغلب اصحاب الامام الصادق لم يعرفوا في البدء من هو الامام بعده، فعولوا على ابنه الاكبر عبد الله الافطح، وكذا بالنسبة للاخرين الذين قالوا بالوقف، او الذين اختلفوا على اولاد الائمة. وقد ادرك عدد من المحققين ما تستلزمه هذه الدراية، فقال الميرزا ابو الحسن الشعراني بعد ذكره لخلاف الاصحاب على الائمة: انه ‹‹لو كان الأئمة متعينين لم يعهد منهم التفحص››[43]. كما قال البهبودي: ‹‹ان الاحاديث المروية في النصوص على الائمة جملة من خبر اللوح وغيره كلها مصنوعة في عهد الغيبة والحيرة وقبلها بقليل، فلو كانت هذه النصوص المتوفرة موجودة عند الشيعة الامامية لما اختلفوا في معرفة الائمة الطاهرة هذا الاختلاف الفاضح، ولما وقعت الحيرة لاساطين المذهب واركان الحديث سنوات عديدة، وكانوا في غنى ان يتسرعوا الى تأليف الكتب لاثبات الغيبة وكشف الحيرة عن قلوب الامة بهذه الكثرة››[44].
3ـ ان الدلالتين السابقتين تثيران اشكالية جوهرية تحتاج الى تحليل، وذلك اننا نواجه افتراضين لكل منهما شواهده الدالة عليه، احدهما المعطيات السابقة من النقل الخاص عن اضطراب اصحاب الائمة حول معرفتهم على وجه التحديد، اما الاخر فهو النقل الخاص بالروايات التي تعرف بتشخيص الائمة وتبيان عددهم بوضوح. ومن الواضح ان الافتراض الاول لا ينسجم مع الثاني، فاحدهما لا بد ان يكون كاذباً، وكلا النقلين قد تفشيا في عصر الغيبة. فأيهما اقوى دليلاً من الاخر؟
لنختبر النقلين من حيث دوافع الكذب والمصلحة، حيث الملاحظ ان النقل الخاص باختلاف الاصحاب ليس فيه ما يبعث على مصلحة الكذب، وذلك لأن نقلة هذا الاختلاف هم من المنتسبين الى الشيعة وثقاتهم، وليسوا من اطراف خارجية كي يطرأ احتمال الكذب، بل أصبح من الميقن عند العلماء بلا خلاف ان هذا الاختلاف كان جارياً وانه ظهرت على اثره الكثير من الفرق الذين يعرف رجالهم واراؤهم. وعليه بنى اصحاب المقالات والفرق وكذا اصحاب الرجال والتوثيق علومهم، فيقال هذا واقفي، وذاك ناووسي او فطحي او اسماعيلي او غير ذلك. ولو انه تم طرح مثل هذه الروايات لبطلت كتب التوثيق ومثله كتب الفرق والمقالات التي اعتمدت عليها، بل لبطلت كذلك الكثير من الكتب التي اعتمد عليها العلماء بعد الغيبة، كالذي اشار اليه الطوسي من ان الكثير من اصحاب الاصول هم من المذاهب الفاسدة وان كانت كتبهم معتمدة، وهو بدوره سيفضي الى ابطال الكثير من الروايات، بل لاصبح من غير الممكن الاعتماد والتعويل على شيء من النقل والروايات لكثرة الرواة المعدين ضمن تلك الفرق المنحرفة. اما النقل الخاص بعدد الائمة وتشخيصهم فهو ما جاء في الروايات المنقولة عن الائمة، ودوافع الكذب فيها بادية، حيث ان من مصلحة المنتسبين الى المذهب اظهار هذه القضية دون غبش، والا لم يعد هناك مجال للاخذ بالمذهب، كذلك فان الروايات التي وصلتنا لا تعد بشيء، فهي من الاحاد، وانه اذا جاز ترك الاحاديث الكثيرة المنافية لاصول العقيدة كروايات التحريف وما اليها، فان من الاولى ترك هذه الاحاديث القليلة التي تتعارض مع معطيات الافتراض الاول، خاصة وان هذا الافتراض يعد دراية لو ازلناه لزال كل شيء يتعلق بالتوثيق والرواية في المذهب كما عرفنا.
***
ما نستنتجه بحسب الدلالات الثلاث السابقة هو ان الائمة لم ينص عليهم بنص مخصوص والا لما خفي ذلك على المقربين والاجلاء من اصحابهم، ولما اختلفوا اشد الخلاف، وكذا لما ادعى الكثير منهم المهدية، والله تعالى يقول: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)) (النساء/82).
فالائمة انفسهم كانوا لا يعلمون - سلفاً - من الذي يتلوهم في وجوب الطاعة، والا لعرّفوهم للاصحاب من غير خلاف.
ولا يقال ان جهل الكثير من الاصحاب لأشخاص الائمة سببه ضغط الظرف السياسي. وذلك باعتبار ان هذا الافتراض يجرنا الى اشكال اعمق، وهو اذا كان المقربون لا يعرفون اشخاص الائمة على التحديد بسبب ذلك الظرف، فكيف تسنى لنا معرفة ما لم يعرفوا، ونحن انما تلقينا علمنا من خلالهم؟!
هكذا فبحسب المعطيات السابقة ووفق الدلالات التي ذكرناها يكون تصور الامامة بحسب الصورة التي رآها المتقدمون من القميين هي اقرب من تلك التي رآها غيرهم ممن وصفوهم بالارتفاع والغلو. واذا كان من الصحيح ما قيل من ان التصور الذي بناه القميون كان يصدق على اغلب الرواة في عصر الائمة، كالذي يشير اليه الشهيد الثاني كما اسلفنا، فاذا كان هذا صحيحاً فان الامر اقد انقلب فيما بعد واصبح معكوساً، حيث غلبت على المتأخرين الرؤية الاخرى وصارت من المقدسات التي يصعب مخالفتها حتى يومنا هذا.
لكن الامر لا يتوقف عند هذا الحد، فهناك العديد من الاستنتاجات يمكن طرحها بصدد الامامة كالاتي:
اولاً: من الناحية العلمية ان الاستناد الى المعطيات السابقة وما استتبعناه من دلالات، كل ذلك يقرب فكرة كون الامامة ذات طبيعة كسبية غير منزلة ولا الهامية، والرجوع الى القرآن الكريم يؤكد هذا النحو من التصور كما سيأتينا بيانه. وهي بهذا لا تتضمن العصمة، بل كمال العلم والدين والتقوى. وهي اقرب ما تكون الى التصور الحالي عن المرجعية وصفاتها الخاصة في الايمان والعدالة والاعلمية. مع اخذ اعتبار ان المرجعية قائمة على الاجتهاد المفضي الى الظن في الغالب، وان المهمة التي تضطلع بها هي استنباط الاحكام الشرعية بحسب الوسع والقدرة ومن ثم العمل بها او تبليغها، في حين تتقوم الامامة بالعلم والحكمة تبعاً للوظيفة التي تؤديها وهي الهداية، مما لا علاقة له بالفقه حسب الاصطلاح المتعارف عليه. كذلك ان المرجعية تفترض ان يكون هناك طرف اخر تحقق فيه الهدف المطلوب، وهو التقليد وما على شاكلته، فيكون لدينا طرفان في هذه العلاقة هما المرجع والمقلد. بينما تفترض الامامة مفهوم الاقتداء كطرف اخر تحقق من خلاله الهدف المنشود، فالامام من الناحية اللغوية هو الذي يقتدى به[45]، والاقتداء يفيد التأسي كما يفيد الاحتذاء[46]، وهو معنى الاتباع، حيث الاتباع في اللغة هو الولاء[47] .
والرابط بين الامامة والاتباع هو الهداية، حيث تشكل هذه الاخيرة بالنسبة الى الاولى الوظيفة التي تتحقق من خلالها الغاية من الاتباع والتأسي. فهي وظيفة للامامة كما يظهر من قوله تعالى: ((وجعلناهم ائمة يهدون بأمرنا واوحينا اليهم فعل الخيرات)) (الأنبياء/73). كما انها غاية للاتباع مثلما جاء في قوله تعالى: ((فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأميّ الّذي يؤمن بالله وكلماته واتّبعوه لعلّكم تهتدون)) (الأعراف/158)، وقوله: ((يا أبت إنّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتّبعني أهدك صراطاً سويّاً)) (مريم/43).
وبهذا يتيسر فهم كون الامام اولى بالتابعين من انفسهم، وذلك بما من شأنه تحقيق الهدف المطلوب من الهداية والاصلاح. ففضيلة التابعين تتجلى بالاقتداء والتأسي بإمامهم: (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)) (الأحزاب/21)، فعند ذاك يتحقق الولاء والمولوية، حيث الاتباع هو الولاء كما اسلفنا. وقد يكون للحديث: ‹‹من كنت مولاه فعلي مولاه›› هذا المعنى[48]. فلعلي عليه السلام الولاية والامامة، وهو اولى بالاخرين من انفسهم، واهل البيت لهم مثل هذه الولاية بالتبعية. لكنها بالمعنى المتقدم غير محددة باشخاص معينين، وقد يدل عليه قوله تعالى: ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزّكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنّ الله عزيز حكيم)) (التوبة/71)، وان النبي اولى بهم من انفسهم، فهي بذلك درجات ومقامات: (كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته)، فمنها ولاية النبي، وولاية علي، وولاية المؤمنين، وولاية اولى الارحام، كالذي يشير اليه قوله تعالى: ((النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً كان ذلك في الكتاب مسطوراً)) (الأحزاب/6).
ولا اظن ان هناك اشارة قرآنية اقوى دلالة على المعنى العمومي والكسبي للامامة من النص القائل: ((وعباد الرحمن الّذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً... والّذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرّيّاتنا قرّة أعين واجعلنا للمتّقين إماماً)) (الفرقان/63و74). فلقوة هذا المعنى قام المحرفون بتحريف النص كما ورد في تفسير القمي، ناسبين ذلك الى الامام الصادق، حيث قال حسب الرواية: لقد سألوا الله عظيماً ان يجعلهم للمتقين اماماً.. انما نزلت (الذين يقولون ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة اعين واجعل لنا من المتقين اماماً) كالذي سبق عرضه. ومثله النص الذي يقول: ((وجعلنا منهم أئمّةً يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)) (السجدة/24)، حيث المعنى الكسبي للامامة ظاهر في هذه الاية كسابقتها.
ثانياً: ليس مفهوم الطاعة كمفهوم الاتباع في مضايفته للامامة، ذلك ان الطاعة عبارة عن الانقياد لما يقوله الآمر من الامر والنهي، وهي تقع رغبة او رهبة[49]، وبهذا تصلح للمعنيين السياسي والديني من حيث انها تؤدي فعل الانقياد والاذعان، لكنها خلاف الاتباع الذي يفيد الولاء والتأسي والاقتداء. فالفارق بينهما هو ان الاتباع لا يتحقق رهبة والا تحول الى الطاعة والانقياد. ومع ان الطاعة واردة في الشأن الديني، مثلها في ذلك مثل الاتباع، لكنها ليست بدرجته، فالاتباع اقرب الى الدين من الطاعة، مثلما ان هذه الاخيرة اقرب الى السياسة من الاول.
والذي يسرد الايات الخاصة بالاتباع، وايات الامامة، كلفظة امام وائمة، وكذا ايات الولاية كلفظة ولاية وولي واولياء، لا يجد فيها دلالة صريحة على المعنى السياسي. وحتى لفظة (اولي الامر) فان لها دلالة واسعة تخص الامور العامة، وكذا انها غير محددة بأشخاص معينين بقرينة ما اقترن معها من كلمة (منكم او منهم)، مثلما جاء في قوله تعالى: (( يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)) (النساء/59) وقوله: ((وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتّبعتم الشّيطان إلاّ قليلاً)) (النساء/83).
وعليه فان ما اورده العلماء - شيعة وسنة - من تعاريف للامامة لا علاقة له بما جاء في القرآن الكريم، حيث ان كلا الفريقين ربط المعنى بالرياسة في امور الدنيا او السياسة، فبعض التعاريف اضفى عليها البعدين الديني والدنيوي - السياسي - كالذي قاله علماء الشيعة، مثل قول الطوسي بأنها ‹‹رياسة عامة لشخص من الأشخاص في أمور الدين والدنيا››[50]، كما ان بعضها الاخر جعل الامامة مختصة في الرياسة للامور الدنيوية لا الدينية[51]. وقد جاء في تعريف الماوردي أنها ‹‹موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا››[52]، وهو مفهوم شائع لدى علماء اهل السنة، وقد عول عليه الشهرستاني في قوله الشهير: ‹‹ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان››[53].
فالامامة بهذا المعنى لها دلالة على الملك، والبعض اعتبر الملك توأماً للدين، كالذي اشار اليه الغزالي بقوله: ‹‹الملك والدين توأمان، فالدين اصل والسلطان حارس، وما لا اصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع››[54].
وقد اتفق العلماء على وجوب الامامة بالمعنى المتقدم، فبعضهم توقف عند حدود الوجوب الشرعي كما هو حال جمهور الأشاعرة وأكثر المعتزلة، وبعض اخر اضاف اليه الوجوب العقلي على الامة، كما هو حال جماعة من المعتزلة، مثل الجاحظ والكعبي وابي الحسين البصري، وبعض ثالث قال بوجوبها العقلي على الله، كما هو حال الامامية الاثنى عشرية[55]، حيث أرتبطت هذه الفكرة عندهم بنظرية اللطف والعصمة، أي أن لها مصدراً إلهياً حالها كحال النبوة على حد سواء. فهي لطف عقلي واجب على الله لأن بها تتم عملية توجيه الناس دينياً واجتماعياً وسياسياً[56]، كما أنها مشروطة بالعصمة احترازاً من أن يكون هناك خلل في الغرض المشار اليه.
ومن حيث التحقيق ان الامامة ليست من صلب الدين وضروراته اذا ما اخذت بالمعنى السياسي الانف الذكر كما يتحدث عنها الناس. فهذا المعنى تخالفه الكثير من القرائن والشهادات، وذلك بخلاف ما لو اخذت بالمعنى الديني المشار اليه سلفاً[57]. فنحن نعلم ان الانبياء لم يطلب منهم ان يكونوا قادة سياسيين، مثلما طلب منهم التبليغ بدواعي النبوة والرسالة. او هم غير مكلفين بهذا الامر ما لم يبايعهم الناس، خاصة ان بعض الانبياء والرسل لم يتولوا هذه المهمة ولم يطلبوها. ومن الشواهد على ذلك ان موسى وهارون (ع) لم يذهبا الى فرعون للانقلاب عليه وابدال منصبه بمنصبهما، بل ذهبا اليه لاجل الاصلاح فحسب، كالذي يكشف عنه قوله تعالى: ((إذهب انت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري. إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)) (طه/42ـ43). وكذا الحال فيما إرتضاه يوسف (ع) من عمل تحت امرة وزعامة أحد ملوك مصر، مع انه نبي مبعوث من قبل الله تعالى، فقال جلّ وعلا: ((وقال الملك أئتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)) (يوسف/54ـ56). كما من الانبياء من طلب منه الناس ان يولّي عليهم ملكاً يرأسهم، وقد تحقق هذا الطلب، كالذي حصل في زمن نبي الله داود، كما جاء في قوله تعالى: ((ألم تر الى الملأ من بني اسرائيل من بعد موسى اذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله.. وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكاً)) (البقرة/246ـ247). ويخمن بعض العلماء ان هذا النبي الذي لم يسمّه القرآن هو صموئيل[58]. وابلغ من ذلك دلالة ما جاء في قوله تعالى من الفصل بين النبوة والملك او الرئاسة والسياسة: ((اذكروا نعمة الله عليكم اذ جعل فيكم انبياء وجعلكم ملوكاً)) (المائدة/20).
وفي الاسلام لم ترد نصوص دينية تبين كيفية النظام السياسي، فمثلاً لا يوجد هناك ما ينص على آليات التنصيب ولوائح الدستور العام وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكذا صلاحيات الحاكم وشروط استمراريته في الحكم. فنحن نعلم - مثلاً - بأن عملية التنصيب التي جرت مع الخلفاء الراشدين بعضها يختلف عن البعض الآخر، فما جرى من تنصيب للخليفة الأول يختلف عما جرى مع الخليفة الثاني، وهما غير ما حدث مع الثالث، وكذا ان ما جرى مع الثلاثة مختلف عما جرى مع الرابع. ولم تكن جميع صور التنصيب السابقة قائمة على مبدأ الشورى، كما ان الأخيرة التي حدثت بفعل قرار الخليفة الثاني لم تكن بين جميع المؤمنين ولا جميع أهل الحل والعقد، وكذا يقال بخصوص البيعة حيث لم تحدث على وتيرة واحدة، وبالتالي لا توجد هناك آليات ثابتة ومفصلة للتنصيب. والحال ذاته ينطبق على ما يتعلق بطبيعة العلاقة التي تحكم الحاكم بالمحكوم، ونعلم كم الفارق بين الطريقة التي سار عليها الخليفتان الأول والثاني، وبين ما أحدثه الخليفة الثالث من تغيير[59].
اما بخصوص فكرة الشيعة عن الخلافة فمن الواضح انه رغم ما ظهر من نزاع بين الصحابة بعد النبي حول الخلافة الا انه لم يرد عنهم اي ذكر للوصية والنص عليها[60]، ولا يعقل أن المهاجرين والأنصار تجاهلوها باجماع، خصوصاً وإن خسارة الأنصار أمام المهاجرين يوم السقيفة يجعلهم في أمس الحاجة لتوظيف مثل هذا السلاح إن كان موجوداً، وبحسب بعض الروايات انهم بعد خسارتهم تشبثوا بالقول: (لا نبايع إلا علياً)[61]. كما ان الامام علياً هو الآخر لم يحتج بالنص على حقه في الخلافة، بل روي انه احتج على حقه تبعاً لاعتبارات فضله في الاسلام ومكانته من النبي، وفي بعض المناسبات روي انه كان يذكر مناقبه ويعددها في مناشداته لغيره، ويذكر من بينها قول النبي فيه ‹‹من كنت مولاه فعلي مولاه›› دون ان يراد به المعنى الخاص بالخلافة كما هو واضح من سياق تلك الروايات والردود التي ترد من المقرين بالحديث من الصحابة، ومن ذلك ما روي يوم الشورى قبيل وفاة عمر، وايام عثمان، ويوم الرحبة في الكوفة[62]. وايضاً فأن تنازله عن حقه في الخلافة ومبايعته لغيره وقبوله أن يرضى كواحد من أعضاء الشورى المرشحين للخلافة بعد عمر بن الخطاب من غير اعتراض يتعلق بالنص - سوى ما كان يذكّر به من مناقبه - رغم ما الت اليه النتيجة من عدم اختياره للحكم، كل ذلك يجعل أمر الوصية في الخلافة مستبعداً. هذا بالاضافة الى الروايات التي دلت على ما أبداه من مرونة فائقة عند الحاح الناس عليه بالبيعة بعد مقتل عثمان، حيث فضّل ان يكون لهم وزيراً من أن يكون عليهم أميراً، وكما جاء في (نهج البلاغة) قوله: ‹‹دعوني والتمسوا غيري .. واعلموا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اصغ الى قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فانا كأحدكم، ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن وليتموه امركم، وانا لكم وزير خير لكم مني أميراً››[63]. لكنه مع ذلك اذعن للإلحاح واستجاب إلى رغبة الناس، فكما روي في (نهج البلاغة) انه قال: ‹‹فاقبلتم اليّ اقبال العوذ المطافيل على أولادها، تقولون : البيعة البيعة ! قبضت كفي فبسطتموها، ونازعتكم يدي فجاذبتموها ..››[64]. وقال ايضاً: ‹‹والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية اربة، ولكنكم دعوتموني اليها وحملتموني عليها››[65].
ولا شك ان المرونة التي ابداها الامام لا تتسق مع مبدأ التعيين والوصية. وينطبق هذا الامر على ما حدث لولده الحسن الزكي حين صالح معاوية وتنازل له عن أمر الخلافة. بل ان علياًً في بعض ما روي عنه لا يضفي على الخلافة التحديد اللاهوتي ولا الشخصي، بل رأى ان لها شروطاً اسلامية عامة، وكما جاء في النهج قوله: ‹‹قد علمتم انه لا ينبغي ان يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل.. ولا الجاهل .. ولا الجافي .. ولا الحائف للدول.. ولا مرتشي في الحكم .. ولا المعطل للسنة ..››[66]. وكذا قوله عليه السلام في رسالة له الى معاوية: ‹‹انه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار ولا للغائب ان يرد، وانما الشورى للمهاجرين والأنصار، فأن اجتمعوا على رجل وسموه اماماً كان ذلك لله رضى ... ››[67].
وهناك امارات أخرى تتسق مع ما ذكرنا، مثل عدم وجود دلالة صريحة في القرآن الكريم تتعلق بأمر الخلافة وما على هذه الشاكلة من الزعامة الالهية. إذ لو كان حالها بالغ الأهمية من حيث التعيين كالنبوة لكانت بينة مثلها، أو على الأقل لكانت لا تقل ظهوراً عن ضرورات الدين من الصلاة والصوم والحج .. وأيضاً فان فرض التعيين وإبلاغ الحجة على المسلمين، ومن ثم تجاهلهم له على ما هو عليه من عظيم الأمر يفضي بهم إلى الكفر او النفاق كما يقول الاخباريون وغيرهم، وهو امر غير معقول، لتضاربه مع نصوص القرآن الكريم في الكثير من المواضع.
هكذا فجميع الامارات السابقة لا تنفي الامامة بالمعنى السياسي فحسب، بل كذلك معناها اللاهوتي المضفى عليه صفة التعيين المنزل كرديف للنبوة كما هو واضح.
[1] لاحظ التوثيق حسب ما جاء في: الشافي في شرح اصول الكافي، المجلد الثالث والرابع، كتاب الحجة.
[2] علماً ان الاخباريين وبعض الاصوليين ذهبوا الى ان علم الرجال لدى القدماء في عصر الائمة له اهمية تحسينية وتكميلية لا تمت الى الحاجة والضرورة بصلة. وكما ذكر الشيخ حسن العاملي من انه ربما كان لتكثير القرائن وتسهيل سبيل العلم بصدق الخبر (معالم الدين، ص351). واضاف الحر العاملي فوائد اخرى تحسينية كالترجيح عند التعارض وما اليه (وسائل الشيعة، ج20، ص112).
[3] ذهب بعض المتأخرين الى استبعاد عدم عرض الكليني كتابه على السفراء الاربعة وابلاغهم به مع طول مدة تأليفه - وهي عشرون سنة - وانه كان بينهم مخالطة وعشرة تقتضي عرض الكتاب عليهم حسب العادة. خصوصاً ان اجوبة كانت تصدر عن طريق هؤلاء حول بعض القضايا الشخصية رغم ضآلة اهميتها مقارنة مع ما قدمه الكليني من مشروع لخدمة الطائفة عبر الاجيال. كذلك كانت تعرض بعض الكتب عليهم فيأتي الرد بالقبول او الطعن، فكيف يعقل ان يهمل كتاب الكليني وهو بالاهمية المشار اليها (خاتمة المستدرك، ج3، ص470 وما بعدها).
[4] من ذلك عرض كتاب التكليف لمحمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر على السفير الحسين بن روح ليعطي فيه رأيه، فقرأه من أوله إلى آخره، وقال: ما فيه شيء إلا وقد روي عن الائمة إلا موضعين أو ثلاثة، فإنه كذب عليهم في روايتها، لعنه الله. وفي حكاية اخرى قيل انه سئل السفير الحسين بن روح عن كتب ابن أبي العزاقر بعد ما ذُمّ وخرجت فيه اللعنة، فقيل له: وكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء؟ فقال: أقول فيها ما قاله الامام العسكري وقد سئل عن كتب بني فضال: ‹‹خذوا بما رووا وذروا ما رأوا›› (الغيبة، ص409 و389ـ390). والحكايتان المذكورتان تشيران الى رأي السفير ابن روح وليس الى قول الامام المهدي!.
[5] معجم رجال الحديث، ج19، ص9 و59
[6] الفهرست، ص20
[7] ذكر ان للصفار مسائل كتب بها الى الامام العسكري (الفهرست للطوسي، ص144) لكنها ليست بشيء مقارنة مع كتابه بصائر الدرجات الذي رواه عن الائمة المتقدمين عبر العنعنة والوسائط.
[8] لاحظ بهذا الخصوص دراستنا: العصمة وكتاب الالفين والمنهج الاستقرائي، مجلة الموسم، العدد المزدوج 23ـ24، 1416هـ ـ1995م.
[9] لاحظ حول ذلك الفصل الخامس من كتابنا: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية، دار الهادي، بيروت، الطبعة الاولى، 1985م. او دراستنا: حقيقة النبوة في الفكر الفلسفي العرفاني، مجلة المنهاج، العدد 33، 2004م.
[10] الوحيد البهبهاني: الفوائد الرجالية، ص38، كذلك: عدة الرجال، ج1، ص155
[11] المفيد: تصحيح الاعتقاد، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، عدد (5) ص135ـ136
[12] المفيد: المسائل السروية، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (7) ص75
[13] بحر العلوم: الفوائد الرجالية، ج3، ص220
[14] فكما ذكر النجاشي ان هبة الله بن احمد بن محمد الكاتب عمل كتاباً ذكر فيه ان الائمة ثلاثة عشر، حيث اضاف الى ذلك زيد بن زين العابدين، واحتج بحديث في كتاب سليم بن قيس الهلالي ان الائمة اثنا عشر من ولد امير المؤمنين (رجال النجاشي، ص440).
[15] المفيد: الفصول المختارة، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص305ـ306
[16] الفصول المختارة، ص313ـ317
[17] الفصول المختارة، ص318ـ321
[18] روى النوبختي في (فرق الشيعة) ان عبد الله بن الامام الصادق جلس مجلس أبيه وادعى الامامة ووصية ابيه، وان اتباعه رووا عن الامام الصادق انه قال: الامامة في الاكبر من ولد الامام، وهذا ما جعل غالبية الفقهاء والمشايخ من الامامية في ذلك الزمان يميلون الى عبد الله، لكن لما مات عبد الله ولم يخلف ذكراً رجع عامة الفطحية عن القول بامامته - سوى قليل منهم - الى القول بامامة موسى بن جعفر (عن: خاتمة المستدرك، ج5، ص15ـ16).
[19] الغيبة، مصدر سابق، ص71
[20] اختيار معرفة الرجال، فقرة 1061ـ1062، ص835.
[21] الاصول من الكافي، ج1، باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم، حديث 2، وقد عاش البرقي بعد وفاة العسكري أربعة عشر سنة، وقيل: عشرين (خاتمة مستدرك الوسائل، ج4، ص45)
[22] ورأى عدد من العلماء ان الحوار المذكور يدل على ان البرقي لم يكن موثوقاً لدى محمد بن يحيى.
[23] انظر حول ذلك: خاتمة مستدرك الوسائل، ج4، ص43 وما بعدها.
[24] وكما قال المحقق النوري: المراد بالحيرة زمن الغيبة، هي السنة التي مات فيها العسكري (ع) وتحيرت الشيعة، ومن طالع الكتب التي صنفت في الغيبة، علم أن إطلاق لفظ الحيرة على مثل ما قلناه شائع في كلامهم (خاتمة مستدرك الوسائل، ج4، ص44).
[25] انظر: بصائر الدرجات، باب في الائمة انهم عليهم السلام محدثون مفهمون، الحديث الثاني والرابع والخامس.
[26] ينص الحديث كالاتي: قال الامام ابو جعفر الثاني (الجواد): أقبل أمير المؤمنين ومعه الحسن بن علي وهو متّكئ على يد سلمان فدخل المسجد الحرام فجلس إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللّباس فسلّم على أمير المؤمنين فردّ عليه السلام فجلس ثم قال: يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل إن أخبرتني بهنّ علمت أنّ القوم ركبوا من أمرك ما قضي عليهم وأنهم ليسوا بمأمونين في دنياهم وآخرتهم وإن تكن الأخرى علمت أنّك وهم شرع سواء. فقال له أمير المؤمنين: سلني عمّا بدا لك. قال: أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه وعن الرجل كيف يذكر وينسى وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال؟ فالتفت أمير المؤمنين إلى الحسن فقال: يا أبا محمد أجبه. فأجابه الحسن فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله ولم أزل أشهد بها وأشهد أنّ محمداً رسول الله ولم أزل أشهد بذلك وأشهد أنّك وصيّ رسول الله والقائم بحجّته - وأشار إلى أمير المؤمنين - ولم أزل أشهد بها وأشهد أنّك وصيّه والقائم بحجّته وأشار إلى الحسن وأشهد أنّ الحسين بن علي وصيّ أخيه والقائم بحجّته بعده وأشهد على علي بن الحسين أنّه القائم بأمر الحسين بعده وأشهد على محمد بن علي أنّه القائم بأمر علي بن الحسين وأشهد على جعفر بن محمد بأنّه القائم بأمر محّد وأشهد على موسى أنّه القائم بأمر جعفر بن محمد وأشهد على علي بن موسى أنّه القائم بأمر موسى بن جعفر وأشهد على محمد بن علي أنّه القائم بأمر علي بن موسى وأشهد على علي بن محمد بأنّه القائم بأمر محمد بن علي وأشهد على الحسن بن علي بأنّه القائم بأمر علي بن محمد وأشهد على رجل من ولد الحسن لا يكنّى ولا يسمّى حتّى يظهر أمره فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. ثمّ قام فمضى فقال أمير المؤمنين: يا أبا محمد اتبعه فانظر أين يقصد؟ فخرج الحسن بن علي فقال: ما كان إلا أن وضع رجله خارجاً من المسجد فما دريت أين أخذ من أرض الله فرجعت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال: يا أبا محمد أتعرفه؟ قلت الله ورسوله وأمير المؤمنين أعلم. قال هو الخضر (الاصول من الكافي، ج1، باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم، حديث 1).
[27] لاحظ حول ذلك: الشافي في شرح اصول الكافي، ج4، ص688ـ702
[28] روي الحديث كالاتي: علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن سعيد بن غزوان عن أبي بصير عن أبي جعفر (الباقر) قال: يكون تسعة أئمّة بعد الحسين بن علي تاسعهم قائمهم ( الاصول من الكافي، ج1، باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم، حديث 15).
[29] الصدوق: الخصال، صححه وعلق عليه علي اكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص462 وما بعدها.
[30] انظر: ابن عياش الجوهري: مقتضب الاثر في النص على الائمة الاثني عشر، خرّج أحاديثه وقدم له لطف الله الصافي، تعليق وتصحيح هاشم الرسولي، نشر مكتبة الطباطبائي، قم، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية.
[31] لاحظ: الخزاز القمي: كفاية الاثر في النص على الائمة الاثني عشر، تحقيق عبد اللطيف الحسيني الخوئي، انتشارات بيدار، مطبعة الخيام، قم، 1401هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية.
[32] رجال النجاشي، ص268
[33] الفهرست، ص100
[34] رجال الطوسي، فقرة 6172، ص430
[35] خلاصة الرجال، ص180 و188
[36] معالم العلماء، ص106
[37] وسائل الشيعة، ج30، الفائدة الثانية، الطريق الواحد والعشرون.
[38] قال السيد محسن الامين العاملي في كتابه (معادن الجواهر ونزهة الخواطر في علوم الاوائل والاواخر) : عثرنا في بعض مكتبات جبل عامل القديمة على كتاب مخطوط قديم جداً من بقايا ما أخطأته أيدي الحوادث والفتن.. وهذا الكتاب من أنفس المخطوطات وعليه اجازات وخطوط قديمة لمشاهير العلماء بعضها قبل سبعة قرون ونصف وبعضها أقل من ذلك وهو كتاب (كفاية الاثر). ثم انه نقل عن العلامة البهبهاني في تعليقاته على رجال الميرزا الكبير الذي قال: رأيت كتاب الكفاية كتاباً مبسوطاً جيداً في غاية الجودة جميعه نصوص عن الرسول(ص) وعن غيره أيضاً في الائمة الاثني عشر (كفاية الاثر، نقلاً عن مقدمة المحقق، ص11).
[39] المصدر السابق، ص12
[40] قال محقق الكتاب: رجعنا في تحقيق هذا الكتاب الى: 1 - نسخة قيمة قديمة مصححة كتبها مؤمن بن عبد الجواد الكاظمي وفرغ منها يوم الاثنين غرة شهر شعبان المعظم سنة ست وثمانين بعد الالف، وقد جعلناها أصلاً. 2 - نسخة أخرى مصححة استكتبها العلامة حسين النوري الطبرسي صاحب المستدرك، صححها وكتب في الصفحة الاولى بيده الشريفة: ‹‹مما استكتبته لنفسي في الدنيا الفانية ذخيرة لرمسي في الربوع الخاوية...››. وفي آخر الكتاب: ‹‹استكتبته ثم قوبلته مع نسخة لا تخلو من سقم نفعنا الله وجميع المؤمنين به بمحمد وآله الطاهرين، وانا الجاني المسيء حسين بن محمد تقي الطبرسي في ليلة الجمعة لثمان بقيت من جمادي الاولى سنة 1280››. وتاريخ الفراغ من الكتابة أيضا في هذه السنة، ولم يكتب الكاتب اسمه. ولا يخفى أن اليد الخائنة عملت في تاريخ الكتاب في المقامات الثلاث وجعلته 1180 وغفل عن عصر المستكتب النوري طاب رمسه وزعم أن تكثير التاريخ يجلب المنفعة الكثيرة وهو النافع (كفاية الاثر، مقدمة المحقق، ص18ـ19).
[41] كفاية الاثر، مقدمة المحقق، ص8
[42] الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة، صححه وعلق عليه علي اكبر الغفاري، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، 1405هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص75، وقد روى الكشي هذه الحادثة عن علي بن يقطين انه قال: لما كانت وفاة الامام الصادق قال الناس بعبد الله بن جعفر، وبعضهم قال بأبي الحسن الكاظم، فدعا زرارة ابنه عبيداً فقال: يا بني الناس مختلفون في هذا الامر: فمن قائل بعبد الله فانما ذهب إلى الخبر الذي جاء ان الامامة في الكبير من ولد الامام، فشد راحلتك وامض إلى المدينة حتى تأتيني بصحة الامر، فشد راحلته ومضى إلى المدينة. واعتل زرارة فلما حضرته الوفاة سأل عن عبيد، فقيل انه لم يقدم، فدعا بالمصحف فقال: اللهم اني مصدق بما جاء نبيك محمد فيما أنزلته عليه وبينته لنا على لسانه، وأني مصدق بما انزلته عليه في هذا الجامع، وان عقيدتي وديني الذي يأتيني به عبيد ابني وما بينته في كتابك، فان أمتني قبل هذا فهذه شهادتي على نفسي واقراري بما يأتي به عبيد ابني وانت الشهيد عليّ بذلك. فمات زرارة (اختيار معرفة الرجال، فقرة 251، ص371).
[43] محمد صالح المازندراني: شرح اصول الكافي، تعاليق الميرزا أبو الحسن الشعراني، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج7، ص361، نقل بهذا الصدد عن هشام بن سالم انه قال: كنا بالمدينة - بعد وفاة الامام الصادق - انا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون على عبد الله بن جعفر - الأفطح - انه صاحب الأمر بعد ابيه، ثم لقينا الفضيل وابا بصير، فدخلا على موسى بن جعفر وسمعا كلامه وسألاه، وقطعا عليه بالامامة، ثم لقينا الناس افواجاً فكل من دخل عليه قطع إلا طائفة عمار واصحابه، وبقي عبد الله - الأفطح- لا يدخل عليه إلا قليل من الناس (اختيار معرفة الرجال، فقرة 502، ص565ـ566، كذلك: الاصول من الكافي، ج1، باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في امر الامامة، حديث 7، وبحر العلوم: الفوائد الرجالية، ج1، ص396).
[44] معرفة الحديث، ص109
[45] محمد بن ابي بكر الرازي: مختار الصحاح، ضبطه وصححه احمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1415هـ ـ1994م، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص21، ومعجم الفروق اللغوية، الحاوي لكتاب ابي هلال العسكري وجزءاً من كتاب نور الدين الجزائري، تحقيق مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الاولى، 1412هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص222
[46] مختار الصحاح، ص17 و271 و75
[47] مختار الصحاح، ص47
[48] ذكرنا هذا الحديث بالخصوص للاتفاق على صحته ولكثرة طرق تخريجه، وإن بالفاظ مختلفة، لكنها ليست باقل مما ذكر، حيث ورد في الكثير من الطرق الفاظ اخرى مضافة مثل: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وجاء في طرق الحديث ان احمد بن حنبل رواه من أربعين طريقاً، وابن جرير الطبري من نيف وسبعين طريقاً، والجزري المقري من ثمانين طريقاً، وابن عقدة من مائة وخمس طرق، وأبا سعيد السجستاني من مائة وعشرين طريقاً، وأبا بكر الجعابي من مائة وخمس وعشرين طريقاً، وفي تعليق هداية العقول عن الأمير محمد اليمني إن له مائة وخمسين طريقاً. ونقل الاميني من المصادر السنية روايات هذا الحديث وهي مسندة عن مائة وعشرة صحابي، واكثر من ثمانين تابعي، وعرف عن ابن عقدة الزيدي انه قد استوفى طرق هذا الحديث (عبد الحسين أحمد الأميني: الغدير في الكتاب والسنة والأدب، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1397هـ ـ1977م، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج1، ص14 و60).
[49] معجم الفروق اللغوية، ص47 و335
[50] الرسائل العشر، ص301
[51] علماً ان مشتقات لفظ الامامة التي وردت في القرآن هي اثنا عشر مورداً، إما بلفظ إمام او أئمة، وفي جميع الموارد المذكورة لا توجد اشارة صريحة دالة على المعنى السياسي. فبعضها يشير الى معنى الكتاب، مثل قوله تعالى: ((إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين )) (يس/12) وقوله: ((يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلاً)) (الإسراء/71) وبعض اخر له معنى الطريق، وهو قوله تعالى: ((فانتقمنا منهم وإنّهما لبإمام مبين)) (الحجر/79) وبعض ثالث له معنى صريح بالهداية والاضلال، بما فيه الهداية والاضلال الى الجنة والنار، وهو الغالب في الموارد، كما في قوله تعالى: ((وجعلنا منهم أئمّةً يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)) (السجدة/24) وقوله تعالى: ((وجعلناهم أئمّةً يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات)) (الأنبياء/73) وقوله: ((أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة)) (هود/17) ومثله في سورة (الأحقاف/12) وقوله: ((فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون)) (التوبة/12) وقوله: ((وجعلناهم أئمّةً يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون)) (القصص/41) وبعض رابع ليس له دلالة صريحة على القضايا الدينية او السياسية، بل له صفة العموم، وان كان باعتبارات خارجية وسياقية له دلالة على المعنى الديني، مثل قوله تعالى: ((وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للنّاس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين)) (البقرة/124) وقوله: ((والّذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرّيّاتنا قرّة أعين واجعلنا للمتّقين إماماً)) (الفرقان/74) وقوله: ((ونريد أن نّمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً ونجعلهم الوارثين)) (القصص/5).
[52] الماوردي: الاحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1405هـ ـ1985م، ص3
[53] عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتعريف حسين جمعة، الطبعة الاولى، دار دانية للنشر، 1990م، ص6
[54] الغزالي: احياء علوم الدين، دار احياء التراث العربي، بيروت، ج1، ص17
[55] انظر حول ذلك المصادر التالية : فخر الدين الرازي: الأربعين في أصول الدين، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، بلدة حيدر آباد الدكن، الهند، ص426ـ427، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، الطبعة الاولى، 1404هـ ـ 1984م، ص351، ونصير الدين الطوسي: تلخيص المحصل، انتشارات مؤسسة مطالعات اسلامي، ص406، وعبد الجبار الهمداني: المغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق أبي العلا عفيفي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ج20، ص17 و41، ومقداد السيوري الحلي: ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405هـ، ص326 و328.
[56] ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين، ص328ـ329، علماً ان هذا الربط للامامة بنظرية اللطف اثار اشكالية حول معنى اللطف الخاص بغيبة الامام المهدي، فبحسب الظاهر ان اللطف معدوم خلال الغيبة، لذلك انبرى بعض المنظرين من قدماء الشيعة ليجيب على هذه الاشكالية ولو بجواب واضح الضعف وعدم الافادة مع اضطراب العبارة وردائتها لغوياً، حيث يقول: ‹‹اذا قالوا: ان نصب الامام اذا كان لطفاً للمكلفين في فعل الواجبات وتجنب المقبحات، فان استتاره وغيبته ينقضان هذا البناء ويبطلان هذا الغرض. قلنا لهم : لا يمتنع ان يقع هذا اللطف مع غيبته في هذا الباب أقوى، لأن الملك اذا لم يعلم مكانه يقف موضعه ويجوز فيمن لا عرفه ان الامام يكون الى ان لا يفعل القبيح ولا يقصر في فعل الواجب اقرب منه لو عرفه، ولا يجوز فيه كونه إماماً›› (مجموعة رسائل الشريف المرتضى، ج3، ص145).
[57] جاء في بعض الروايات عن الامام الكاظم انه نفى ان يكون ولاء الخلائق لاهل البيت هو ولاء ملك، بل انه ولاء دين، ففي جوابه لهارون الرشيد قال: ‹‹نحن ندعي ان ولاء جميع الخلائق لنا نعني ولاء الدين، وهؤلاء الجهال يظنون ولاء الملك، حملوا دعواهم على ذلك، ونحن ندعي ذلك لقول النبي (ص) يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه، يعني بذلك ولاء الدين›› (رضي الدين بن طاوس: فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص109).
[58] محمد رشيد رضا: المنار في تفسير القرآن، دار الفكر، الطبعة الثانية، ج2، ص475.
[59] انظر بهذا الصدد دراستنا: الفكر الاسلامي والفهم المقصدي والتعبدي للدين، مجلة الحياة الطيبة، عدد 15، 2004م.
[60] هناك عدد من الروايات - في الكتب السنية - يستشهد بها علماء الشيعة حول رغبة النبي في تنصيب علي للخلافة، لكنه لم يأمر بذلك. فقد روي ان النبي (ص) قال: إن تؤمروا علياً ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم. وفي رواية اخرى قوله: إن تستخلفوه (علياً) ولن تفعلوا ذلك يسلك بكم الطريق وتجدوه هادياً مهدياً. كما ورد في رواية ثالثة عن عبد الله بن مسعود انه قال: كنت مع رسول الله (ص) وقد أصحر فتنفس الصعداء، فقلت: يا رسول الله ما لك تتنفس؟ قال: يا بن مسعود نعيت إلي نفسي، فقلت: يا رسول الله استخلف، قال: من؟ قلت: أبا بكر فسكت، ثم تنفس، فقلت ؟ ما لي أراك تتنفس؟ قال: نعيت إلي نفسي. فقلت: استخلف يا رسول الله، قال: من؟ قلت: عمر بن الخطاب، فسكت، ثم تنفس فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: نعيت إلي نفسي، فقلت: يا رسول استخلف، قال: من؟ قلت: علي بن أبي طالب، قال: أوه ولن تفعلوا إذاً أبداً، والله لئن فعلتموه ليدخلنكم الجنة (لاحظ كتاب الغدير، ج1، ص12ـ13).
[61] يراجع بهذا الصدد: محمد رضا المظفر: السقيفة، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص142
[62] لاحظ حول ذلك الجزء الاول من كتاب الغدير.
[63] صبحي الصالح: نهج البلاغة، منشورات دار الهجرة، قم، الطبعة الخامسة، 1412هـ، خطبة رقم 92
[64] المصدر السابق، خطبة رقم 137
[65] المصدر الساق، خطبة رقم 205
[66] خطبة رقم 131
[67] (نهج البلاغة، كتاب 6، بل حتى قوله في النهج (خطبة رقم 173): ‹‹ايها الناس ان احق الناس بهذا الأمر - الخلافة - أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه›› لا يحمل التعيين اللاهوتي.